صناعات دمشق
عُرفت دمشق في معظم عصورها بأنها مدينة صناعية، كما هي مدينة زراعية تجارية، ويرجع توفيقها في صناعاتها إلى وفرة المواد الأولية المستخرجة من أرضها، وإلى أن كل صنعة يتسلسل العمل بها في بيوت مخصوصة على الأغلب، فالصوف والقطن والكتان والقنب والحرير والوبر والمرعزي تنسج منه بَزها وديباجها وأطلسها وأعبئتها وأغطيتها، والحديد والفولاذ والنحاس تصنع منه نحاسها وآلتها وقربها، ومن أخشابها تصنع مقاعدها ومناضدها وأصونتها ومرافق بيوتها وقاعاتها، ومن تربتها تعمل زجاجها وآنيتها وقاشانيها وآجرها، وهكذا في كل ما تنبت الأرض، ويدفن في بطنها من المعادن، قال الإدريسي: ولكل بلد ومدينة خاصية تحتفظ بها في نوع من الصناعة، وأهم ما كان منها في مدينة دمشق.
كانت هذه المدينة في القرن الرابع الهجري جامعة لضروب من المحاسن وصنوف من الصناعات، وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمين العجيب الصنعة، يُحمَل منها إلى كل بلد، ومصانعها في كل ذلك عجيبة، وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النفيسة، ومحاسن جمة، فلا يعادلها جنس ولا يقاومها مثال، وقيل: إن اسم الدمقس مشتق من اسم مدينة دمشق، وأن الثياب التي يسمونها «داماسكو» وتُصنع برسوم في جسم الثوب معمولة غليظة تُنسَب إلى دمشق. وكان الغزل والنسيج مما يعانيه جمهور الناس في الحاضرة والضاحية حتى شُهِد لهم بالبراعة في ذلك، ولكل قرية ولكل مدينة اختصاص بصنع شيء تُعرَف به ويُعرَف بها، ويُنفق ما يحاك من ذلك في بلاد الشام، وما زاد يُصدَّر إلى الخارج.
قام في القرن الماضي والقرن الحالي أناس ممن يعانون صنع الثياب والنسيج من القطن والصوف والحرير، فوقفوا بما اخترعوا من الأنوال في وجه الثياب المصنوعة في الغرب، وعملوا «الديما» و«الألاجة» و«الشال»، وما برحت الصناعات الشامية على كثرة منافسة البضائع الأجنبية لها رائجة لمتانتها وجمالها، وثبات ألوانها، ورخص أسعارها، فإن ما يُعمل في دمشق وضاحيتها من الشال والأطلس والأعبئة والملاءات والسجوف والشفوف القطيفة المُخْمَل، ما هو زينة القصور وربات الخدور، ومن ذلك معامل كثيرة في هذه المدينة، وأنشئ فيها معملان لصنع الجوخ، لا تقل جودة مصنوعاتهما عما يُصنَع من نوعه في معالم الغرب، وتوفرت الأنوال لصنع البسط والطنافس، تروج مصنوعاتها لرخص أسعارها، وكانت صناعة زركشة القصب رائجة إلى القرن الأخير، وهي مما كانت دمشق تختص به.
وخُصَّت أيضًا بدبغ الجلد تعمل منه الأحذية والسروج والروايا والزكرات والصناديق وما شاكل ذلك، وهي جميلة ورخيصة، وأُسِّس مؤخرًا معمل عظيم لدبغها، أخذ يُخرِج الجلد الجيد الذي يُباع ويروج في الشرق والغرب.
واشتهرت دمشق بالنجارة منذ الزمن الأطول، وما زال أهلها يتفننون فيها ويماشون الزمن في نشوئها، ينجزون الأبواب والدرفات والنوافذ وأصونة الثياب وخزائن الزينة والمناضد والكراسي والمقاعد والأرائك والمكاتب والإطارات والمغاسل، والصناديق والتوابيت والرحال وألواح درس الحبوب وأعواد الطرب، تعمل من خشب الجوز والزيتون والليمون والميس والعرعر والدردار والشربين والتنبوب والسرو والصنوبر مما يكثر في الأرض الشامية، أو من خشب الجوز الأميركاني والخشب الروماني والقيليقي وغيرها من الأخشاب المجلوبة.
كان يُعمَل كل ذلك بأدوات بسيطة تحركها الأيدي، وقد أُقيمت معامل لنشر الأخشاب وتقطيعها وتجفيفها وتليينها وتزيينها ورصفها ونقشها، ومما يدل على متانة خشب الحور المعروف بالرومي تلك النموذجات التي بقيت منه محفوظة من القرن الخامس في دار الآثار، وكانت الصناديق تُصنع إلى القرن الماضي من خشب الجوز فتقوى على القرون، وتُحفَر فيها نقوش وصور جميلة، ومن قبل كانت صناديق السرو مثال الصناعة المتينة، ومن الخشب المتين كانت تُعمَل الحلقات في القصور والقاعات القديمة، وقد بيع كثير من هذه الصناديق وهذه الحلقات من الغرباء، وهم يعدونها من أظرف الطرائف، لما خُصَّت به من المتانة والجمال. وسر الإبداع في هذه الصناعة أن النجارين كانوا ينجرون أصلب الخشب، فأصبحوا اليوم يعتمدون على الكريش والشوح، وفيهما مواد قطرانية وتفعل فيما يصنع منها الرطوبة والحرارة، وهذا الخشب سهل على النجر وسريع إلى البلى.
وكان الدهان من الصناعات الدمشقية المتفردة بها هذه المدينة، ويكون ذا ألوان ثابتة لا تنصل بالحرارة ولا بالبرودة، ولا ينال منها السوس ولا الحشرات، والدهان المعروف اليوم بالعجمي مما تفردت به دمشق، وأهل هذه الحرفة يزيِّنون بما يدهون اليوم قصور العظماء في الشام ومصر والعراق، ويعملون منها مناضد ومقاعد وبعض أدوات الزينة، فتجيء طرفة من الطرف.
وأزهرت صناعة التنزيل في خشب الخزائن والأصونة والمقاعد والكراسي بالصدف أو بقطع الليمون، وكانت مصنوعاتها تزدان بها الأندية والردهات، وتباع منها مقادير عظيمة في أميركا وغيرها. ويقال لصناعة الحفر والتنزيل «الأبلق» وهي من أجمل الصناعات أيضًا، تدهن الحجر بالنقوش والأشكال ويحفر ويدهن بصب الأصباغ في الشقوق، ثم يجلى ويصقل، فيأتي صبغها برَّاقًا ثابتًا كأنه من أصل الحجر، وكانت الأصباغ القديمة في الجدران والأبهاء ثابتة ذات بهاء ولمعان، وهي من نباتات البلاد وموادها، فلما نازعتها الأصباغ الإفرنجية الرخيصة التي تنصل بسرعة، بطل استعمال الأصباغ القديمة، وكاد يفقد سرها ويندمج في صناعة التنزيل صناعة النقش بالجبس على الجدران، ومنها نموذجات صبرت على حوادث الدهر.
لما حُرِق الجامع الأموي حريقه الأخير، أخذ العارفون يفكرون في إرجاعه إلى رونقه السابق، فأُحييت صناعات دقيقة في النقش والحفر والترخيم كادت تضمحل، ومحراب جامع بني أمية مثال ظاهر منها، واخترع إذ ذاك أحد أرباب الصناعات مَرْكَبة تجرها بضعة ثيران، فتنقل الأعمدة والسواري من مقالعها مهما عظمت على أيسر وجه، والحاجة أم الاختراع.
ومن القديم كانت دمشق تفاخر بما تصنع من السيوف المحلاة؛ لما اختصَّت به من الصفاء والاخضرار، تُكتب فيها آيات وأشعار بماء الذهب، ومثل ذلك الخناجر والرماح، وتطريق الحديد مما عُرِفت به دمشق قبل الإسلام، وما زالت صناعته متوارَثة في بيوت معروفة إلى اليوم، وذكر التاريخ أن الإمبراطور ديوقلسيانوس الروماني أنشأ في دمشق في القرن الثالث للميلاد معملًا للأسلحة، فاستدل من ذلك أن المستخرج من حديد هذه الديار كان كثيرًا يفي بحاجة الدولة والأمة. والقيانة أو القردحة أي صنع السلاح، مما كانت له أسواق رائجة، عرف الصليبيون ذلك ونسبوها في عهدهم إلى دمشق، وكان العرب نقلوا هذه الصناعة — أي صناعة السيوف — إلى الأندلس، فنُسِبت إلى دمشق حتى يوم الناس هذا، ويقال لها بلغات الإفرنج إلى اليوم «دامسكيناج»، «داماسكينري» أيْ تنزيل الذهب والفضة في الفولاذ، وكانت الدروع والخوذ والسابرية تُصنع في دمشق حتى لكأنها كانت معملًا عظيمًا من معامل السلاح على الطريقة التي وصلت إليها أدوات القتل والتوقي منه في تلك الأعصر.
وتفنن صناع هذا تفننًا شوهد أثره في صناع القذائف والنسافات، فقد ذكر المؤرخون أن الصليبين يوم عكا اصطنعوا ثلاثة أبراج من خشب وحديد، وألبسوها الجلود المسقاة بالخل، وجعلوها على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر، ويتسع سطحه لأن يُنصَب عليه منجنيق، فأراد صلاح الدين إحراقها، وجمع الصنَّاع من الزراقين والنفاطين، وكان من جملة من حضر شاب نحَّاس دمشقي، فذكر أن له صناعة في إحراقها، وأنه إذا حصل له الأدوية التي يعرفها، وطبخها مع النفط في قدور من النحاس وقذف بها الأبراج تحترق لساعتها، وكذلك كان.
وما برح كل ما يُصنع من الحديد يُعمَل في معامل دمشق كالمردان والمغازل والصنارات والأسياخ والعقافات والقيود والزرد والمباضع والمبازع والشمارط والآنية والنعال والمسامير والمعاول والمساحي والمناجل والمطارق والأقفال والمفاتيح والمغالق والمناصب والملاقط والسكاكين والمدى والمناشير والمراكن والمراجل والدلاء والبراميل والمقالي والمواسي والمبارد والصناجات والدرابزون والكلاليب واللوالب والقدوم والفئوس والمقاريض. وفي العهد الحديث أدوات المركبات والعجلات والسيارات والدراجات والمضخات والمدفئات والسكك والمحاريث والآبار الارتوازية وغيرها، والاعتماد فيها كلها على الحديد المستبضع من الغرب.
وكان أرباب الصناعات في القديم يجزئهم ما يُستخرَج من حديد البلاد، ومن النحاس تعمل أواني البيوت كالقدور والمغارف والأطباق والمناقل والدلات «أوعية القهوة» والطسوت والصواني والصحون والصحاف والمصافي والملاعق والسطول والمساخن والهواوين والمدقات وغير ذلك. وقد أُنشئت أوائل هذا القرن معامل لصنع أواني النحاس المكتب والمعرق، ومنها الزهريات والمصابيح والثريات والتعاليق والكئوس والمباخر والقماقم والصحاف والبواطي وبعض أدوات الزينة، فراجت رواجًا عظيمًا في الممالك الأجنبية، وتنافس أرباب الذوق في اقتنائها، ومنها ما يُعمل بالمينا، ومنها ما يعمل بالفضة وهي على غاية الإبداع.
واشتهرت هذه العاصمة قديمًا بالزجاجة «صناعة الزجاج»، وكان يُضرب المثل بصفائه، ويُتَّخَذ للزخرفة والزينة، ومنه الأكواب والآنية على اختلاف ضروبها، والأباريق والجامات والسكرجات والمضخات والأقداح والقوارير والكيزان والبواطي، كانت لها معامل مهمة في دمشق، وفي الحرب الأخيرة أخذت معامل الزجاج تصنع الكئوس والفناجين وزجاجات المصابيح وصراحيات الماء وغيرها، وراجت رواجًا كثيرًا، واستغنت بما صنعت عن مصنوعات تشيكوسلوفاكيا وغيرها، وكانت معامل الزجاج ممتدة على طول الجامع الأموي، رآها الرحَّالة بوجيبوجي سنة ١٣٤٦م، ويظهر أن البنادقة توصَّلوا إلى سرِّ هذه الصناعة في القرون الوسطى وأنشئوا يخرجون أنواع الزجاج، ومنها المرايا التي بطل عملها بعد ذلك هنا، ثم أخذ بعضهم بآخرة يقلد المرايا المصنوعة في الغرب فتباع لرخص أثمانها.
وزهد أرباب هذه الصناعة في صنعتهم، لما بدأ الغرب يُخرِج المصنوعات الزجاجية رخيصة الثمن بديعة الشكل، ومن قبلُ كانت المصنوعات الزجاجية من عمل البلاد رائجة، وتعلقت الهمم قبل الحرب العالمية بتأسيس معمل للزجاج، وأخرج مصنوعات جميلة وحال الاختلاف بين المساهمين دون سيره، كما كانت اتجهت النية إلى تأسيس معمل للسكر فحال رخص أثمانه دون المضي في إنشاء معمل لاستخراجه.
كان يُعمَل من الخزف القلل والخوابي والإجانات والدوارق وأصاصي الزهور وغيرها، ويعمل القاشاني لرصف الجدران والمحاريب والحمامات والفساقي والسلسبيلات والباذهنجات والقماقم والزهريات وغير ذلك، ويظهر أن سر صناعة القاشاني فُقِدت من دمشق منذ قرنين بانقراض البيت الذي كان مستأثرًا بصنعه.
وفي القرن الأخير نشأت صناعة جديدة كأنها أخت القاشاني القديم، وهي الخزف الملون يتخذون منه بلاطًا للدور والغرف والمستحمات، وقد تفننوا في صنعه فأجادوا، وله معامل كثيرة، وله رواج في الأقطار المجاورة لمهاودة أسعاره وجماله وصلابته، وبه استعيض في أكثر العمائر الجديدة عن الأحجار الملونة في التبليط وعن رخام إيطاليا. ومما اشتهرت به دمشق صناعة الصياغة، أي صناعة الذهب والفضة، والتفنن في تصويرها بوضع الأحجار الكريمة خلالها، تعمل منها الأكلة والتيجان والأقرطة والشنوف والخواتيم والدمالج والقلائد والأطواق والخلاخل، ولما كسدت مصنوعاتها هنا جلا كثير من صنَّاعها إلى بلاد أخرى، ومع هذا لا يزال ما يخرِج الصياغ على اختلاف أسمائه وأشكاله وأحجاره رائجًا مقبولًا، ويتوقف رواج هذه الصناعة على تكاثر النقد من الذهب والفضة في الأيدي وتوفر أسباب الغنى.
ومن أهم الصناعات صناعة البناء والنحت، ومدارس القرون الوسطى في دمشق مثال بديع على ما نُحت ورُصف، وقد ساعد على تجويد البناء تعدد مقالع الحجر بالقرب من المدينة، وتسلسل صناعة النحت والبناء والهندسة في بيوت بعينها، ولما اخترع الأسمنت المسلح بدأ القوم يعتمدون عليه في البناء أكثر من الجبس والكِلْس والآجر، فأنشئ لصنعه معمل في ضاحية المدينة، وثبت أن مادته قوية جدًّا، وهو يقوم بحاجة البلاد الداخلية.
هذا إجمال حال الصناعات بدمشق، وغالبها تتبدل عليها أيدي الصناع من الواحد بعد الواحد إلى أن ينيف على عشرة صناع حتى يتم، وقد قيل إن صناعات دمشق تبلغ نحو ٣٤٠ صنعة وحرفة. ولا تزال تحدث صناعات وتموت صناعات، فمن الصناعات التي أحدثت خلال الحرب العالمية الأخيرة حفظ الثمار والبقول في علب «كونسروا» وقد أنشئ لها معمل في دمشق، وصادراته تباع في بلاد العرب وبلاد الغرب، وسبب الإقبال عليه جودة ثمار دمشق ولذيذ طعمها. ومن الصناعات المهمة التي دُثِرت ولم يَعُد يعانيها أهلها منذ زمن طويل الوراقة أو صنع الورق، وكانت لها معامل في دمشق منذ القرن الثاني، وقد تعلَّم صنع الورق في دمشق أسيران فرنسيان على عهد الحروب الصليبية، ونشرا هذه الصناعة في فرنسا ومنها انتقلت إلى أوربا، وكان العرب حملوا سر هذه الصناعة معهم منذ أوائل القرن الثالث إلى الأندلس وصقلية، ومن هاتين الجزيرتين كانت أوربا الوسطى والغربية تستبضع ورقها قرونًا. ومن الصناعات التي كان لها شأن عظيم في دمشق ويعيش بها خلائق، وذلك قبل اكتشاف النفط «البترول» واختراع الكهرباء، صناعةُ صب الشمع وسكبه وقَلَّ مَن يعنى بها اليوم، وكانت تُصنع في دمشق الشموع العظيمة التي تُجعل على جوانب المحاريب في المساجد العظيمة كأنها سارية من السواري، وفي دمشق كانت تُصنع شموع الحرمين الشريفين وتُحمَل إليهما كل سنة. ومن الصناعات التي ضعفت لقلة ما يصدر منها صناعة عطر الورد، وما يستقطر من زهر دمشق، فهذه الصناعة كانت تُصدَّر مقادير كبيرة منها إلى الصين والهند في القرن الثامن، وقد ذكر شيخ الربوة في كتابه «نخبة الدهر في عجائب البر والبحر» ما كانت تغل به هذه الصناعة من مال، وما تنشره في موسم الزهر من الروائح الزكية في أماكنه بعد استخراج روحه، ووصف صورة استقطارها والأنابيق التي تُستخدَم لها.
ودعت الحاجة خلال الحرب الأخيرة وبعدها إلى إدخال صناعات جديدة أو إتقان صناعات كادت تُفقد منها لقلة من يرغب فيها.
وإنا رأينا اليوم ما قام من معامل النسيج والحياكة، وما شاهدنا من معامل الجوخ والدباغة والخزف والأسمنت المسلح وحفظ البقول والثمار وصنع المربيات والحلويات، وغير ذلك من الأعمال التي برز أربابها فيها على ما شهد لهم بذلك أعاظم العارفين بهذه المسائل في بلاد الغرب؛ إنا وقد رأينا هذا فلا يصعب علينا أن ندعي أن دمشق تخرِج الآن جميع حاجياتها من مأكول وملبوس ومسكون ومفروش، وإذا اضطرت ذات يوم إلى الاكتفاء بما تخرِج وما تصنع، لا ينقصها غير بعض الكماليات، وكل بلد مهما بلغ من رقية ينقصه شيء أو أشياء تجود عند جاره، ولا غضاضة عليه إذا قايض عليه بما يستخرجه مما تفرد هو بصنعه.
وبعدُ، فقد عُرِفت الشام في معظم عصورها بأنها بلاد صناعية أكثر منها تجارية، وكانت مدينة دمشق تفخر بأنواع من الصناعات اليدوية النفيسة، حتى في الأسواق العالمية، ومنها المصنوعات الحريرية والقطنية والصوفية التي كانت موادها الأولية من منتجات القطر، وكذلك المصنوعات الخشبية والنحاسية والفضية والجلدية التي عُرِفت بطابعها الشرقي وبسلامة الذوق والمتانة، ثم تطورت الصناعة بعد الحرب العالمية الماضية تطورًا يدعوا للتفاؤل بأحسن النتائج، وكانت السبَّاقة لهذا التطور مدينةُ دمشق؛ إذ تطلَّع أهلها إلى إنشاء صناعات آلية «ميكانيكية» مختلفة لم يكن الشرق الأوسط يعهد نظيرها، كصناعة الأسمنت والثقاب «الكبريت» وحفظ الفواكه والخضروات وصناعة الجوخ والحرير بأنواعه، وأصبحت هذه المعامل على حداثتها تضاهي بإنتاجها الصناعة الغربية التي هي من نوعها. كما أنشئت في حلب مؤسسة لصناعة خيوط الغزل ونسجها، كانت عاملًا قويًّا في إحياء مساحات واسعة من الأراضي بزراعتها من القطن الأميركي أو الهندي، وتبع ذلك في دمشق وحلب بالإضافة إلى الصناعات المار ذكرها، وخصوصًا صناعة النسيج الحريري التي نمت نموًّا مطردًا، تبعها صناعات التريكو والجوارب والقمصان والكتان والمستحضرات الكيماوية الصناعية والأدوية والمستحضرات الصيدلية والمستحضرات الغذائية والمعكرونة والبسكويت والزبدة والسكاكر والشوكولاتة، والمصنوعات الحديدية والتلبيس بالمعادن والمرايا السكب والبلاط والجبس والدباغة الفنية والصباغة والمطاحن والطباعة والفرش «الموبيليا».
إن التجدد الذي أدخلته دمشق على صناعتها في غضون عشرين عام — رغم العقبات التي لاقتها بسبب الحواجز الجمركية، ونكبتها بثروتها من جراء خسارتها بالنقد الأجنبي في سنة ١٩٢٠، والأزمات الاقتصادية التي توالت وأثَّرت في التجارة والزراعة والأراضي والعقارات — لجدير بإعجاب المنصفين، ولو أن الحكومات التي تولت الحكم في الشام اهتمت قليلًا بالمشاريع الصناعية وشجعتها وحمتها، لحصلت البلاد إبان هذه الحرب الضروس على ما يمكن الحصول عليه من الرخاء والتوازن الاقتصادي في الإنتاج الصناعي، كما هي الحالة في بعض الأقطار المجاورة، على أن الوقت لم يفت والأمل معقود على مستقبل يقوم على استقرار يضمن ازدهارًا اقتصاديًّا، فتنمو صناعاتها وتجارتها وزراعتها، وينعم أهلها بثروات القطر الطبيعية الكامنة التي لا تُسمَّى ثروة لنا إلا إذا أثبتنا مقدرتنا في استثمارها.