تجارة دمشق
كان سكان هذا البلد بما فُطِروا عليه من ألمعية وذكاء قبل أن يدوي في أرجائه نبأ هذه الحروب، يسمعون حسيسها وينظرون إليها كأمر واقع، فأعدُّوا عدتهم لمواجهتها، ومنذ انقطعت العلاقات التجارية بين اليابان والولايات المتحدة أواخر عام ١٩٣٨، زادوا في مستورداتهم بقدر ما تصل إليه قدرتهم من مال وجهد، وبقدر ما تمكنهم الاعتمادات الممنوحة لهم في البيوت المالية والمصارف الأجنبية، داخل البلاد وخارجها، مستفيدين من الدروس الاقتصادية التي ألقتها عليهم الحرب الماضية بين عام ١٩١٤ و١٩١٨، فما جاءهم أيلول عام ١٩٣٩ إلا كان عندهم وعلى أرضهم من مختلف أنواع البضائع والسلع التي تشتد الحاجة إليها ما يعد كثرةً تضيق بها محال التجارة ومستودعاتها وأنابر الجمارك.
وما شاع نبأ الحرب حتى سارعوا يطلبون إلى عملائهم ووكلائهم في وكوبا ومانشستر ونيويورك أن يبذلوا قصارى جهدهم في شراء ما يقع تحت أيديهم من البضائع، مطلقين لهم العنان في غشيان الأسواق العالمية كيفما اتفق لهم السعر والشروط، وعندما دخلت اليابان الحرب، وانقطعت البواخر التي كانت تجوب البحار إلى شواطئ الشرق الأدنى، أخذ السوريون بعد أن نزل الحلفاء أرضهم يولون وجوههم شطر مرافئ الهند الجنوبية، جاعلين من بومباي دار هجرة تجارية، يحملون منها عن طريق الخليج الفارسي أولًا وقناة السويس ثانيًا، ما تمس حاجتهم إليه من خيوط وأنسجة ومواد غذائية، فما عضتهم الحرب بقلة كما وقع لهم في الحرب الماضية، وأحسنوا الاستفادة من كل معاونة يعاونها البريطانيون في كل بلد ينزلونه.
مضى العام الأول والعام الثاني من أعوام هذه الحرب ودمشق خائفة، كأنما تعيش بين أجفان الردى وهي يقظانة نائمة، فلم يتسع لها طريق العمل بشيء يتفق مع ميراثها الصناعي، وفي الأعوام التالية أخذت قدرتها على الإنتاج تزيد، وكانت في زمن السلم تطغى عليها المصنوعات الخارجية، والأعمال وليدة الحاجة وربيبة الضرورات. ولما كان الشعب السوري تجاريًّا بالفطرة، والمغامرات في دمه وروحه، فقد تقلب في تجارته خلال هذه المدة صاعدًا وهابطًا، فإذا نُبِّئ بما يشعر بطول الحرب، ترتفع عنده الأسعار، وإذا ثبت له قصرها، تهبط وتتدنى.
وذهبت دمشق في هذه الفترة بقيادة الحركة الاقتصادية، وأخذت تعين الاتجاه هبوطًا وصعودًا وحركة وجمودًا، ومنها ينتقل هذا الاتجاه إلى كبريات المدن والحواضر، فهي أُذن تستمع لكل ما يحمله الأثير من نبأ تقلب فيه الفكر، وتحكم به على الغاية، ولولا تقلُّب أسعار النقد الذهبي وارتباطه بقلوب أبناء هذه البلاد الذين يؤمنون به إيمانًا أوحت به الأعوام الخالية، لما اختلفت الأسعار وارتدت التجارة طابع المضاربات البعيدة عن الطريق السوي.
إن طبيعة الحرب توفر الرزق لأصحاب الحظوظ الذين تواتيهم الأحوال أكثر مما توفره للمفكرين الذين يستخرجون النتائج من المقدمات، والتجارة في الحرب تتمشى مع المغامرات أكثر مما تسير بالحزم والأخذ بالأحوط. وساعدت المناسبات أصحاب اليد الأولى من المستوردين، فكان نصيب مدينة بيروت تتلوها مدينة حلب أوفر قسطًا في الحول على المنافع الرئيسة، بالنظر لوقوف تجار هذين البلدين في طليعة الفئات المستوردة والمدخرة، ويأتي حظ دمشق وأخواتها بقية المدن السورية في المؤخرة؛ لأن العاملين في تجارة هذه المدن يستبضعون على عادتهم من أصحاب المتاجر القاطنين في الثغور والمرافئ.
نحن على مثل اليقين بأن البلاد السورية سترتدي بعد الحرب الطابع الصناعي أكثر من الطابع التجاري الذي كانت ترتديه قبلها، فيه بلا شك ستقيم المعامل الصناعية على اختلاف أنواعها متى توفرت لها الأسباب ولان لها الحديد الذي يستعصي عليها وجوده اليوم، وهي كبيرة الأمل في الحصول على المواد الأولية التي تستلزمها الصناعات، متى تهيأت الأسباب للقائمين بالأمر أن يستنبتوا الأرض حق الاستنبات، ويعدنوا المعادن المركومة في أحشائها، وتتعاون في القطر القوى الثلاث: القوة الإنباتية والمعدنية في أرضه، والقوة الفكرية في سكانه، والقوة اليدوية التي خصها الله بالإبداع، وأجرى لهما ما أجرى من حسن الذوق، فإذا ما تم لهذا القطر أن يكون وحدة اقتصادية، ففي مائه وهوائه وتناسق فصوله قوة كامنة تأتي بالعجب العجاب.
خرجت البلاد من الحرب الماضية وفيها القناطير المقنطرة من الذهب الذي دعت إلى إنفاقه الضرورات العسكرية، وما أسرع ما أضاعت بعد تلك الحرب ثروتها الأصلية والفرعية، فكانت أشبه بأم تُوفِّي عنها زوجها، فترك لها مالًا ولم يترك لها عقلًا يدبره ويحسن القيام عليه، فإذا قُدِّر لهذه الأرجاء أن تعتبر من الماضي — وقد رزقتها هذه الحرب ما لم تكن تحلم به من مال أنفقته فيها الجيوش الحليفة، فارتفعت نسبة الأموال المتداولة إلى حد لم تبلغه في عهد من العهود — فإن مستقبلًا مليئًا بالآمال الجسام ينتظرها، فتتبوأ عرش الاستقلال الاقتصادي الذي فقدته دهرًا طويلًا.
هنالك ساحات اقتصادية تتآزر فيها بعد الحرب الجماعات القاطنة في هذه الديار والجماعات الذين يوافونها، فما على السوريين إلا أن يأخذوا أهبتهم للنزول إلى تلك الساحات، وإذا نزعنا الروح الفردية التي تأصلت فينا، وتقمصنا روح التعاون في الأعمال الصناعية الكبرى، يضعف تأثير الجماعات التي ستغذو المرافق الحيوية، مستندة إلى نظام تعاوني مستمَد من أقوى النظم المالية القائمة على مبدأ المنافع المشتركة، فالمال قوة وأقوى ما فيه حسن القيام على تصريفه في وجوه الأعمال المستندة إلى نظام قويم.
أصبحت الثروة العامة موزعة بين الجميع في هذه الحروب، فالمنتجات الزراعية ومكاسب أصحاب المتاجر والأعمال الحرة هي في الجملة على غير ما كانت عليه قبل الحرب، ومتى صارت الأموال إلى اليد التي تحسن القيام عليها لا تعمد إلى دفنها وهاجة تحت الأرض أو حبسها في صناديق مقفلة، فإن الانتفاع بها يعم جمهرة الشعب وعامة طبقات الأمة. إن دمشق تتمتع بعد أن مضى على الحرب خمسون شهرًا بأكثر ما تحتاجه من غذاء وكساء، لم يعدم فيها إلا ما لا بال له، ولئن تصاعدت قيم أكثر الحاجيات، فذلك ناشئ عن أن مستوى المعيشة العامة قد ارتفع جملة، وارتفعت معه النسب في الأشياء المنقولة وغير المنقولة، والمقياس في أزمنة الحروب هو وجود الحاجيات الضرورية أو عدم وجودها، والفضل في ذلك لدمشق وللمنتج الدمشقي، وللتاجر الذي خاطر بماله ونفسه لتموين بلده، وللحلفاء الذين موَّنوا هذا البلد، وخاصة في الأيام التي كانت فيها أمواج البحر المتوسط تتلاطم بالدماء.