تولد الصهيونية الحديثة
العاملان اللذان أثرا في إظهار أول درجة من درجات الصهيونية الحديثة هما: قيام شعور
ملي
قوي، وظهور الأنتيسمتزم؛ أي مضادة اليهود. وبعد مقدمات فلسفية، قالت الأنسيكلوبيديا:
فكرة الحرية الشخصية جرت في أثرها الرغبة في الحرية العنصرية، وعمل سويسرا وهونغاريا
ومقاطعات البلقان المختلفة، ومحاولة أيرلندا تحرير ذاتها من السلطة الإنكليزية، واتحاد
إيطاليا وجرمانيا على عنصرية كان لا بد من تأثيرها على اليهود، كان منهم — اليهود —
كثيرون في مقدمات صفوف المحاربين من أجل العنصرية، ولم يخطر لهم حينئذٍ أن ذلك سيولد
فيهم اشتياقًا للاتحاد العنصري والحياة المشتركة.
تحت هذه التأثيرات، تولد في أوروبا الشرقية بين اليهود، لا سيما بين الناشئة الجديدة،
شعور حياة ملية يهودية، حمل في جريانه عددًا من أذكياء يهود اليوم والمتقدمين فيهم. منذ
سنة ١٨٣٠، اعتقد المؤرخ اليهودي سلفادور أن مؤتمرًا أوروبيًّا يمكنه أن يعيد فلسطين
لليهود، وبمثل ذلك اعتقد مؤسسو الإليانس الإسرائيلي «الاتحاد الإسرائيلي» لمَّا ابتدءوا
بالاستعمار في فلسطين تحت إدارة إلبرت كون، وشارنس نترَّ. وشيدت مدرسة «مكوي إسرائيل»
الزراعية بقرب يافا.
في سنة ١٨٥٢، هولنكسورث Hollingsworth الإنكليزي حض
على إقامة حكومة يهودية من أجل حماية طريق الهند البرية، وسنة ١٨٦٤ ظهر في جنيڤ كراس
بالإفرنسية عنوانه: «واجبات الأمم في أن يعيدوا للشعب اليهودي قوميته»، وسنة ١٨٦٨ كتب
فرنكل كراسًا في ستراسبورغ عنوانه: «إعادة القومية اليهودية» Retablissement de la Nationalité Juive.
كتب هذا الكاتب كتابه متأثرًا بالحركة الملية اليهودية في أيامه من الجهة الواحدة،
ومن
الجهة الأخرى بحالة اليهود غير الأمينة في أوروبا الشرقية، فجاهر بجسارة بوجوب إعادة
تشييد حكومة يهودية في فلسطين بمشترى البلاد من تركيا.
وزاد بقوله: إذا لم يكن مشترى فلسطين ممكنًا؛ فلنطلب وطنًا معينًا في جهة أخرى من
الكرة
الأرضية؛ لأن الغاية الوحيدة أن يكون لليهود وطن، وأن يكونوا فيه أحرارًا من الأمم
الأخرى — وقد وافقت فكرته هذه فكرة حزب التريتورياليين territorialists، أحد أحزاب الصهيونيين اليوم الصغيرة، الذي لا يحصر
مطالبه في فلسطين كما سيجيء).
وقد أُجريت عدة تدابير من هذا النوع لهذه الغاية.
وبين سنة ١٨٣٥ و١٨٤٠، كان موريتس ستين
شنيدر Moritz Steinschneider بين القائمين بتأليف جمعية من طلبة المكاتب لنشر فكرة إنشاء
حكومة يهودية في فلسطين، وبعد ذلك بسنة نشر كاتبٌ مغفل الإمضاء في «الأورينت» Orient، نومرو ٢٤، صفحة ٢٠٠، مقالةً يدعو فيها
إخوانه ليسعوا باستحصال سوريا لليهود على شرط بقائها تحت سلطة الحكومة العثمانية.
وسنة ١٨٤٧، نشر برثلمي قصيدة في جريدة السياكل Le siècle يحض فيها الروتشلديين على إعادة مملكة يهوذا إلى سابق
مجدها.
وكتب لوزتو Luzzatto في ١٨٤٤ إلى ألبرت كون يقول: «يجب
أن يستعمر اليهود فلسطين لتعود إليها حياتها الزراعية والتجارية.»
وقد زادت أسفار السير موسى مونتفيوري وألبرت كراميو في فلسطين رغبة قوم موسى في وطنهم
القديم، وصيَّرت شأن المسألة عظيمًا عند العموم.
وقد جد هنري دونانت، مؤسس مجمع جنيڤا، جدًّا متواصلًا من أجل هذه الغاية، وحاول أن
يحمل
«الاتحاد الإسرائيلي العمومي» سنة ١٨٦٣ على الاهتمام بهذه المشاريع، وسنة ١٨٦٦ جرب ذلك
مع الجمعية الإنكليزية اليهودية في لندرا Anglo-Jewish
Association واليهود في برلين، فتألفت جمعيتان لتلك الغاية:
الجمعية الفلسطينية
العمومية International Palestine Society، وجمعية الاستعمار
السوري الفلسطيني Syrian & Palestine Colonization Society.
ولكن مساعيه لم تلق نتيجة كبرى، كما أن طلب السير منتفيوري من محمد علي باشا المصري
إسكان اليهود في فلسطين لم يصادف قبولًا.
ونظم بنداتو موزولينو مشروعًا لإقامة حكومة يهودية في فلسطين بيَّن فيه ما ينجم عن
ذلك
من الفوائد لليهود والإنكليز والعثمانيين، ولكنه لم يفلح في إقناع اللورد بالمرستون
وعائلة روتشلد بمشروعه.
واجتهد الرحالة السياسي الإنكليزي الشهير، لورنس أولفانت، بالحصول على امتياز خط حديدي
في وادي الفرات لإسكان مهاجري اليهود الروس على جانبيه، وتصور إيجاد مهجر لليهود في
فلسطين في أرض جلعاد بنواحي «السلط»، وتأليف جمعية رأسمالها ١٠ ملايين روبل لمشترى مليون
أو مليون ونصف فدان مصري؛ لإسكان يهود بولندا ورومانيا وآسيا تركيا، فلم يمنحه السلطان
إذنًا ولا بواحد من الطلبين.
داود دوب غوردون (١٨٢٦–٦٦)، وزيبي هرش غاليشر (١٧٩٥–١٨٧٤)، واليشع غوتماخر، وموسى
هس،
والتاريخي هنريخ غراتس، كانوا من دعاة اليهود الأقدمين للرجوع لاستيطان فلسطين، فكتب
غوردون سنة ١٨٧١ في جريدته هاماغِد سلسلة في استعمار فلسطين، جاعلًا إياه أساسًا لتجديد
اليهودية، وكتب هس كتابه روم
وأورشليم Rom & Jerusalem، الكتاب الذي بقي للآن من دعائم الآداب الصهيونية، وطلب
معونة فرنسا لإنشاء هذه المستعمرات.
أما غاليشر فيمكن القول إنه كان أول صهيوني بالفعل، وقد حام في كتابه دريشات زيون Derishat Ziyyon حول استعمار فلسطين وزراعة
الأراضي، وأنشأ مدرسة زراعية، وحامية إسرائيلية عسكرية، واعتقد أن الخلاص المنوه عنه
في
الأنبياء يأتي متتابعًا، وبقيام اليهود لمساعدة أنفسهم، وسافر مرارًا بقصد ترويج هذه
الفكرة، وكان المسبب في تأليف أول جمعية استعمارية في فرانكفورت سنة ١٨٦١، وكان له شيء
من التأثير على عمل شارلس نتر في فلسطين. وقد اشترك كثيرون من الحاخامات المتمسكين
بالدين، كالرابي هِلدَ سهايمر في حركته، والرابي غولد شميت من ليبسيج، كتب في جريدة
يهودية قائلًا: إن الاستعمار في فلسطين لمن الأمور المتناهية في التقديس.
وبعد ظهور كتاب هس بسنتين كتب غراتز في كتابه الياربوخ فير إسرائيلتن «كتاب
الإسرائيليين السنوي» مقالة في «تجديد شباب
العنصر اليهودي» Die Veryungung des
yudischen Stammes، واجتهد أن يبين بأدلة من التاريخ أن الأمة العبرية
مسيح نفسها، ومن واجباتها تجديد صبوتها، وافتداء نفسها بنفسها، ومن العبث انتظارها مجيء
شخص واحد يفتديها؛ فكان لهذه المقالة صدًى قويًّا حتى في المجالس الدينية.
الكرمل: يرى القارئ من كل ما تقدم ومما يجيء، أن الحركة الصهيونية تأسست ونمت على
أسس
عنصرية، ولغاية سياسية قومية. وما الأقوال بكون أكابر اليهود يسعون بإيجاد ملجأ مؤمن
بعدالة الدولة الدستورية العثمانية لإخوانهم المضطهدين إلا من قبيل التمويه والتضليل
الذي لا يجب أن يلتفت إليه. إن اليهود يستطيعون أن يلاقوا ملاجئ في غير بلادنا، وتحت
حكومات أخرى أعرق منا بالدستورية لو لم تكن غايتهم سياسية كما سترى.
ومن العجيب كيف يطالبنا قوم موسى بالمساواة بينما هم يعملون على تخصيص أنفسهم عنا
بامتصاص ثروتنا، ومحاولة طردنا عن وطننا ليستأثروا به، أيريد القائمون بالحركة الصهيونية
أن يعيدوا تمثيل ذلك الدور من التاريخ القديم الذي مثله أجدادهم يوم خرجوا من مصر،
فيستولون على البلاد ويهلكون الحرث والنسل؟! أقوال المحامين عن الصهيونيين تناقض أفعال
هؤلاء كل المناقضة. عجبًا؛ كيف أن بعض حملة الأقلام منهم في سوريا ومصر لا يخجلون من
إنكار هذه المقاصد والمساعي المثبتة في أصدق كتبهم؟