الخيط
هذه المرأة شغلتني وأرهقتني فترةً طويلةً من السنين، كانت تتردَّد على عيادتي بميدان الجيزة من حين إلى حين، جاءتني أول مرة تشكو من ألم في صدرها، وفحصتها فلم أجد بها أيَّ مرض، ثم اختفت فترة وجاءتني لأفحص أباها المريض، وذهبت معها إلى بيتها، كان أبوها في حالة لا شفاء فيها، ولم يكن هناك من علاج في الطب إلا تخفيف الألم بالمخدر.
ثم اختفت فترة وجاءتني لأفحصها من آلام في صدرها، وورم كبير في بطنها، وفحصتها فإذا بها تحمل في أحشائها جنينًا، لم تكن تعرف تمامًا من أين جاءها الجنين، وطلبت مني أن أجهضه، لكني لم أستطع، كان الجنين قد بلغ الشهر التاسع.
واختفت فترة طويلة ثم عادت بالآلام القديمة في صدرها، وفي كلِّ مرة تشكو من ألم جديد، وكنت أفحصها فلا أجد بها مرضًا، وأخيرًا جاءتني تقول: إنها حامل في الشهر التاسع، وتنتظر الولادة، وفحصتها فلم أجد في أحشائها أي جنين، لكنها لم تقتنع، وغضبت وثارت، ورفعت قبضة يدها في الهواء لتضربني، لكني تفاديت الضربة في آخر لحظة، فارتطمت قبضتها بصورتي المعلقة على الجدار وانكسر زجاجها، لكن يدها لم تُصَبْ بسوء.
ولم تعد إليَّ بعد هذه الحادثة سنين طويلة، ولم أعرف شيئًا عن مصيرها حيث فوجئت بهذه الرسالة منها في البريد:
طبيبتي العزيزة …
حينما جئتُ أول مرة إلى عيادتك لم أكن قد وُلِدْتُ بعدُ، فأنا لم أُولَد في اليوم الذي ولدتني فيه أمي، كنت قطعة لحم تتحرك فحسب، ولم تكن حركتي بإرادتي أو رغبتي، كنت أتحرك بإرادة أخرى ورغبة أخرى.
وكان الزمن يمضي دون أن أعرف أنه الزمن، فاليوم كالأمس كالغد، كأن الماضي والمستقبل التقيا عند الحاضر في لحظة واحدة طويلة ممتدة إلى الأبد، كنت أظن أن الزمن غير موجود.
وربما حدثت ولادتي في تلك الساعة من ليلة الشتاء الباردة، لم تكن ساعة كاملة تلك التي ولدت فيها، كانت أقلَّ من ساعة بكثير، ولعلها كانت سبع دقائق إذا أردت الدقة، فقد نظرت إلى الساعة في تلك اللحظة، كانت الحادية عشرة إلا سبع دقائق، وكنت أجلس في ضوء مصباحي بجوار سريري أكتب كعادتي قبل أن أنام، حينما سمعت صوتًا غريبًا، أو لعله لم يكن صوتًا، لكنه لم يكن من تلك الأصوات التي تُسمع بالأذن أو الأذن وحدها، فقد اخترق الصوت جسدي، ورأيت لحمي يرتعش في ذبذبات ضئيلة سريعة كالقشعريرة، وأحسست جدار بطني يرتفع وينخفض في ارتعاشات، لا أكاد أراها بعيني، وإن كنت أحسها فوق جلدي حركة تمشي كأرجل النمل الدقيقة.
في قفزةٍ واحدةٍ أصبحت في حجرة أبي، ورأيت كلَّ شيء كما عهدته منذ سنين، وأبي في سريره، عيناه نصف مفتوحتين أو نصف مغلقتين، والملاءة البيضاء تغطي نصف جسده الأسفل، وذراعاه فضفاضتان مرتخيتان إلى جواره كذراعي المعطف الخالي، لا شيء فيه كان يتحرك إلا جَفنَيْه وشفتَيْه يفتحهما ويغلقهما في تتابع وانتظام، هو نفسه التتابع والانتظام الذي يعلو به صدره ويهبط، ومع حركة التنفس كان عِرْق في رقبته الرفيعة ينبض نبضًا بطيئًا، لا يكاد يُرى بالعين لكنه يُحس بطرف الإصبع.
ووضعت إصبعي على العِرْق حينما انبعث الصوت مرةً أخرى ولم أستطع أن أتحرَّك، حتى إصبعي ظل فوق العِرْق كأنما تجمد، لكني كنت ألمح أبي من الجانب، كانت جبهته العريضة بارزة، وعليها قطرات من عَرَق، وعظام وجهه مدببة عند الخدين، وأنفه طويل حاد ينتهي بشارب سقط شعره، ولم يَبْقَ منه إلا لون أسود فوق شفتيه الجافتين الصفراوين تنفرجان وتنغلقان.
هذه الحركة المتتابعة المنتظمة لا تزال عالقة بعيني، وصوت الأنين لا يزال في أذني يتتابع بانتظام كالشهيق والزفير، كدقات الساعة في الليل، لا أعرف بدايته، فهو لم يبدأ فجأة في ليلة معينة أو في ساعة أو دقيقة محددة، ولكنه بدأ بالتدريج فكأنه لم يبدأ وإنما كان موجودًا دائمًا، كأنما لم أَرَ أبي إلا راقدًا على هذا النحو في السرير، ولم أسمع له صوتًا إلا ذلك الأنين، بل كأنما الآباء كلهم يُولَدون على هذا النحو ويعيشون على هذا النحو، وعليَّ أن أقبل هذه الحقيقة كما أقبل حلول الظلام بحلول الليل، ومجيء النور بمجيء النهار، والهواء يدخل الأنف ويخرج بلا إرادة من أحد.
لكني كنت أعلم أن هذه ليست هي الحقيقة، فقد مرت بي فترة من حياتي أرى أبي فيها طويلًا ممشوقًا، يدب بحذائه على الأرض، ما زال صوت وقع كعبه على الأسفلت في أذني، خطوة وراء الخطوة في بطء وثبات وانتظام.
وكنت أسمع صوت أبي حين يتكلم، كان صوته خشنًا كصوت الرجال، لكنها خشونة ناعمة، أحس بها في أذني، وبالذات حين يناديني باسمي، كان لاسمي في أذني وقع غريب: دولت، لحرف الدال وقع خاص، كنت أذهب إلى المدرسة، وكانت المدرسة بعيدة، أركب إليها كل يوم قطارًا طويلًا له صفارة رفيعة ودخان أسود كثيف، أحببت هذه الفترة من حياتي بغير سبب واضح، ربما كنت أحب هزة القطار كهزة المرجيحة والنافذة العريضة وأعمدة السواري وهي تتراجع بسرعة إلى الخلف، أو أنني كنت أحب يد أبي الكبيرة في يدي وانقباضة أصابعه الكبيرة فوق أصابعي لحظة تلامس قدمي الدرجة لأصعد سلم القطار، أو لعلي كنت أحبه أكثر حين يمشي إلى جواري في شارع المدرسة وفي يده حقيبة كتبي الثقيلة، كنت قصيرة، قريبة من الأرض، أستطيع أن أرى قدميه الكبيرتين وهما تمشيان، القدم تنتقل وراء القدم ببطء منتظم ثابت، كأنما عرفت قدمه المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها بكلِّ حجمها، وتثبت فيه بكل ثقلها.
كان كل شيءٍ يبدو ساحرًا، أو بدا لي ساحرًا من بُعد، فلم تكن طفولتي كلُّها ساحرة، كان هناك إحساس غريب يفسد عليَّ حياتي، لم أكن أشعر به كل يوم لكنه كان كامنًا في نفسي، يتحرك لأقل هفوة تحدث، زلة بسيطة لقدم أبي وهو يهبط السلم، أو صوت فرملة شديدة وأبي يخترق الشارع، أو انقطاع شخير أبي لحظة وهو نائم، ربما كان يحرك رأسه، أو ينقلب فوق جنبه الآخر، لكن جسدي كان ينتفض فجأة بخوف غريب، كنت أخاف على أبي، أخاف أن يموت، لم أسمع كلمة الموت من أحد، ولم أر ميتًا من قبل لكني كنت أعرفها، كأنما الكلمة وُلِدت مع جسمي كذراعي وساقي، كالعضو تمامًا أكاد أحسها وألمسها، وكان ملمسها يبعث في نفسي قشعريرة كتلك القشعريرة التي كانت تصيبني إذا ما لامست يدي خطأً بطني أو ثديي.
لم أكن أعرف لماذا أخاف أن يموت أبي، كنت لا أعرف الطريق إلى المدرسة وحدي، وكان هو الذي يشتري لي الطعام والملابس، وهو الذي يجلس إلى جواري في السرير، ويحكي لي القصص حتى أنام، وكنت أنسى أحلامي كلَّها في الصباح إلا حلمًا واحدًا كان يظل في ذاكرتي، ذلك الحلم الذي يتحرك فيه القطار قبل أن أضع قدمي على السلم فيحملني أبي بين ذراعيه، ويضعني في القطار، ثم يقفز خلفي، لكن قدمه لا تصل إلى السلم فيدوس على الهواء ويسقط بين العجلات، وأهب من النوم مبلَّلة بالعرق، وحينما يصل إلى أذني شخير أبي من الحجرة المجاورة أتمتم بآيات الحمد؛ لأنه لم يكن إلا حلمًا، وأنام مرة أخرى.
وفي المدرسة حين كنت أسمع البنات يقلن إنهنَّ وُلِدن من أمهاتهن، كنت أقول: إن أبي هو الذي ولدني. وأسمع ضحكاتهن، لكني لم أكن أهتم بهن، بل كنت أحس بالزهو بيني وبين نفسي، فكلُّ البنات ولدتهن نساء، أما أنا فقد ولدني رجل، وكنت أعرف بطريقة خفية أن الرجال لا يلدون، ولكني كنت أعتقد أن أبي غير الرجال جميعًا، وأنه قادر على كلِّ شيء.
ولم أعرف لون عيني أبي حتى تلك اللحظة، كان جالسًا على الكنبة وفي يده شهادتي الابتدائية، وفجأة رفع رأسه ونظر في عيني، رأيت أن سواد عينيه ليس أسود تمامًا، وإنما يشف من تحته لون أزرق كسطح بحيرة، يترقرق كما لو كان ماء، ورأيت قطرة شفافة كالماء المقطر تلمع عند زاوية عينه، وتكاد تسقط من طرفها، لكنها اختفت فجأة كأنما تبحرت وكست عينيه لمعة غريبة.
لم أكن أعرف في ذلك الوقت ما معنى أن أنجح ولا معنى أن أفرح، لكن الفرح بالنجاح ارتبط في ذهني بهذه اللمعة، بهذه القطرة الشفافة التي تغسل العين ثم تتبخر كالهواء.
لم يكن النجاح أي نجاح بغير هذه النظرة، ولم يكن الفرح أي فرح بغير هذه اللمعة، وكنت أختلق أسبابًا لأحظى بأي نجاح وأجري إلى أبي ألهث، قد لا تكون إلا شهادة كرة السلة أو الإسعاف الأولى أو النظافة أو السلوك، لكني أضعها بين يديه، وأنظر في عينيه وأنتظر، وحينما نجحت في امتحان المسابقة في الثانوية العامة كان أبي في قريته بالصعيد، ولم أنتظر عودته بعد ثلاثة أيام، فسافرت إليه ووضعت الشهادة في يديه، وحينما رأيت في عينيه اللون الأزرق يترقرق، والقطرة الشفافة تتبخر عن تلك اللمعة، فرحت كما كنت أفرح وأنا طفلة صغيرة، بل إنني بعد أن كبرت أكثر ونجحت في امتحان الليسانس لم أفرح بالنجاح إلا حينما جلست إلى جواره في السرير، وكان لا يزال في بداية المرض، وقربت الشهادة من عينيه ثم نظرت فيهما، رأيت على عينيه سحابة خفيفة تكاد تخفي اللون الأزرق لكنه أدرك رغبتي، فإذا بالسحابة تنقشع لحظة ويضيء من تحتها اللون الأزرق المترقرق، والقطرة الشفافة ظهرت عند زاوية العين لكنها لم تتبخر بسرعة هذه المرة، وبقيت فوق طرف العين لحظة، ثم سقطت فوق يدي ساخنة ملتهبة كرأس عود الكبريت الملتهب.
لم أكن أعرف شيئًا عن المرض، لم أسمع الكلمة من قبل ولم أرَ في حياتي مريضًا، ربما سمعت كلمة المرض أحيانًا وربما رأيت مرضى، لكن ذلك كان يحدث بعيدًا عني، هناك في حياة الآخرين، في ذلك الطرف الآخر من الحياة حيث لا يوجد أبي ولا أوجد أنا، وحينما سمعت كلمة المرض من أبي لم أعرف شيئًا، كان لا يزال يمشي ويخرج ويأكل ويشرب، ظننته شيئًا كهذا الصداع الذي يأتي ويروح، أو ذلك الزكام الذي يرفع الحرارة ويضغط على الصدر أيامًا ثم يزول، وحينما أصبحت خطوته أكثر بطئًا لم ألحظ أنها أصبحت أكثر بطئًا، وحينما اشترى العصا وأصبح يتكئ عليها لم تبد لي العصا غريبة، وحينما رقد في السرير وأصبح لا يغادره إلا قليلًا لم يبدُ لي رقاده غريبًا، وحينما رقد تمامًا وأصبحت الممرضة تطعمه في السرير لم يبد لي المنظر غريبًا، كل يوم يحدث شيء صغير جدًّا لا يكاد يلفت النظر، كنقط الماء تنساب من صنبور لا نكاد نراها أو نحس بها، لكنها لا تلبث أن تملأ الحوض وتفيض، أو كخطوط الزمن تظهر على الوجه نقطة، ثم تملأ الوجه بالتجاعيد.
•••
وكان إصبعي لا يزال متجمدًا فوق العرق النابض، والصوت الغريب لا يزال في طبلة أذني ذبذبة دائمة تنتشر فوق جسدي كالقشعريرة، كنت أعرف أنه صوت أبي حين يناديني لكنه هذه المرة كان صوتًا مختلفًا عن كل المرات السابقة، عن كل الأصوات التي سمعتها، كان صوتًا خارقًا للطبيعة، خارقًا لكلِّ ما تعودته أذني من أصوات، خارقًا لكل تلك الطبقات الكثيفة من التعود المتراكمة طبقة فوق طبقة، آلاف الطبقات، ملايين الطبقات تراكمت في الأذن، وجعلتها في النهاية كأنها صماء.
ولأول مرة في حياتي أكتشف أن أبي مريض، وأنه راقد في الفراش لا يتحرك إلى آخر يوم في حياته، وأنه يتألم، ليس ألمًا عاديًّا يتحمله البشر، ولكنه ألم عجيب، ألم تذوب من شدته أنسجة الجسد نسيجًا نسيجًا، وينسحق تحته اللحم فوق العظم انسحاقًا كاملًا، ويبقى الجلد في النهاية، ويبقى وحده كالقشرة الصدفية بعد أن غلظ وتشقق وماتت فيه الأعصاب.
داهمني هذا الاكتشاف فجأة بغير لحظة ألتقط فيها نفسي، وكان إصبعي فوق العرق النابض ورأسي لا يتحرك ناحية أبي، لكن خط وجهه من الجانب كان عالقًا بطرف عيني كالشعرة، وكان إصبعي باردًا، والعرق ساخنًا، أرى حركته البطيئة بعيني، لكن أصبعي لم يحس النبض، وكنت أريد أن أحس النبض الذي كنت أحسه كل يوم، وضغطت على العرق، لكن العرق هرب من تحت إصبعي فضغطت أكثر.
لم أكن أعرف تمامًا ما الذي حدث لي في تلك اللحظة، فأحسست بدمي كله ينسحب من رأسي وصدري، وفخذي وساقي، ويتجمَّع في إصبعي، وتجمعت معه كلُّ قوتي وقدرتي على الضغط ولم يعد العرق محسوسًا لكني ظللت أضغط، كان رأسي باردًا خاليًا تمامًا من الدم، لم أفقد الوعي، بل إنني كنت أعي وأحس وأرى، ورأيت إصبعي الكبير الأسمر ضاغطًا على العرق الذي أصبح أبيض، ووجه أبي أصبح أبيض، ليس هذا البياض المألوف لأي شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء، وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء على النني الأسود، أو غشاء أبيض التصق بقاع العين.
ونظرت إلى الساعة، كانت الحادية عشرة تمامًا، سبع دقائق مضت منذ سمعت ذلك الصوت الغريب، لكنها بدت لي كسبع ساعات أو أيام أو سنين، وتلفت حولي في دهشة، كان الصوت قد ضاع من أذني وضاعت معه الذبذبة المستمرة على طبلة الأذن، وكأنما كانت فوق أذني طبقة سميكة كالسدادة سقطت فجأة، فأصبحت أسمع الأصوات لأول مرة في حياتي، واستطعت أن أسمع صوت العصفور الأخضر وهو يغرد، كنت أراه كل يوم بين فروع الشجرة المجاورة لنافذتي، وكنت أعجب كيف يقف على الفرع كل هذه الساعات دون أن يغرد أو أن يكون له صوت العصافير، لم أكن سمعت من قبل صوت العصافير لكني كنت أعرف أن لها صوتًا، وأنها تغرد فوق الشجر.
كنت أظنه عصفورًا أخرس، ولم أكن أعلم أنني لا أسمع.
وانطلقت أجري في الشارع كطفلة صغيرة، اكتشفت لأول مرة أن لها أذنًا تسمع، ولها عين ترى، ولها ساقاها يحملان جسدها، ويستطيعان أن يجريا بها إلى أي مكان.
ولم أكن أعرف أي مكان إلا عيادتك، كنت قد جئت إليك من قبل مرة، هل تذكرين؟ ذلك اليوم الذي أخذتك معي لتفحصي أبي، كنت أرى وجهك من الجانب وأنت تضعين السماعة على صدره وظهره، ولمحت العرق الطويل الذي نفر في عنقك، وحينما نظرت في عينيك بعد الفحص لم تكن بي حاجة إلى نغبشتك الكثيرة فوق الروشتة، كنت قد علمت أنه سيذوب شيئًا فشيئًا في الألم الطويل، وأنه سيسلم جسده جزءًا جزءًا للموت البطيء، سنة أو سنتان أو ثلاث قبل أن ينسحق جسده الكبير تمامًا وتنطحن عظامه العريضة المتينة.
كنت أعلم كل شيء، فقد رَسَمت عيناك أمامي شكلَ حياتي، ورسم إصبعك فوق إصبعي طريق نجاتي، ربما تنكرين كالآخرين لكني كنت أشجع منك، فهو كان أبي أنا، وليس أباك أنت، وكنت أنا قطعة منه، قطعة من جسده تذوب معه في الألم شيئًا فشيئًا، وتسلم معه للموت جسدها جزءًا جزءًا، وحينما كنت أضغط بإصبعي على العرق كنت قد عرفت أنني أنقذ نفسي، وأنني أشق لجسدي طريق حياته، ولم أكن وحدي … كنت أعلم أنك معي وكنت أرى إصبعك فوق إصبعي يضغط على قناة مولدي ويضغط، ويشد منها جسدي عضوًا عضوًا.
ورأيت عيادتك مغلقة ومظلمة فأخذت أجري في الشوارع كأنما بغير هدف، لكني كنت أبحث عن بيتك، كنت أبحث عنك لأقول لك: إنني أديت المهمة، إنني كنت أداتك الدقيقة، لم أكن إلا أداة دقيقة لكني نجحت، كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكني لم أعرف الطريق إلى بيتك، ووجدتني أجري إلى بيتي، وأندفع إلى حجرة أبي، كنت أظن أنه سيمسك شهادة مولدي بأصابعه الكبيرة الطويلة، وأنه سينظر في عيني بذلك النور الأزرق — المترقرق تعلوه القطرة الشفافة ومن فوقها اللمعة، لكن حجرته كانت خالية وسريره كان خاليًا، وعلى الشماعة الصغيرة خلف الباب رأيت معطفه، كان معطفه خاليًا، فدسست نفسي داخله، وملأت أنفي رائحة أبي فدفنت رأسي في صدره، وأمسكت ذراعيه ورفعتهما ليطوقاني، لكن ذراعيه سقطتا إلى جاوري مرتخيتين فضفاضتين كذراعي المعطف الخاوي.
•••
لم أكن أعرف أن الناس تولد في الألم، كنت أظن أن الناس تولد دون أن تشعر بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الذي يولد بغير ألم لا يولد، وأنه يظل كتلة لحم تنبض، كجنين في بطن أمه، يتحرك بإرادة أخرى غير إرادته، كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهوام، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الألم.
ولأول مرة أتحرك فوق إرادتي، كانت إرادة وليدة ضعيفة كطفل، لكنها كانت تحرك جسدي الطويل الفارغ، وحينما وصلت إلى الجريدة في ذلك اليوم لم أبتسم لأحد، كانت الابتسامة القديمة لا إرادية، تجعل شفتيَّ تنفرجان كلَّما قابلت أي إنسان أو أي أحد، ربما لا يكون إلا قطة تموء، أو كلبًا يقضم عظمة، فأرًا صغيرًا، أو سحلية تجري، لكني كنت أبتسم، لم يكن للابتسامة معنًى معينٌ، لكنها كانت دائمًا هناك على وجهي كجزء من ملامحي، كأنفي أو فمي.
وجلست إلى مكتبي لأكتب، لكني لم أكتب شيئًا، كنت أكتب كل يوم عمودًا، أضع الكلمة بجوار الكلمة، والجملة وراء الجملة، والسطر تحت السطر، فإذا بالمساحة البيضاء تصبح عمودًا طويلًا، لم أكن أعرف تمامًا ماذا أريد أن أقول للناس، فلم يكن عندي شيء أريد أن أقوله، وكان الناس يقرءون العمود كل يوم أو لا يقرءونه، لم أكن أعرف، فأنا لم أكن أكتب ليقرأ الناس، لم يكن هذا هو شرط العمل، كان الشرط الوحيد أن أملأ المساحة المحددة لي بالكلمات المطبوعة.
ولم أستطع أن أكتب، كان رأسي ساخنًا، وظل الورق أمامي أبيض، والقلم في يدي لا يتحرك، ورفعت رأسي من فوق الورق، كنت أجلس إلى أحد المكاتب في صالة كبيرة، أرضها بلاط على شكل مربعات، لأول مرة أرى هذه المربعات البيضاء الكبيرة، كانت محددة بشكل واضح كأنها بارزة فوق سطح الأرض، ورأيت فوق مربع منها في الركن المقابل لي حذاء رجل، كان الحذاء صغيرًا مخططًا بخطوط سوداء وبيضاء، تصورت لأول وهلة أن أحدًا خلع حذاءه ونسيه تحت مكتبه، لكني رأيت بعد لحظة أن الحذاء يهتز، ومن فوقه بنطلون له ساقان منفصلتان، تهتز ساق منهما وهي معلقة في الهواء فوق الساق الأخرى.
لم أكن حتى هذا اليوم أقسِّم الناس إلى جنسين مختلفين رجال ونساء، كان العالم كله برجاله ونسائه جنسًا، وكان أبي وأنا الجنس الآخر، كنت أظن أن أبي من جنسي، وأنه ليس رجلًا وأنني لست امرأة، لكن جهلي لم يكن جهلًا كاملًا، كانت تتخلله أحيانًا لمحات من المعرفة تومض لحظةً ثم تنطفئ، ولم تكن هذه اللمحات تحدث وحدها، كان هناك دائمًا سبب، صحوت في منتصف الليل مرَّةً أرتجف بعد حلم مزعج، فتركت حجرتي كعادتي وأنا طفلة وذهبت إلى حجرة أبي، كانت الملاءة قد سقطت عنه وهو نائم فأصبح عاريًا تمامًا، لم تكن المرة الأولى التي أراه فيها عاريًا، كنت ألمحه أحيانًا وهو يغير ملابسه، فإذا ما رآني استدار بسرعة وارتدى سرواله، لكن عينيَّ جمدتا هذه المرة فوق جسده كأنما أكتشف لأول مرة في حياتي أنه ذكر.
وبدت لي ذكورته غريبة جعلته في عيني رجلًا غريبًا لم أره من قبل، وحينما نظرت إلى جسدي انتابني إحساس أشد غرابة بنفسي كامرأة أو كجنس آخر غير جنس الرجل.
كان كل شيء يتكشف أمام عيني من خلال دخان كثيف مليء بالأشباح، وأصبحت أرتجف، وكنت على وشك أن ألقي بنفسي بين ذراعَي أبي وهو نائم ليطمئنني ويهدهدني ككل مرة، لكنه أصبح سبب ذعري فانطلقت خارج حجرته أجري، ودسست نفسي في سريري تحت الأغطية، وفي الصباح بدا كل شيء كالحلم المزعج، نسيته كما كنت أنسى كل أحلامي.
لكنه لم يكن نسيانًا كاملًا، كانت تمر بي لحظات، فإذا بجسد أبي يتراءى لي عاريًا، وأحيانًا أرى نفسي عارية، كنت أكره منظر الجسد العاري، كان يفزعني ومن شدة الفزع كنت ألهث وأحس الهواء يدخل صدري ويخرج بسرعةٍ وبحدةٍ كالإبرة.
كنت أضع إصبعي فوق الإبرة حين تدورين بسماعتك فوق جسدي، وحينما استقرت سماعتك على صدري وضغطت بيديك صرخت من الألم، لكنك لم تسمعي صوتي، كنت تنظرين إليَّ بعينين حجريتين، وتساءلت يومها أي نوع من البشر أنت، طبيبة هذا حق، ولكن ألست قبل كل شيء امرأة مثلي؟ ألا تكرهين مثلي قدم الرجل الصغيرة؟ ألا تكرهين حذاء الرجل المخطط مثلي؟
لا أظن أنك مثلي، لا أظن أن طبيبة مثلك لا ترى من الرجل إلا حجم قدمه ولون حذائه، لا بُدَّ أنك ترين في الرجل أشياء أخرى أكثر أهمية، ولكن هل هناك أشياء أخرى أكثر أهمية؟
خُيِّلَ إليَّ أنني سألتكِ هذا السؤال لأنكِ أجبتِ عليَّ، صحيح أنكِ لم تقولي شيئًا، ولكني فهمت نظرتك، عيناكِ تلجئين دائمًا إليهما حين ترفضين الكلام، وخرجتُ من عندكِ أحملق في الرجال، لم أكن أتصور أن الرجال منتشرون فوق الأرض بهذه الأعداد، وكان عليَّ أن أختار واحدًا، ولم أكن أعرف طريقًا للاختيار، الملامح كلها متشابهة، والأصوات متقاربة، والنظرات واحدة، والسراويل هي السراويل بساقَيها المنفصلتَين، وفي الجريدة لم يكن هناك إلا صاحب القدم الصغيرة والحذاء المخطط، كان يجلس إلى مكتبه ويضع ساقًا على ساق، وبعد لحظات تهتز ساقه العليا وتتذبذب قدمه الصغيرة المخططة في الهواء، كان دائمًا يكتب لكنه في ذلك اليوم رفع رأسه من فوق الورق وناداني باسمي.
رنَّ اسمي في أُذني بوقْعٍ غريب، دولت، خُيِّل إليَّ أن الحروف ليست هي الحروف، وأن الدال بالذات أصبح حرفًا آخر أكثر فخامة، أكثر خشونة، خشونة لا تُسمع بالأذن فحسب، ولكنها خشونة مادية يحسها الجلد فيقشعر وتبرز فيه منابت الشعر كالدمامل الصغيرة.
بل ليس هو الجلد وحده، إنه الجسد بكل ما فيه، بتلك النقطة المتمركزة فيه، حيث تتجمع كل أوتاره وحبال أعصابه، نقطة الوسط، أحسست بها تنتفض وتدور كالبِلية الصغيرة في أسفل صدري، في المثلث الصغير تحت معدتي، مدفونة هناك في مكانٍ سحيقٍ من نفسي.
كان دورانها في أحشائي مؤلمًا، ليس ألمًا مدببًا كنخس الإبرة ولكنه ألم مستدير لا يؤلم، يدور في حركة ضاغطة ويكاد يخنق لكنه لا يخنق، ويظل هكذا في البطن يدغدغ الأحشاء كدودة صغيرة.
ولعله كان يعرف؛ لأن يده امتدَّت بثبات وبغير تردُّد، يد مدربة تعرف طريقها، تعرف بدقة موقع النقطة، وهناك في أسفل صدري، في المثلث الصغير تحت معدتي، كنت أحس يده، قوته، ثابتة، باردة، كقطعة فوق جبهة ساخنة.
ووضعت يدي على جبهتي، كانت باردة هادئة والسماء أصبحت لها زُرقة واضحة كزرقة البحر، ورق الشجر أيضًا خُضرته واضحة، كلُّ الأشياء بَدَت بألوانها المحددة، وحينما سِرت في الشارع كانت خطوتي أسرع، كنت أريد أن أراكِ أو أريدكِ أن تريني، أن تنظري في عيني وتعرفي أنني أديت المهمة، أنني كنت أبحث عن عينيكِ لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكنكِ لن تكوني بالعيادة ولم أعرف طريق بيتك، لماذا أخفيتِ عني عنوان بيتك؟ ووجدتني أعود بسرعة إلى بيتي، وأندفع إلى حجرة أبي، كنت أظن أنني سأضع بين يديه خبر نجاحي وأرى في عينه فرحي، لكن حجرته كانت خالية وسريره كان خاليًا ومعطفه فوق الشماعة كان خاليًا، ووجدتني أقف كالتمثال أُحملق في المعطف الخاوي.
•••
كنت لا أزال أذهب كل يوم إلى الجريدة، وكل يوم يواجهني الحذاء الصغير المخطط من تحت المكتب، والساق تهتزُّ فوق الساق، ثم يرفع وجهه من فوق الورق ويرنُّ في الجو اسمي، دولت، لكن الحروف فَقدت في أُذني فخامتها وخشونتها، وبالذات حرف الدال لم يعد إلَّا دالًا كأيِّ دال في أي كلمة؛ دولة، دش، دلو، لم يَعُد له وقع خشن فوق جلدي ولم يَبعث الدوران في نقطة الوسط.
وأصبح يناديني بحروف أخرى، في كلِّ مرة يبحث عن حروف جديدة، عن خشونة جديدة، يُحسها الجلد فيقشعرُّ وتبرز فيه مَنابت الشعر كالدمامل الصغيرة، وفي يومٍ صفعني على وجهي كنوع من الخشونة، لم يكن أحد صفعني من قبل، ربما ضُربت في المدرسة وأنا صغيرة على أصابعي وعلى ركبتي، لكنني لم أُصفَع أبدًا على وجهي، وبَدت لي الصفعة غريبة، ارتطمت يده الباردة بعظام وجهي ولم تُؤلمني، لكني أحسست رطوبتها وبلولتها فوق صدغي كالبصقة، ولم أُخرِج منديلي من جيبي وأمسحها، كان ملمسها البارد الرطب يملؤني بالكبرياء فاستطعت أن أرفع عيني إلى وجهه، كان وجهه مسطحًا أملس بغير ملامح كبطن اليد.
في هذه اللحظة زممت شفتيَّ، وحينما ابتلعت لعابي وجدت له طعمًا مرًّا، وهبطت المرارة إلى جوفي وبدأت تضغط على صدري، أكاد أُحسُّها بكفي تحت جدار بطني، كانت صغيرةً أول الأمر ومستديرة كالحبَّة أو البِلْيَة، تَغوص حين أضغط عليها بإصبعي وتتوه في أحشائي، لكنها سرعان ما تطفو مرةً أخرى وأحسها تتحرك تحت يدي، كانت تتلوَّى حول نفسها كالدودة، وأحيانًا تلدغني فأضغط بيدي عليها لأخمد أنفاسها، لكنها كانت تفلت من تحت يدي وتنكمش ثم تنزلق لترقد بعيدًا في القاع، لم تكن ترقد ساكنة لكنها كانت تزوم وتنبش وتقرص، وتمدُّ بُوزها الطويل داخل معدتي، وتنفث نفسها في صدري ساخنًا مرًّا كالعلقم، يصعد إلى حلقي ويمتزج بلُعابي وأحاول أن أَبصقه لكنه لا يُبصق، وأحاول أن أتقيَّأ لكي أفرغ أحشائي، ويظلُّ هو يملأ جوفي بماءٍ ملحيٍّ كماء البحر.
ولم أُصدِّقكِ في هذا اليوم، لم أُصدِّق أن الأولاد يمكن أن يُخلَقوا في بحرٍ من المرارة، وخرجت من عيادتكِ دون أن أدفع لكِ جنيهَ الكشف، وذهبت إلى الجريدة، كنت أعلم أنني لم أَعُد أكتب، ولم أعد أملأ مساحتي لكني لم أكن أعرف مكانًا آخر.
ولم أجد مكتبي، ولم أرَ الحذاء الصغير المخطط من تحت المكتب الآخر، كانت مربعات الأرض تبدو غريبة بغير مكاتب، والوجوه كانت غريبة، وكل شيء كان غريبًا، فكأنني دخلت مكانًا آخر.
كان جسدي ثقيلًا متورِّمًا، لكني واصلت السير إلى بيتي، وعند الباب وضعت يدي في جيبي لأُخرج المفتاح، لكنَّ المفتاح لم يكن في جيبي، فطرقت الباب بإصبعي ثلاث طرقات ليعرف أبي أنها طرقاتي، ورأيت الباب ينفتح لكن الوجه لم يكن وجه أبي، كان وجهًا غريبًا لم أعرفه ولم يعرفني.
عدت إلى عيادتك في ذلك اليوم، لكن عيادتك كانت مغلقة مُظلِمة، وكنت قد أصبحت عاجزة عن المشي؛ فجلست حيث كنت على الرصيف أمام عيادتك.
ولم أستطع أن أجلس، كان بطني العالي يعوقني فاستلقيت على ظهري، لكني بدأت أحس الآلام في عمودي الفقري، حاولت أن أنقلب على جنبي لكن شيئًا كالجسم الغريب بدأ يزحف داخل بطني هابطًا كالسكين يشق لنفسه طريقًا في لحمي، أردت أن أصرخ؛ لكني خشيت أن يسمع الناس صوتي فيستيقظوا ويفتحوا نوافذهم ويُطلُّوا عليَّ، وكان فخذاي قد أصبحتا عاريتين ومن تحتهما تجمَّع الماء المرُّ كالبركة الصغيرة، لم أكن أعرف أن جسمي قادر على اختزان كل هذا الماء العكر. وتلفَّتُّ حولي، كانت البيوت كلها مغلقة مظلمة، والشارع ساكن، وهواء الليل البارد يضرب جسدي الساخن، كنت أُحس السخونة تذيب رأسي وتصهره كما تصهر كرة من الحديد، ويذوب عقلي من تحت العظام، فلا أكاد أُفيق إلا على صوت صفقات الهواء على جسدي كصوت الماء حين يُصَبُّ على الحديد الساخن.
وأفقت لحظةً على ضربة قوية في بطني كاللكمة المباغتة رفعتني فوق الأرض ثم أنزلتني بعنف، وسمعت صوت ارتطام عظام رأسي بالأسفلت، تفقَّدت رأسي فوجدته في مكانه، وتفقدت ذراعي وساقي، وامتدت يدي تتحسَّس الأرض من تحتي فإذا بأصابعي ترتطم برأسٍ ناعمٍ صغير فوق الرصيف.
ارتعدت أصابعي وهي تلامس الرأس، لم تكن لمست من قبلُ رأسًا صغيرًا إلى هذا الحد، ناعمًا إلى هذا الحد، نعومة تلتصق بالأصابع وتسري في الذراع والكتف والصدر ثم العنق، وتصبح في اللسان كاللعاب الدافئ، له طعم كالرحيق أو النبيذ العتيق، أرشفه وأمصُّه ولا أبتلعه، بل أَدعه في فمي حتى يذوب.
لم يكن النبيذ وحدَه هو الذي يذوب، كانت تذوب معه كل المرارة الملتصقة بفمي، المتراكمة في جوفي على مرِّ السنين، وأصبح جسدي خفيفًا، لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الكراهية ترسب في قاع الجسد كقطعة من حديد.
كنت لا أزال مستلقية فوق الرصيف وكل شيءٍ من حولي صامت ساكن، والسماء معلقة فوق رأسي، ونقط النجوم اللامعة تهتزُّ، ومن بعيد كانت هناك شجرة طويلة تمتزج كثافتها وسوادها بكثافة السماء وسوادها، وحينما يهبُّ الهواء الرطب تهتز الشجرة وتهتز معها السماء والنجوم.
وأصبح بصري حادًّا اخترق سواد السماء، ورأيت من فوقه طبقة زرقاء زرقة البحر، وخُيل إليَّ أنني أعوم في بحر الإسكندرية، وأنني ألفُّ ذراعي حول عنق أبي كما كنت أفعل وأنا طفلة، ويحملني الموج معه صاعدًا هابطًا، فإذا ما جاءت موجة عالية رفعتني معها إلى فوق حتى تلامس رأس السماء، ثم تهبط بي إلى تحت كأنما في جوف الأرض، وكنت أضحك وأقهقه بصوتٍ رفيعٍ حاد.
كدت أسمع صوت ضحكي وأنا طفلة، بل إنني كنت أسمعه فعلًا، الشهقة المتقطعة نفسها حينما كانت الضحكة تسدُّ أنفي وتكاد تخنقني كالدموع، ولا يعرف أبي أأضحك أم أبكي، وظلَّ الصوت في أذني، انتظرت لحظات لينقطع لكنه لم ينقطع، والتَفتُّ ناحية الصوت فتراءت لي طفلة ملامحها ملامحي وأنا طفلة، كنت أظن أنها مجرد صورة لكنها كانت تزحف على بطنها نحوي، ومددت إصبعي نحوها وأنا أظن أنه لن يمس إلا الهواء؛ لكن خمسة أصابع دقيقة ناعمة التفَّت حول إصبعي كخيط من الحرير، وسرى في ذراعي تيار كهربائي صعد إلى كتفي وانتقل إلى صدري وبطني وفخذي، فإذا بعضلاتي تتقلَّص، وذراعي وساقي تنثني فوق صدري وتتقوَّس، وإذا بجسدي يصنع تجويفًا كالكهف، زحفت إليه ودخلت فيه، كأنما هي تعرفه من قبل، وكأنما هو صُنع لها وبحجمها.
وحينما سَرَت حرارتي في جسمها الصغير الناعم كفَّت أصابعها الدقيقة عن الارتجاف، وسرى الدم في شفتيها الزرقاوين الملتصقتين وانفرجت شفتاها الدقيقتان عن فتحة ضيِّقة، خرج منها لسانها دقيقًا رفيعًا جافًّا كلسان العصفور الظمآن الجائع.
تلفَّتُّ حولي فرأيت البيوت كلها مغلقة مظلمة، والأرض أسفلت لم يَنبت عليها ورقة واحدة خضراء، تحسست الرصيف بيدي لَعلِّي أعثر على فتفوتة خبز لكن التراب ملأ كفي، لعقت بلساني جسدي أبحث عن قطرة ماء لكن جلدي كان جافًّا كجلد الحذاء، وبدأت الإبرة القديمة تنخس صدري تحت ثديي الأيمن فامتدَّت يدي تضغط على صدري، وانزلقت وحدها فوق ثديي تضغطه، والتقت أصابعي الخمسة حول الحلمة السوداء تشُدُّها وتضغطها وتعتصرها، لكن قطرة واحدة لم تخرج، وأحاطت يدي بالثدي الآخر والتفَّت حوله أصابعي تعتصره حتى كادت تنزعه من فوق صدري، لكنه كان جافًّا ناشفًا كضرع بقرة عجوز، وامتدت يدي الثانية تساعد الأولى وبدأت أصابعي العشرة من جديد تضغط وتعصر، وزحفت أصابعي النهمة إلى كتفي تضغطه وتعتصره هو الآخر وانتقلت إلى الكتف الثاني، ثم إلى فخذي وبطني وعنقي ورأسي تضغط على جسدي لتعتصره جزءًا جزءًا، لكن جسدي كان عقيمًا مجدبًا كالصحراء القحط لم تخرج منه قطرة واحدة.
كان اللسان الدقيق الرفيع لا يزال جافًّا، يخرج من الفتحة الضيقة ويدخل، ويخرج ويدخل، كأنه يلهث، وامتدت أصابعي لتلتفَّ مرةً أخرى حول ثديي، وراحت تعتصر جسدي مرة أخرى جزءًا جزءًا، كانت أظافري تغوص في لحمي ثم تخرج جافة كأنما جفَّ كل شيء في جسدي حتى الدم، وغرزت أسناني في جسمي لأنتزع قطعة لحم لكن أسناني كانت تخرج خالية نظيفة كأنما لم يَبقَ في جسمي إلا العظم، وكنت أرى أثر أظافري وأسناني على جلدي بقعًا زرقاء وخيوطًا طويلة كخيوط السوط، وملابسي تمزَّقت كلها فأصبحتُ عارية كما ولدتني أمي.
وكان اللسان الصغير الجاف لا يزال يلهث، وأنفاسه تَلفح وجهي ساخنة كأنها أنفاسي، بل إنها كانت أنفاسي فعلًا، تدخل فمي وتخرج بسرعة عجيبة، ولساني مع كلِّ نفس يدخل ويخرج ويدخل ويخرج بالسرعة نفسها والتتابع نفسه كأنما أنا التي ألهث.
لا أظن أنكِ لهثتِ مرةً، فأنتِ طبيبة لكِ عمل محترم ولكِ عيادة تدرُّ عليكِ ربحًا وفيرًا، ولا يمكن لكِ أن تتخيَّلي منظر لسان يلهث خاصةً إذا كان لسان طفل، في تلك اللحظة يصبح لسانكِ جافًّا حادًّا يلسع الحلق كلسان من اللهب، واللعاب يصبح كالجمرة المشتعلة تسقط في الجوف فتحرق المعدة وتخرق جدار البطن. كنت أقف في عرض الشارع عارية وقد تدلَّى لساني فوق ذقني وعنقي، وبرزت عيناي في وجهي كأني سأختنق، كنت أريد أن أصرخ ليسمع الناس صراخي، لكن النوافذ كلها كانت مظلمة مغلقة، ومن خلفها أناس راقدون أكاد أسمع شخيرهم، كنت أريد أن أدق بكل قوتي على أبوابهم، أو أجمع بين ذراعيَّ الحجارة وأقذف بها نوافذهم، كنت أريد أن أُوقظهم وأقول لهم شيئًا.
لكني رأيت اللسان الصغير يكفُّ عن اللهث، ويتدلَّى فوق الذقن والعنق الرفيع، ورأيت العِرق الطويل نافرًا من العنق ينبض، وامتد إصبعي يجس العرق، كان إصبعي باردًا والعرق ساخنًا، أرى حركته البطيئة بعيني، لكن إصبعي لم يحس النبض، كنت أريد أن أحس النبض الذي كنت أحسه من قبل، وضغطت على العرق، لكن العرق هرب من تحت إصبعي فضغطت أكثر.
كالحلم القديم رأيته في منامي منذ سنين ونسيته، لكني ما زلت أذكر ماذا سيحدث، وملمس العرق القديم لا يزال عالقًا بطرفه إصبعي حين كنت أضغط وأضغط وهو يهرب ويهرب، وانسحب الدم من رأسي وصدري وساقي وتجمع في إصبعي، وتجمعت معه كل قوتي وقدرتي على الضغط، ولم يَعُد العرق محسوسًا لكني ظللت أضغط، كان رأسي باردًا خاليًا من الدم لكني لم أفقد الوعي، كنت أعي وأحس وأرى كلَّ شيء، ورأيت إصبعك الصغير الأبيض فوق إصبعي الطويل الأسمر يضغط حتى أصبح العرق أبيض، والجسد الناعم الصغير أبيض، وكل شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء، وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء على النني الأسود أو غشاء أبيض التصق بقاع العين.
•••
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الفكر كالجسد يولد في الألم، كنت أظن أن أفكار الناس تولد دون أن يشعروا بشيءٍ، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الفكر الذي يولد بغير ألم لا يولد، إنه يظل كتلة لحم تنبض كجنين في بطن أمه، يتحرَّك بفكر آخر غير فكره، كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهوام، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الألم.
كان فكري وليدًا ضعيفًا لكنه استطاع أن يدفع جسدي الكبير الطويل في الطريق إلى عيادتك، كنت أريد أن أراك أو أريدك أن تريني، أن تنظري في عيني وتعرفي أنني أديت المهمة، أنني كنت أداتك الدقيقة، لم أكن إلا أداة دقيقة ولكنني نجحت، وكنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكنك لم تكوني بالعيادة، بحثت عن بيتك فلم أجده فعدت إلى بيتي، ودخلت حجرة أبي، كنت أعرف أن حجرته خالية وسريره خالٍ ومعطفه فوق الشماعة خالٍ، لكني وقفت في منتصف الحجرة أحملق في المعطف في دهشة وكأنه لم يخلُ إلا هذه اللحظة.
وذهبت إلى الجريدة ووجدت مكتبي، لم يكن هو مكتبي القديم الصغير، كان مكتبًا أكبر ومن فوقه بَنُّورة، ورأيت فوق البنورة كتابًا صغيرًا، نُقِشت على غلافه حروف أربعة، ربما رأيت الاسم من قبل، بل الكتاب أيضًا كنت أراه كثيرًا على مكتبي وربما كل يوم، لكن أصابعي لم تكن تمتد إليه، لم أكن أحس بحاجة إلى أن أفتحه أو أقرأه، لم أكن أقرأ شيئًا، كنت أكره الكلمات المطبوعة، الحروف كلها تبدو ليس سواءً كحروفي المطبوعة في مساحتي المحددة تصب في العمود كما تصب الخرسانة.
في تلك الليلة امتدت أصابعي إلى الكتاب، كان الفصل شتاءً والليل هبط والجريدة خلت وأنا أجلس وحدي إلى مكتبي، لم أكن أرى الكلمات بسبب الظلام؛ فأضأت المصباح إلى جواري، وسقط الضوء على الصفحة، ولأول مرة تظهر تحت عيني كلماته وأقرؤها، لم أكن أنتقل من كلمة إلى أخرى، كأنما كلماته ليست جملًا تُقرأ الجملة بعد الجملة، كانت عيناي تثبتان على الجملة الواحدة ليخطر لي شيء، فإذا ما انتقلنا إلى الجملة الثانية خطر لي شيء آخر، كرءوس الدبابيس أو كأرجل النمل الدقيقة، كانت الخواطر تمشي في رأسي وأكاد أسمع دبيبها، خواطر ليست جديدة بل هي قديمة قِدَم الأزل، كأن يُولد الإنسان من بطن أمه أو أن يموت الإنسان ويُدفن في قبر، لكن كل شيء أصبح عجيبًا مثيرًا للدهشة، ثم تأتي جملة جديدة تجعل الدهشة قديمة والحياة قديمة والإنسان قديمًا، وأكاد أحس البرودة تنتقل من أطراف أصابعه إلى القلم، وعتامة كالسحابة تحوم حول عينيه، لكن السحابة سرعان ما تنقشع وتسطع الحرارة فوق السطر المتألق الجزل، وأكاد أطمئن لحظةً فإذا بنبضي يزيد وأنفاسي تسرع، وأحاول أن أسبق اللحظة وأختلس النظر إلى السطر القادم بشيءٍ من الرهبة.
كالسحر، كالسر الخفي، يكمن في الكلمات المألوفة القديمة حين يضعها الكلمة وراء الكلمة؛ فتصبح فوق السطر كلمات جديدة لم أسمعها ولم أقرأها من قبل، كلمات خاصة به وحده، تصنع له دون الناس لغة أخرى، وأحزانًا أخرى، وأفراحًا أخرى، تبدو لنا غريبة، لكنا نعرفها، نكاد نحسها، في مكانٍ ما من أنفسنا العميقة، بل إنها هي أعماقنا البعيدة.
ولأول مرة يتراءى لي وجه أمي، كان مستديرًا أبيض في وسطه فتحتان مستديرتان زرقاوان زرقة بحر الإسكندرية، وكان صدرها مستديرًا أبيض، في وسطه شيء مدبب أسود سواد العرقسوس أدسُّه في فمي وأمصُّه، فإذا بسائل دافئ يملأ فمي وجوفي ويَثقل جفناي فأغمض عينيَّ وأنام.
وفي أول لقاء معه كان الفصل لا يزال شتاءً، ورذاذ المطر ينقر على نافذتي في الجريدة، كنت رأيته من قبلُ مرات كثيرة، لكني هذه المرة رفعت عينيَّ من فوق مكتبي وأظنه في اللحظة نفسها كان قد رفع عينيه من فوق مكتبه، وتلامست عيوننا الأربع بلا شيء يفصل بينها، فأصبح بياض عينيه فوق بياض عينيَّ، والسواد فوق السواد، وكدت أرى الزرقة اللامعة من تحت السواد.
وفتحت شفتيَّ كأنما سأقول شيئًا، لكن رأسه كان قد عاد إلى وضعه المعتاد فوق الورق من فوق المكتب، وانكفأت بدوري فوق ورقي، لكن حروفي فوق الورق أصبحت متعرِّجة تشبه حروفي وأنا طفلة صغيرة، الكلمة أضعها وراء الكلمة فتصبح فوق الورق جملة ركيكة، والخواطر التي تبرق في رأسي تنطفئ حين تلامس سطح الورق، وتصبح الفكرة الجديدة قديمة قِدَم الأزل، أن يولد الإنسان من بطن أمه، أن يموت الإنسان ويُدفن في قبر، منذ الأزل والناس من بطون أمهاتهم يولدون، ومنذ الأزل والناس يموتون ويُدفنون.
وتسربت عيناي إلى أصابعه الطويلة وهي تحيط بالقلم، وتمشي به فوق الورق ببطء منتظم ثابت، كالخطوات الواسعة البطيئة، القدم تنتقل وراء القدم ببطء وثبات، قدم عرفت المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها في مكانها بكل حجمها وتثبت فيه بكل ثقلها، وكدت أسمع لصوت قلمه على الورق وقعًا كوقع الخطوات، وتراءت لي قدما أبي الكبيرتان وهما تسيران إلى جواري في شارع المدرسة، وانفرجت شفتاي كأنما سأقول شيئًا، لكني لم أقل شيئًا، كنت أعرف أن أبي مات منذ سنين كثيرة وأنه لن يعود مرةً أخرى.
وانكفأت مرة أخرى فوق ورقي، بدأت أُحسِّن خطِّي وأكتب الحروف ببطء كما كنت أفعل وأنا صغيرة، وأَرجع بعيني فوق الكلمات لأضع النقط والهمزات والفواصل، وبدت لي أصابعي صغيرة قصيرة، كانت تبدو لي من قبلُ طويلة كبيرة، وبالذات في تلك اللحظة حين كنتِ تضعين يدكِ على معصمي لتحسي نبضي، كنت أخجل من منظر أصابعي الكبيرة السمراء بالقرب من أصابعك الصغيرة البيضاء، وكنت أظن أنك تحسِّين خشونة يدي فأسحبها من تحت يدكِ بسرعة، هل كنتِ تلاحظين؟
لا بُدَّ أنك كنت تلاحظين لأنكِ في كلِّ مرة كنتِ تدقِّقين النظر فيَّ وتفحصينني باستطلاعٍ شديد، كنتِ تكتشفين كل شيءٍ وتعرفين، وأحيانًا كنتُ أُخفي عنك بعض أشياء وأكذب عليكِ ولا أريدكِ تعرفين، ولا أريدك تكشفين وتفحصين، في تلك اللحظة كنت أكره عينيك، وأكره يديك، وأكره سماعتك المعدنية وإبرتك الحادة ومنظارك الغليظ، لكنكِ كنتِ تُصرِّين، تضعين عينكِ في ثقبه الواسع وتنظرين، ماذا كنتِ في تلك البؤرة السحيقة ترين؟ وكنت أسألك لكنك كنت دائمًا كأيِّ طبيب لا تردين، تخلعين قفازك وتمطِّين شفتيك وتضعين على الورق نغبشتك.
كان الألم في صدري تحت ثديي الأيمن، ينخس كالإبرة، ولم يكن دواؤك يخفف شيئًا، والأقراص المسكنة لم تكن تسكن، والمهدئات لم تكن تهدئ، لم يكن أي شيء يفعل أي شيء، وحينما أمسك القلم كان الألم ينتقل إلى كتفي الأيمن، ومن كتفي ينتقل إلى ذراعي ثم إلى كفي، فيصبح للقلم ثقل ويصنع فوق إصبعي حزًّا.
وأَبسط أمامك إصبعي ويصبح الحزُّ تحت عينيك لكنك لا ترين وتهزِّين رأسك بغير مبالاة ولا تصدقين، أي نوع من البشر أنت؟ ألم يُصِبْك مرةً ألم؟ ألم تتألَّمي أبدًا مرة؟ أم إن الطبيب قادر على أن يصنع من البشر حجرًا؟ وخرجت من عيادتك في ذلك اليوم على ألا أعود، فأنت تجهلين مرضي، ولا تحسين ألمي، وأبسط الأشياء عني لا تعرفين.
وذهبت إلى الجريدة، لا بُدَّ أن أذهب إلى الجريدة، ولا بُدَّ أن أجلس إلى المكتب، ولا بُدَّ أن أمسك القلم، ولا بُدَّ أن يتحرك قلمي فوق الورق، لكن حركتي غير حركته، حركته البطيئة المنتظمة والكلمات كالعلامات ثابتة فوق الورق، كعلامة القدم الكبيرة فوق الأرض الرخوة، تترك أثرًا راسخًا خطوةً بعد الخطوة.
لم يكن يرفع رأسه من فوق ورقه ليراني. لم يكن يراني. كنت أجلس فوق الكرسي ونصفي الأعلى ظاهر من فوق المكتب لكنه لم يكن يلحظه. كنت أظن أنه لا يلحظه لأنني لا أحركه. ربما كان يظنه تمثالًا نصفيًّا لامرأة جالسة إلى مكتب وفي يدها قلم. ربما حسبه إعلانًا في الجريدة. وحرَّكت يدي فوق الورق، لكنه لم يرفع رأسه، فملأت الورقة بخط يدي ثم طويتها ووضعتها في يده.
لا يمكن لكِ أن تعرفي هذا النوع من الألم، فأنت طبيبة ولست امرأة، هذه اللحظة حين تحس المرأة أمام الرجل أنها غير محسوسة، يصبح قلبها في تلك اللحظة كحجر صغير له بوز رُبط بخيط وأصبح يغوص في بطنها، قد يشد معه شيئًا من أحشائها وقد لا يشد، لكنه يظل في بطنها يصعد ويهبط ويروح ويجيء من الأمام ومن الخلف، ولا يستقر في مكان أو يهدأ.
ليتكِ كنتِ امرأة لتَعرفي! فالألم لم يكن أيضًا كهذا الألم، لم يكن هو حجرًا له بوز، بل كان هو القلب ذاته، بلحمه ودمه، يشده الحجر ويعتصِره الخيط فلا يصبح الوجع في البطن فحسب، وإنما ينتشر في كلِّ أنحاء الجسم.
وكان مكتبي بالدور الثاني أصعد إليه سلمًا ضيقًا له ثنية ملتوية، تضيق عند الوسط فلا تكاد تتسع الدرجة لجسد إنسان واحد. في ذلك اليوم كنت أضع قدمي على هذه الدرجة لأهبط، وكان هو في اللحظة ذاتها يضع قدمه عليها فإذا بنا نصطدم جسدًا لجسد، كانت ثنية السلم مظلمة وضيقة فدفعته بيدي قليلًا وسألته عن ورقتي المطوية وكلماتي، لكنه لم يكن يسمع أو لم يكن يتكلم، ودفعته بيدي مرةً أخرى لأسأله، لكنه لم يرد وضغط بجسده على جسدي، كان كل شيء مظلمًا وضيقًا لا يسمح بالحركة لكني استطعت أن أشد جسدي بعيدًا لأنظر في عينيه، وأرى الزُّرقة اللامعة من تحت السواد، لكنه كان يُحرِّك جِذعه نحوي فيبتعد رأسه، وأدفع جذعه بعيدًا عني وأُحرِّك رأسي ناحية رأسه، لكنه سرعان ما يلتوي على نفسه فإذا بالمؤخرة عندي والرأس عنده، وأدفعها بكلِّ قوتي وأقرب رأسي من رأسه، لكن المؤخرة تعود مرةً أخرى ويبتعد الرأس.
كانت درجة السلم ضيقة ومظلمة، وكان جسدانا يتلاطمان فوقها كثعبانين، أحدهما يريد الرأس والآخر يريد الذَّنَب، وكانت قدمي تنزلق أحيانًا فوق الدرجة فأُمسك بكلتا يديَّ في الترابزين حتى لا أسقط في بئر السلم، وأحيانًا تنزلق قدمه فإذا به يهبط كأنما سيسقط لكنه لا يسقط.
تمزَّقت ملابسنا وتصبَّب من جسدَينا العَرق وأصبحنا نلهث، لكنه كان مُصرًّا على أن يُعطيني المؤخرة وكنت مُصرَّة على أن آخذ الرأس، وكانت الظلمة شديدة، والمكان ضيق خانق والمعركة دائرة، لكني استطعت أن أتوقَّف لحظة لألتقط نَفَسي، وفي تلك اللحظة استطعت أن أرى المشهد، كنت أقف على أصابع قدم واحدة فوق الدرجة وجسدي كله يتأرجح في الهواء، وكان هو بجسمه الطويل معلقًا من ذراعه في الترابزين، والشعر الكثيف الأسود تحت إبطه ظاهر للعيان، وتراءى لي على الفور جسد أبي العاري حين رأيته في تلك الليلة، وبدا لي جسده غريبًا كما بدت ذكورة أبي، لكنها لم تكن إلا لحظة ضوء خاطفة وعاد جسدانا إلى التلاطم في الظلام.
لم نكن نكفُّ. في كل مرة نصطدم فوق الدرجة وهو يصرُّ وأنا أصرُّ وتتمزَّق ملابسنا ونعرق ونلهث ولا نكف، أحيانًا كانت تفاجئنا قدم صاعدة إلى الجريدة أو قدم هابطة فنتراجع بسرعة إلى الوراء كأنما لا يعرف أحدنا الآخر، فإذا ما ابتعد صوت القدم اندفع كلٌّ منَّا نحو الآخر كثَوْرَين وتلاحمنا، وفي مرة لمحت رئيس التحرير نفسه صاعدًا، فتراجعت بسرعة وزلت قدمي وكدت أسقط فوق صلعته لولا أنني قفزت وأمسكت الترابزين بأصابعي العشرة.
لا يمكن أن تكوني عرفت هذا النوع من الإصرار فأنت طبيبة ولست فنانة، هذه اللحظة حين يحس الفنان أمام الفنان أنه غير محسوس، أو حين يحس الكاتب أمام الكاتب أنه غير مقروء، تذوب الألوان كلُّها في لون واحد هو اللون الأسود، المكتب والجدار والأوراق والأصابع والأظافر كلها تصبح سوداء، ليس ذلك اللون الأسود المألوف الذي نراه بعيوننا حين ننظر إلى شيء أسود كالحبر، ولكنه سواد غريب لا نراه إلا إذا أغمضنا عيوننا، فإذا بالسواد ليس لونًا ولكنه نسيج سميك يبطن الجفن ويمنع الضوء عن العين، كل الضوء.
هل جربتِ هذا النوعَ من الفزع؟ حين ينقطع تيار الكهرباء فجأة، وتحملقين في الظلام لحظة؛ فيُخيَّل إليكِ أنكِ فقدتِ البصر؟ وهو ليس فزعًا فحسب، إنه نوع مفزع من الألم، يجعلك كالعمياء مع أنك تبصرين أو كالمبصرين مع أنك عمياء، ويصبح الفرق بين الإبصار والعمى كالشعرة لا تكاد تُرى ولكنها تُحَس داخل العين، تخترق السواد كسكين وتحتكُّ بالبياض في كل ارتفاعة أو انخفاضة جفن.
كدتُ أصطدم بالباب وأنا أخرج من الجريدة، وفي الشارع مشيتُ فوق الرصيف بجوار الحائط، كنتُ أخشى الاصطدام بشيء، ووجدتني أمام عيادتك، وصوبت كشافك في عيني، كانت الشعرة هناك تمامًا تحت بؤرة عدستك تكاد تدخل عينك لكنك لم تريها، شككت يومها في كل طبك.
فماذا علَّمك الطب إذا لم يُعلِّمْك مثل هذه الأشياء البسيطة؟ أما كان في وسعك أن تمدي ملقطك الصغير وتسحبي الشعرة كما يسحب أي رمش سقط بين الجفن والعين؟ ورغم ذلك كنتِ متغطرسة كأيِّ طبيب، غسلتِ يديكِ وأطبقتِ شفتيكِ وأُذنيكِ ووضعتِ نغبشتكِ على الورقة، ثم انزلقتِ بالمعطف الأبيض من الباب الصغير واختفيتِ.
وعدتُ إلى الجريدة، كانت قدماي تعرفان الطريق ولم يكن هناك طريق آخر. في ذلك اليوم جلست إلى مكتبي كعادتي ألهث وكان هو يجلس كعادته إلى مكتبه يلهث، وفجأة التفَّت أصابعه الطويلة حول ورقتي المطوية. لم تكن الورقة مطوية، وثبتت عيناه فوق كلماتي لحظة طويلة طول اليوم، وفجأةً رفع رأسه وكان رأسي مرفوعًا من قبل؛ فتلامست عيوننا الأربع بلا شيء يفصل بينها، وأصبح بياض عينيه فوق بياضي، وسواده فوق سوادي، واستطعت أن أرى تحت سواده زرقة تلمع فوقها حروف كلماتي، ووجدتني في لحظة عند مكتبه، كتفي عند كتفه، صدري عند صدره، وشفتاي عند شفتيه، وركبتاي فوق ركبتيه، وجلست على ركبته كما كنت أفعل مع أبي وأنا طفلة، كنت أريده أن يحرك ركبتيه كالمرجيحة كما كان أبي يحركهما، وأهتز في الهواء كما كنت أهتز، لكن عيون الزملاء الآخرين كانت قد بدأت تلحظنا، والمكتب كان يعوق ركبتيه فانثنى بجسده الطويل تحت المكتب وأخذني معه، كانت الأرض بلاطًا والجو شتاءً، فأصبح لاحتواء جسده لجسدي دفء غريب، وتكوَّرتُ على نفسي كالجنين ليحتويني أكثر وأكثر.
لم أعرف تمامًا ما الذي كان يحدث، لكني كنت أحسه إحساسًا أكثر من قدرتي على المعرفة، أكثر من قدرة الكلمات ومن قدرتي على استعمال الكلمات، ليتكِ كنتِ امرأة لتعرفي! هذه اللحظة حين يحتوي الرجل المرأة وحين تحتوي المرأة الرجل ويصبح كل شيء فيهما متطابقًا متلامسًا متلاصقًا لا يسمح بمرور شيء بينهما ولا حتى الهواء.
لا أذكر أنني كنت أتنفَّس، لم يكن هناك هواء، لكني لم أكن أُحسُّ بالاختناق أو الرغبة في الهواء، بل إنني رغبت في أن أختنق، في أن تنضغط ضلوعي أكثر فيفرغ صدري من الهواء، ويفرغ بطني من الهواء، وتنعصر كل خلية من خلاياي ليخرج ما فيها من فقاعات الهواء، كنت أحس فقاعات الهواء في جسدي ورأسي كالأورام الصغيرة تضغط على اللحم والعروق والعصب.
كنت أنضغط، وأورامي الصغيرة تنضغط معي حتى تنفقئ؛ فإذا بها تزول الواحدة وراء الأخرى في تتابع غريب وانتظام غريب، وزالت كلها إلا واحدة لم تنفقئ ولم تُزَل، وظلت وحدها تدور كالدمل الصغير، أو كالحبة تدور بحملها وتمتلئ بالهواء والماء وتنتفخ ولا تريد أن تنفجر.
حينما خرجنا من تحت المكتب في ذلك اليوم لم تكن هي انفرجت بعدُ ولم نكن نحن تباعدنا بعدُ، كانت أصابعي لا تزال تتفكك من أصابعه، وحينما نظرت إلى أصابعي خُيِّل إليَّ أنها ضُغطت وكُبست فصغرت ونعمت وبرمت أطرافها، وخرجت من الجريدة وأسرعت إلى عيادتك، كنت أريدك أن تجسي نبضي، أن تضعي يدك على يدي لتصبح أصابعك فوق أصابعي، وحينما أصبحت أصابعك فوق أصابعي في ذلك اليوم لم أسحب يدي بسرعة كما كنت أفعل، تلكأت وتعمدت أن أتركها تحت يدك فترة طويلة، كنت أريدك أن تنظري إلى أصابعي وتري أنها أصبحت مبرومة وناعمة، لا تقلُّ نعومة عن أصابعك، لكنك لم تنظري إليها، كنت تنظرين إلى عقرب ساعتك وتعدِّين النبض، لم أكن أتيت إليك من أجل النبض، لكنك لم تستطيعي مرة واحدة أن تفهميني، لم تدركي أبدًا ما الذي يدور في نفسي، وكنت أقول لكِ إن في أعماقي شيئًا يدور، وأُمسك بيدي إصبعك وأضعه في المثلث فوق معدتي، كانت النقطة تحت طرف إصبعك مكورة كالحبة تلف حول نفسها وتدور كالنحلة، لكن إصبعك لم يكن يحسها أو يحس حركتها.
ولم تكن حركتها أول الأمر شديدة، كانت لها حركة خفيفة، أحسها في بطني تمشي بِرقَّة فوق جدران شراييني كالموجة الهادئة الصغيرة، ثم أصبح لها صوت كالنبض، كالقلب تمامًا، أصبحت تدقُّ دقات ناعمة ضعيفة تكاد لا تكون مسموعة، لم أكن أسمعها بأذني لكني كنت أحسها تحت كفي ارتعاشات كالذبذبات الدقيقة، كالماء الدافئ ينسكب برفق تحت الجلد، أو كتيار الدم الساخن يمشي في العرق.
وأصبحت أسمعها بأذني دقة دقة، تنتقل من بطني إلى صدري إلى عنقي؛ فإذا بي أسمع النبض في رأسي كأنه نبضي، وحينما أضع يدي على بطني أحس حافتها الناعمة المستديرة وأكاد أمسكها لكنها كانت تنزلق من بين أصابعي وتختفي في أحشائي، وأخفي يدي وراء ظهري وأنتظر، كانت تطفو مرة أخرى تحت جدار بطني، وتسري نعومتها في صدري فأمدُّ يدي من خلف ظهري بهدوء شديد، وأحاول أن ألمسها بطرف إصبعي لكنها سرعان ما تنكمش كالقنفذ، وتغوص في القاع البعيد.
وكما لو كنا نلعب معًا، فأضع يدًا على عينيَّ لأغميهما، وأخفي اليد الأخرى تحت اللحاف وأكتم أنفاسي، وحينما يسود السكون تبدأ تتحرك من مخبئها، وتمد ذراعًا صغيرًا ناعمًا تستكشف به الطريق، فإذا ما اطمأنت عادت إلى السطح وبدأت تلعب وتقفز وترفس الهواء بيديها ورجليها، وأحس رفساتها على جدار بطني، تصطدم وترتد، ككرات صغيرة من القطيفة.
وكان بطني يعلو ويتقوَّس حولها ليحوطها، ويكاد يصطدم بالمكتب كلَّما نهضت أو جلست، فأحوطه بذراعي كلما تحرَّكت، وأكاد أحمله بكفي وأنا أمشي، وفي الشارع أرفعه إلى فوق ليراه الناس وأزهو به، وفي السرير أضعه على صدري وأكاد أهدهده.
ليتك لم تكوني طبيبة وكنت أمًّا لتعرفي! هذه اللحظة حين تضمين ذراعيك فلا تقبضان الهواء وإنما جسمًا صغيرًا ناعمًا نعومة بطنك، ساخنًا سخونة صدرك، يبدأ السائل الدافئ يمشي ويتجمع في ثدييك، كأرجل النمل الدقيقة أو كحبات الرمل الناعمة تبلغ من دقتها ونعومتها أن تبعث القشعريرة في كلِّ جسدك.
كانت قشعريرة غريبة تنتشر فوق الجلد كالرجفة، كالرهبة تسري في القلب وتنتقل إلى الأحشاء، وأضع أذني على بطني وأخاف، أخاف أن يضيع النبض من أذني، أن تتوقف الرفسات القطيفية فجأةً ويصبح كلُّ شيء هامدًا كالجثة، وأدس نفسي تحت الأغطية وأرتعد، وحينما أغمض عيني لأنام لا أنام، وتظلُّ الرعدة في جسمي وفي أحشائي، ويبدأ الجسم الناعم الصغير يهبط، أحس رأسه الدقيق المستدير هابطًا فوق عظام ظهري، وأكاد أرى شعره الأسود الناعم من خلال جدار بطني، ويهبط حتى يُخيَّلُ إليَّ أنه سيندفع خارجًا لكنه لا يخرج، ويظلُّ بين عظمتَي الحوض محشورًا طول الليل ولا يريد أن يهبط.
وأملأ صدري بالهواء وأكتمه، ثم أضغط بكفَّيَّ الاثنتين وأدفعه، وأحيانًا أقفز على أطراف أصابعي وأهزه ليسقط، وفي الجريدة حين أجلس إلى مكتبي أحس به مضغوطًا بين عظمتَي الفخذ، فأَهُبُّ واقفة متوهِّمة أنه سيسقط لكنه لا يسقط، ويبقى في مكانه لا يتزحزح.
لم يكن يؤلمني، كانت عظام رأسه مستديرة وناعمة تضغط برفق شديد فكأنما هي لا تضغط، وشعره الطويل الناعم كخيوط من حرير تلامس جلدي، فيَسْري في جسدي تيار ناعم أحسه في صدري كأرجل النمل الدقيقة تمشي وتتجمع في ثديي، وتمتد أصابعي لتلتف حول الحلمة السوداء، أصابع باردة ترتجف، على أطرافها شيء لا يزال عالقًا كالحلم القديم، كملمس الحلمة الجافة العقيم، تنضغط تحت الأصابع، تحت الأصابع العشرة، وتنعصر فلا تخرج قطرة واحدة ولا نقطة، كحلم رأيته في المنام ونسيته منذ سنين لكن قلبي أصبح كالطبلة يضرب، وصدري يعلو ويهبط، وأصابعي العشرة تقلصت حول الحلمة كأصابع من حديد.
لا أظنكِ تتصورين ما الذي حدث في تلك اللحظة، فأنت طبيبة وليس لك ثدي لتعرفي، كانت أطراف أصابعي باردة مثلجة فإذا بشيء ساخن سخونة الدم ينزلق فوق أصابعي، لم يكن أحمر اللون كالدم، كان أبيض ناصع البياض كالضوء الأبيض، وكان يندفع من الثقب الضيق كنافورة، ويجري بين ذراعيَّ كالنهر.
في هذه اللحظة اندفع جسدي في الشارع يركض، وسمعت صوت كعب حذائي وهو يقفز على الأسفلت ويطرقع، هذه الطرقات نفسها لا تزال عالقة بأذني من سنين طويلة، حين نجحت في الامتحان الأخير وجريت إلى أبي وأعطيته الشهادة، وتراءت لي العينان السوداوان، ومن تحت السواد الزرقة تترقرق كسطح البحيرة، ولم أذهب إلى بيتي، كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحي، وحينما رأيت النور في نافذتك قفزت وكدت أنكفئ على وجهي، لكنك كعادتك نظرت إليَّ بعينيك الحَجَريتين ثم وضعت منظارك، كان الرأس المستدير بشعره الأسود الناعم محشورًا بين العظمتين تحت عينيك، لم تكن شعرة في العين يمكن أن تهرب منك تحت الجفن، كان رأسًا بأكمله بكل عظامه ولحمه وشعره، لكنك لم تَرَيْه، وصرخت في وجهك وضغطت بأصابعي على صدري فاندفع الخرطوم الأبيض الساخن في عينك، لكنك خلعت قفازك وغسلت يديك ومصمصت شفتيك ووضعت نغبشتك على الورقة وبدأت تستديرين لتعطيني ظهرك.
لكن ذراعي امتدَّ وحده وأوقف دورتك حول نفسك، وأصبحت كفي فوق عنقك، كان العرق الطويل في عنقك ينبض، وكانت أصابعي باردة مثلجة ترتجف، على أطرافها شيء لا يزال عالقًا كالحلم القديم، كملمس العرق النابض الطويل، ينضغط تحت أصابعي، وينضغط حتى يُصبح كل شيء أبيض، وأصبح عنقك أبيض، ووجهك أبيض، وشعرك أبيض، ومعطفك وأصابعك وأظافرك كلها دُهنت باللون الأبيض، ليس هذا البياض المألوف لأي شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء التصقت منذ سنين بسواد العين.
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الحرية كالجسد تولد في الألم، كنت أظن أن الناس تولد أحرارًا دون أن تشعر بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الحرية التي تولد بغير ألم لا تولد، أنها تظل فكرة مجردة تنبض في الرأس، كجنين في بطن أمه يرفث ولا يخرج، ككتلة من اللحم تتحرك كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهواء، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الحرية.
كانت حريتي وليدة طفلة لكنها استطاعت أن تدفع جسدي الكبير الطويل في الطريق، كنت أُحرِّك ذراعي وساقي في الهواء كأنما أحرِّكهما لأول مرة، وذهبت إلى الجريدة، وجلست إلى مكتبي، ورأيت أصابعي الطويلة تلتفُّ حول القلم وتمشي به فوق الورق في بطءٍ وثباتٍ منتظم، كالخطوات البطيئة الراسخة، القدم تنتقل وراء القدم في ثقة، قدم عرفت المسافة خلفها والمسافة أمامها، وعرفت بالضبط أين تضع نفسها في الخطوة القادمة، فتضع نفسها في مكانها بكل حجمها وتثبت فيه بكل ثقلها، وكنت أنتقل من كلمة إلى كلمة، وتثبت عيناي على الجملة الواحدة ليخطر لي شيء، فإذا ما انتقلتا إلى الجملة الثانية خطر لي شيء آخر، كرءوس الدبابيس أو كأرجل النمل الدقيقة كانت الخواطر تمشي في رأسي وأكاد أسمع دبيبها، خواطر ليست جديدة، بل هي قديمة قدم الأزل، كأن يولد الإنسان من بطن أمه، أو أن يموت الإنسان ويُدفن في قبر، لكن كل شيء أصبح عجيبًا مثيرًا للدهشة، ثم تأتي جملة جديدة تجعل الدهشة قديمة والحياة قديمة متكررة كالحلم القديم، وأكاد أحس البرودة على أطراف أصابعي وعتامة كالنقطة البيضاء فوق عيني، لكن السحابة سرعان ما تنقشع ويسطع الضوء فوق السطر، وأكاد أطمئن لحظة فإذا بنبضي يزيد وأنفاسي تسرع، وأحاول أن أسبق اللحظة وأختلس النظر إلى الكلمة الوليدة القادمة بشيء من الرهبة.
كالسحر، كالسر الخفي، يكمن في الكلمات المألوفة القديمة حين أضعها الكلمة وراء الكلمة فتصبح فوق السطر كلمات جديدة لم أسمعها ولم أقرأها من قبل، كلمات خاصة بي وحدي، تصنع لي دون الناس لغة أخرى، وأحزانًا أخرى، وأفراحًا أخرى، تبدو لي غريبة، لكني أعرفها، أكاد أحسها في نقطة بعيدة في أعماقي السحيقة، لها نبض كنبض القلب ولها ملمس ناعم مستدير كملمس الكبد.
وامتدت يدي تتحسَّس قلبي فإذا بأصابعي تلتفُّ حول جسم صغير، له رأس مستدير شعره ناعم، وله عينان واسعتان يشفُّ سوادهما من تحته لونًا أزرق يترقرق كسطح بحيرة، تذكرت عينَي أبي وهما تنظران إليَّ لحظة نجاحي.
وبدأ قلبي يدق دقَّته حين يفرح، وضممت ذراعيَّ وكتفيَّ ونهديَّ على الجسم الناعم الصغير، وضغطت وكدت أضغط أكثر وأكثر لولا أنه فتح شفتيه الصغيرتين وأخذ يلهث، ورأيت لسانه الصغير نديًّا أحمر كلسان العصفور، فانزلق ثديي وحده خارجًا من فتحة الثوب، وارتجفت الحلمة السوداء لحظة في الهواء، على جلدها الأسود المجعد شيء لا يزال عالقًا كالحلم القديم، كملمس لسانٍ جافٍّ صغير وفكَّين بغير أسنان ناعمين وصغيرين يضغطان ويضغطان، ثم اندسَّت الحلمة داخل الفم الصغير فقبض عليها الفكان الصغيران الناعمان.
وأحسست شيئًا ناعمًا دافئًا يسري من مؤخرة رأسي إلى ثديي إلى الحلمة إلى داخل الفم الصغير كخيط رفيع من الدم الساخن يسري في شريان واحد طويل.
وثقل جفناي وانسدلا فوق عينيَّ كأنما سأنام، أو كأنما سأفقد الوعي، لم أكن أعلم حتى تلك اللحظة أن شدة اللذة كشدة الألم يعجز المرء عن حملها فيفقد الوعي.
على أنني لم أفقد الوعي تمامًا، كنت يقظة أحس الجسم الصغير الناعم فوق صدري، وكان قد بدأ يغمض عينيه كأنَّما من شدة الشبع وتراخت قبضة فكيه على الحلمة كأنما سينام.
تأمَّلْت الملامح الدقيقة المستسلمة للنوم، ملامح مألوفة رأيتها من قبلُ مئات المرات، آلاف المرات، في المرآة، في صور الحائط، وبالذات تلك الصورة المعلقة في حجرة نومي، صورتي وأنا طفلة نائمة على بطني فوق السرير.
أللمرة الثانية أولد؟ ولمرة ثانية أعيش حياتي وأبدؤها من جديد؟ كبكرة خيط دارت وفرغت ثم امتلأت ﺑ «الماكوك» لتدور من جديد؟
امتدَّ إصبعي يتأكد من ملمس الجسم الصغير، فالْتفَّت الأصابعُ الخمس الدقيقة حول إصبعي كالخيط الحرير، أصابع صغيرة سمراء بلون أصابعي وأظافرها لها شكل أظافري، لكن أصابعي كبيرة خشنة وعظام ذراعيَّ وساقيَّ كبيرة وضخمة كعظام شخص عجوز غريب.
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة من أين جاء، لم يكن طفلًا عاديًّا له ككل الأطفال أب، لم أعرف له أبًا وما حاولت أن أعرفه وما كان في إمكاني أن أعرف لو أنني حاولت، كل ما كنت أعرفه أنني أمُّه وأنني أُطعمه وأَكفيه.
وكان هو يكفيني، أنظر في عينيه الواسعتين وأرى من تحت السواد الزرقة اللامعة كسطح البحيرة فلا أكاد أُحس بجوع، ولا أرغب في النوم.
أقبض عليه بذراعيَّ فوق صدري، وأخاف أن أنام ثم أصحو في الصباح فإذا به تبخَّر وضاع كالحلم، فإذا ما سقط جفناي وحدهما فوق عينيَّ أضم ذراعيَّ عليه، وحينما أحسُّه بينهما يُخيَّل إليَّ أنه حلم وأخاف أن أفتح عيني فأصحو ويتبدد كل شيء.
لم أكن أتركه وحده، فأضعه في حقيبتي وأذهب به إلى أي مكان، وفي الجريدة أخبئه في الحقيبة داخل الدرج، ومن حين إلى حين أفتح الدرج ثم الحقيبة وأنظر في عينيه، وحينما تطالعني الزرقة الصافية من تحت السواد أقهقه بضحكة عالية.
لم يكن أحد يَفطن إلى ضحكتي، كنت أكتمها قبل أن تخرج فإذا خرجت لم يُصبح لها صوتٌ، كنت أخاف أن يعرف أحد أنني أضحك فيبحث وينقب، وقد يفتح درجي خلسة ويجد الحقيبة.
كان للدرج قفل وللحقيبة مفتاح أخفيه في الخندق العميق بين ثدييَّ لكني كنت أخاف، أخاف أن تراقبني عين وترى مكان المفتاح، وكانت أمامي عين بالذات تراقبني، وفي مرة رأتني وأنا أُخرج المِفتاح من فتحة ثوبي فاحتضنت حقيبتي وخرجت أبحث عن مخبأ جديد.
في مكان بعيد خالٍ فتحت الحقيقة فإذا به يخرج وحده ماشيًا على قدميه، كان الهواء باردًا فخلعت سترتي ودثرته، وأمسكت أصابعه الصغيرة بأصابعي، كان يشد أصابعه ليخلصها من أصابعي ويجري لكني كنت أجري خلفه وأخاف أن يجتاز الشارع وحده، كان صغيرًا نحيلًا وسط الشارع المزدحم بالناس وبالعربات كالنقطة البيضاء في بحر أسود متلاطم الأمواج.
كان كثير الحركة والقفز وأنا من خلفه أحاول أن ألحق به وأحوطه بذراعيَّ، لكنه كان يتملَّص مني ويفلت من قبضتي، يريد أن يهرب مني لكني لم أَدعه يهرب، كنت ألازمه كظلِّه، كجزء من جسمه، كيَدِه أو ذراعه أو رأسه، وفي مرة خبط رأسه في الجدار ليتخلص من ثقل جسدي، لكنني كنت أصلب من الجدار، وحينما كانت أصابعي تصل إلى أصابعه تنقبض عضلات يدي على يده إصبعًا إصبعًا، فإذا ما حرر إصبعًا أو كاد التف حوله الخيط من جديد كنسيج العنكبوت، وفي مرة غرز أسنانه في يدي وعضَّني لكن عضلاتي لم ترتخِ، كنت أخاف أن أُطلق سراحَه فيجري بعيدًا عني ويضيع مني في الشارع المزدحم وقد تَدْهَمه عربة أو يبتلعه الخضم.
وفي الليل لا أنام إلا وأصابعي تلتفُّ حوله، وأنتظره حتى ينام قبلي، أخاف أن أنام قبله فترتخي أصابعي وينزلق من بينها ويهرب.
وكنت أطعمه بالنهار فينمو بالليل، أفتح عيني كل صباح فأجد ذراعيه وساقيه أكثر طولًا وأثقل وزنًا، وأصبحت يده أكبر من يدي، وأصابعه أطول من أصابعي، وقامته زادت عن قامتي، كنت أريده صغيرًا خفيفًا لأحمله في صدري وأخبئه، وأريد أصابعه صغيرة ورفيعة لألف حولها أصابعي، لكن أصابعي لم تعد تلتفُّ حول يده واستطاع أن يفلت مني.
وجريت وراءه، كنت أجري بأقصى سرعتي لكن خطوته كان أسرع من خطوتي، وساقاه أكثر طولًا وأكثر مرونة من ساقيَّ، وأخذَت المسافة بيني وبينه تزيد، فأزيد سرعتي وألهث، كان الطريق مزدحمًا بالناس والعربات، وكنت أراه من ظهره وأعرفه من بين الناس بمشيته السريعة وشكل أذنيه الصغيرتين الحمراوين والحسنة السوداء فوق رقبته من الخلف، كان يجري دون أن يتنبَّه إلى العربات المتسابقة، وكلَّما سمعت فرملة شديدة مفاجئة صرخت: ابني!
لكن الطريق أصبح أقل وضوحًا كأنما الشمس بدأت تغرب أو أن ضبابًا خفيفًا بدأ يغشى عيني، ولم أعد أرى ظهره ولا أذنيه، لكن الحسنة السوداء ظلت أمام عيني تهتزُّ، لكنها سرعان ما ابتعدت واختفت.
واختلطت ظهور الناس المتزاحمة أمامي فلم أعد أُميِّزه من بينهم، وتعثرت قدماي في حجر صغير فسقطت، ظننت أنني سأنهض ككل مرة وأستأنف الجري لكن حركة ساقيَّ أصبحت بطيئة، وفقرات عظام ظهري أصبح لاحتكاك بعضها بالبعض صوت خشن، وشيء ينطحن بين الفقرتين كقطعة من اللحم.
ولم أتوقف، كنت أخاف أن أتوقف فلا ألحق به ويضيع مني إلى الأبد، ثنيت ظهري لأَحُول بين احتكاك الفقرات، ولأسقط ثقل جسدي فوق فخذيَّ وساقيَّ.
وبدأت عظامي وساقي تنوء بالحمل الثقيل، فاشتريت عصًا غليظة أتكئ عليها بدلًا من أن أتكئ على قدمي، لم أعد أرى ظهور الناس لكن ضوءًا خافتًا كان يسقط فوق جفني، ويجعلني أُميِّز الطريق، أنقل قدمًا وراء العصا ببطء شديد، وارتطم طرف العصا بشيءٍ صلب فسقطت مني العصا ولم أستطع الوقوف على قدمٍ واحدةٍ فجلست.
كنت أظن أنني سألتقط العصا وأنهض واقفة ككل مرة، لكني لم أستطع أن أتكئ على القدم الأخرى وعجزت عن النهوض، ظللت جالسة أتابع الطريق من تحت الضباب الكثيف، وكأنما انقشع الضباب لحظة فلمحت ظهرًا كظهره، أذناه عرفتهما بلونهما الأحمر والحسنة السوداء لمحتها فوق رقبته من الخلف، وانتفضت واقفة على قدميَّ الاثنتين لكني سرعان ما سقطت على الأرض وسمعت صوت عظام رأسي ترتطم بالرصيف.
اتخذ جسدي وضعًا أفقيًّا وأصبح ظهري فوق الأسفلت تسري فيه رطوبته، ووجهي ناحية السماء تسقط زرقتها فوق جفني كشعاع دافئ.
واستطعت أن أرفع جفني من فوق عيني لحظة، لم تكن الزرقة هي زرقة السماء، كانت أمامي عيناه الواسعتان يشف سوادهما من تحته الزرقة المترقرقة كسطح البحيرة، وفتحت فمي لأقهقه بالضحك لكن شفتيَّ لم تنفتحا، ومددت ذراعي لأحوطه وأقبض عليه لكن ذراعي لم تتحرك، ومن خلال الضباب الكثيف رأيته يقترب مني ويقترب حتى أحسست أنفاسه الساخنة فوق جفني وأصابعه الناعمة الطويلة تنزلق من فوق وجهي لتتحسس عنقي وتدور حوله في نعومة الحرير، كان الضباب أمام عيني يشتدُّ ويشتدُّ وأصابعه تلتفُّ وتلتفُّ كخيط يُشدُّ.
كانت الزرقة تختفي ببطء شديد، وفجأةً أصبح كل شيء من حولي أبيض، أبيض تمامًا بلون الورق غير المكتوب، وانطلق في الجو صوت حاد رفيع كتغريد عصفور.