عين الحياة
كانت عربة الإسعاف قد حملت الجريح من جوار النهر، وانطلقت بنا في الأغوار تشق طريقها نحو السلط، حينما رأينا شبحًا غريبًا يجري خلفنا وكأنما انشقت عنه الأرض.
واتضح لنا بعد لحظات أنه امرأة تجري وراء العربة، وطلبت من السائق أن يتوقَّف، فاندفعت المرأة نحو العربة دون أن تحدثنا أو تلتفت إلينا، ونظرت متفرِّسة في وجه الجريح ثم بأصابعها النحيلة الطويلة راحت تقلِّب في يديه وقدميه، وأمسكها الفدائي برفق وأبعدها عن الجريح، وكنت على وشك أن أسألها عن أيِّ شيءٍ تبحث حين قال لي السائق بصوت حزين: «إنها لا تسمع أحدًا ولا ترد على أحد. بالنهار كثيرًا ما نراها تتجول بين الخيام تتلفَّت حولها، وفي الليل نرى جسمها مرتخيًا ممدودًا بحذاء النهر، وحينما تلمح جريحًا أو غريقًا تهبُّ واقفة تجري إليه، تفتِّش في ملامحه وفي يديه وفي قدميه كأنما تبحث عن شخص تعرفه.»
وقد رأيت هذه المرأة كثيرًا خلال الفترة التي عشتها في السلط، كانت تندفع أحيانًا وراء عربة الإسعاف، وفي أحيان أخرى كنت أراها راكعة بين الصخور في الأغوار تنبش بيديها الأرض أو جالسةً شاخصةً بعينيها إلى النهر.
ولم أكن قد رأيت عينيها بعد، لكني التقيت بها مرةً وهي تتجوَّل بين الخيام وجهًا لوجه، ورَفعَت إليَّ عينين واسعتين غائرتين تغطِّيهما طبقة متجمِّدة من الدمع، وتحت حاجبها الأيسر ندبة.
•••
وكنت قد بدأت العمل في عيادة السلط، فبعثتُ إلى القاهرة رسالة أطلب البقاء فترةً أطول، لكن الرد جاءني بالرفض وبطبيب آخر ليأخذ مكاني، وعرفت السبب من بعد؛ ذلك أنني امرأة، ولا يصح للمرأة الطبيبة أن تعمل في السلط إلا بعد أن ينقرض الأطباء الرجال من فوق الأرض.
وعدت إلى القاهرة ولم أعرف ماذا انتهت إليه هذه المرأة.
وحاولت أن أكتب شيئًا عن رحلتي إلى الأردن، لكني كلَّما كنت أمسك القلم كانت هذه المرأة تلوح لي بعينيها الواسعتين الغائرتين تغطيهما طبقة متجمِّدة من الدمع وتحت حاجبها الأيسر ندبة.
•••
كان جسدها الطويل النحيل ممدودًا بحذاء النهر، كانت تستريح لحظة بعد مسيرٍ شاقٍّ طويل، أو تغفو لأول مرة في حياتها بعد يقظة دائمة مضنية، وأغمضت جفنيها كما يغمض الناس أجفانهم عند النوم، لكنها لم تكن نائمة ولم تكن أيضًا يقظة، ربما هي إغماءة لكنها ليست إغماءة عادية حيث يضيع الوعي تمامًا ويتلاشى الإحساس، وإنما تلك الإغماءة العجيبة النادرة حين يفقد الإنسان حواسه الخمس، ويظل في نفس الوقت قادرًا على الإحساس، ليست تلك القدرة المألوفة، وإنما هي قدرة عجيبة تجعله حساسًا مرهفًا قادرًا على أن يلتقط أي لمسة ويسمع أي همسة ويشم أي رائحة ويلمح أي حركة.
كيف كانت تستطيع ذلك؟ لم تكن تدري، لكنها ظلت راقدة بحذاء النهر، فإذا ما مرقت أمامها في الماء سمكة استطاعت أن تلمحها، وإذا ما سقطت إلى جوارها من الشجرة ورقة استطاعت أن تسمع صوت وقوعها، وإذا ما تسرَّب حولها في الجو رائحة، أي رائحة؛ دخان ينبعث من عقب سيجارة، عربة مقبلة من بعيد، أنفاس إنسان مختبئ بين الصخور، تحركت أذناها واتسعت فتحتا أنفها وانحسر جفناها عن عينيها الواسعتين السوداوين.
وحينما لا تجد شيئًا يعود جفناها فينغلقان وتتوقف أذناها عن الحركة وتضيق فتحتا أنفها كما كانتا، وربما يظن من يراها بجسدها الممدود المرتخي أنها لا تفعل شيئًا، لكنها كانت تفعل، لم تكن تفعله بإرادتها لكنه كان يحدث، كما كان يحدث تمامًا وفي الأوقات نفسها والأمكنة ذاتها، وبالترتيب نفسه والتتابع نفسه واحدًا وراء الآخر، كأنه شريط فوق بكرة ويلف ويلف معه أيام حياتها متتابعة يومًا وراء يوم بالنظام الذي حدث من قبل، فلا اليوم يسبق الأمس ولا الغد يأتي قبل اليوم.
ولم تكن حياتها تبدأ بيوم مولدها كعادة الناس، وإنما كانت تبدأ قبل ذلك بأيام كثيرة، حين كانت شيئًا صغيرًا داخل بطن أمها، كانت لا تزال جنينًا ومع ذلك كانت تحس وترى وقد تشم أيضًا، لم تكن ترى شيئًا يُذكر إلا ظلامًا دامسًا ليل نهار، وأحيانًا ينفذ ضوء خفيف من أسفل لا تعرف مصدره تمامًا، كانت عيناها لا تزالان مغمضتين، وربما لم يكتمل بعدُ عصَبُ الإبصار لكنها كانت تحس الضوء من فوق جفنيها كالظل.
ولم تكن أيضًا تشم شيئًا يُذكَر إلا تلك الرائحة التي قد تفوح في أوقات لا تعرفها، ولكنها تنفذ إلى أنفها وإن كان أنفها لم يكن قد تكوَّن بعد، وإنما تلك الفتحة الصغيرة المسدودة التي ستصبح أنفها من بعد.
أما أنها كانت تحس فقد كان ذلك شيئًا مؤكدًا واضحًا، ليس وضوحًا عاديًّا وإنما هو إحساس دقيق بكل ما يدور حولها وإن كانت لا تزال كتلة صغيرة من اللحم، لم تكن كتلة ميتة أو قطعة شحم، بل كانت عددًا من الخلايا الحساسة المرهفة الإحساس، ربما هي خلايا عصبية كلها أو بعضها، تنقسم بسرعة وتتكاثر لتبلغ المئات أو الآلاف أو الملايين أو لعلها ملايين الملايين.
وكانت تحس أنها لا تزال في بطن أمها وأنها لن تبقى هكذا إلى الأبد، وكان الخرطوم الطويل الرفيع يخرج من بطن أمها ليلتف حول رقبتها، ربما لم تكن لها رقبة بعد لكنه كان يلتف حولها ويكاد يخنقها، ولم تكن تختنق، كلما ضيَّق الخرطوم حولها الخناق انكمشت وتضاءلت وتداخلت خلاياها بعضها في البعض، واستطاعت أن تفلت بجلدها، لم يكن لها جلد بعد، بل لم يكن لها صدر أو رأس أو بطن، كانت لا تزال شيئًا صغيرًا متكورًا ملتفًّا بعضه حول البعض له كأي شيء آخر مقدمة ومؤخرة، وكانت تعرف أن هذه المقدمة ستصبح رأسها وأن المؤخرة ستصبح شيئًا آخر، لم تكن تعرف بعدُ ما هو الاسم الذي يمكن أن تطلقه على مؤخرتها، لكنها كانت تحس أنه ليس اسمًا بسيطًا ككلمة رأس وإنما اسم معقَّد، وربما معقد جدًّا بحيث إنه قد يكون من الصعب عليها أن تنطقه.
وكان كل شيء من حولها رطبًا ومظلمًا يبعث على الطمأنينة والاستمرار في النمو لولا ذلك الشيء الغريب الذي كان يحدث أحيانًا، لو كانت تعرف تلك الأحيان أو تستطيع تخمينها ربما كان في إمكانها أن تستعد، ولكنه كان يحدث مفاجأة بغير توقيت أو ترتيب، كان الصوت الغريب يبدأ أول الأمر، ربما هو صوت أمها لأنه ينبعث من فوق، لكنها لم تكن تلتقط الكلمات، فهي ليست كلمات وإنما همهمة أو زمجرة أو نهنهة، نهنهة عنيفة؛ لأن جسم أمها يهتزُّ ويرتجُّ ارتجاجًا شديدًا، لولا أنها تمسك بسرعة في الجدار المهتز، وتغرز فيه أصابعها الرفيعة الخالية من الأظافر، ربما كان من الممكن أن تنفصل عنه وتسقط في البئر، لم يكن بئرًا بمعنى البئر حيث يكون الماء ساكنًا، لكنه أشبه بدوَّامة البحر تدور وتدور وتضيق وتضيق حتى يصبح مركزها كالثقب المظلم السحيق الذي يكمن فيه الموت.
وتظل قابعة في مكانها متشبثة بالجدار ملتصقة به التصاق القملة بجلدة الرأس، وعيناها المرهفتان من تحت الجفنين المغلقتين ترتجفان في انتظار ذلك الشيء الذي سيبرز من الثقب، وتكتم أنفاسها حين يلمع في الظلام ذلك النصل الطويل الحاد، بطرفه المدبب اللامع يمتد نحوها كعين كبيرة براقة، وترتعد، وتضم أطرافها بعضها إلى بعض وتحشر نفسها في ثنية عميقة داخل الجدار اللزج، ويظل الطرف المدبب يتذبذب حولها كوحش أعمى يشم الفريسة ولا يراها، وقد يرتطم طرفه الحاد بمؤخرتها فتنقبض خلاياها بسرعة؛ لتوقِفَ النَّزف وتطوي في بطنها الجرح.
•••
وولدت «عين» رغم إرادة أمها وتحت حاجبها الأيسر ندبة صغيرة كالجرح القديم، لو تعرف كيف ولدت، ربما فجأة في لحظة واحدة أو ربما بالتدريج في لحظة طويلة بطيئة امتدت الليل بطوله، كانت أمها نائمة فوق الأرض والصمت من حولها إلا صمت الهواء وهو يهز جدران الخيمة هزًّا خفيفًا، وشخير الأب الخافت المتصل والذي قد ينقطع لحظة حين ينقلب من جنب إلى جنب لكنه سرعان ما يعود خافتًا ومنتظمًا كدقات الساعة.
وفجأة توقف الشخير، فقد فتح الأب عينيه الضيقتين على صوت أنة خافتة، ورفع رأسه من فوق الأرض لينظر إلى زوجته، كانت نائمة على جنبها في الطرف الآخر من الخيمة، لكن بطنها الكبير المنتفخ كان ممدودًا أمامها ويكاد يصطدم به لولا قالب الطوب الذي وضعته بينه وبينها، وأغمض عينيه لينام مرة أخرى، لكن أنة أخرى عالية قليلًا جعلته يجلس في مكانه، وبدأت الأم أنينًا خافتًا منتظمًا فرفع عينيه نصف المغمضتين إلى شريط السماء الرفيع الذي يظهر من فرجة باب الخيمة، كان الليل لا يزال مظلمًا وأحس أنها لا بُدَّ وأن تلد الليلة، فالنساء لا يلدن إلا بعد منتصف الليل، ومد يده في هدوء وسحب الغطاء الوحيد من فوق جسدها، إنها امرأة خُلِقت لتلد وعليها أن تتحمل آلامها، أما هو فقد أدى واجبه وليس عليه إلا أن يواصل النوم في العراء.
وفتحت الأم عينيها الواسعتين الغائرتين فلم تر إلا ضوءًا خافتًا يدخل من فرجة الباب، وبدأ الهواء يشتد وتشتد معه اهتزازات الخيمة، وكانت الآلام قد زحفت من بطنها إلى ظهرها وراحت تضغط على عمودها الفقري بما يشبه سكينًا حادًّا يهبط ببطء وهو يشق لحم ظهرها، ووضعت ذيل جلبابها بين فكيها لتكتم صرخاتها وتحمي لسانها من أسنانها، وأمسكت بيدها في عمودين من أعمدة الخيمة الثانية في الأرض، وأسقطت عليهما ثقل آلامها.
وأصبح كل شيء يشتد يشتد، اهتزازات الخيمة بفعل الهواء الجامح واهتزاز العمودين تحت يديها، والآلام تتابعت من كل جانب بسرعة وبعنف حتى بلغت ذروتها، وفي تلك اللحظة التي يبلغ فيها الألم ذروته لا يصبح الألم ألمًا إنما شيئًا آخر، ربما يصبح النقيض أو ربما لا يصل إلى النقيض تمامًا.
في تلك اللحظة فتحت الأم عينيها، ربما كانتا مفتوحتين من قبل لكنها أحست وكأنما هي تفتحهما وترى ما حولها، كان هناك الركن الآخر من الخيمة ويطلُّ من تحت الغطاء البالي خمسة رءوس صغيرة بشعورها الطويلة، ونظرت بين فخذيها فرأت الجسم العاري الصغير يتلوَّى كالدودة وقد انكفأ فوق وجهه وارتفع ردفاه الصغيران في الهواء، وامتدت يدها بغير وعي لتقلبه على ظهره، ودارت عيناها الواسعتان الغائرتان مع دورة الجسم الصغير لتستقرَّا على الشق الرفيع أسفل البطن الأملس الصغير، وسقط جفناها فوق عينيها فأخفاهما تمامًا ولم تعد ترى إلا سوادًا حالكًا، وبدأت تحس ألمًا جديدًا يكاد يشطر ظهرها شطرين، ويمتد ما بين بطنها وفخذيها كالجرح العميق الغائر، ينزف بغير توقف دمًا باردًا متجمدًا، وتحرك جسدها الثقيل لينقلب فوق الجسم الناعم الصغير، وربما كان من الممكن أن يظل جسدها على هذا النحو لولا أن «عين» كانت قد عرفت كيف تقاوم الموت؛ فراحت تضرب أمها بيديها وقدميها واستطاعت أن تنزلق بجسدها الصغير الناعم من تحت فخذيها.
ولم تعرف «عين» متى بدأت ترى الأشياء وتحدد معالمها، كانت عيناها مفتوحتين دائمًا لكنها لم تكن ترى إلا كتلًا كبيرة تتحرك، ولم تكن تستطيع أن تعرف أمها إلا من صوتها العالي ورائحة لبنها، فتتسلق ساقيها وذراعيها وتدفن رأسها في فتحة ثوبها تبحث عن ثديها، وتزحف شفتاها النهمتان فوق الثدي الضامر حتى تعثر على الحلمة السوداء؛ فتقبض عليها بفكيها الصغيرين بغير أسنان، وتتمنى في كلِّ مرة أن تبقى على هذا النحو حتى تشبع، لكن الثدي كان يجف قبل أن تشبع وتشدها أمها بعيدًا عن صدرها.
كانت تبكي أول الأمر وترفس بقدميها الهواء، لكن أحدًا لم يكن يسمعها فكفَّت عن البكاء، وأصبحت تحملق من حولها في الأشياء، كان هناك الجدار المخروطي الأسود يرتفع من فوقها ويقترب ويقترب حتى يلتصق بغير سقف، وكانت عيناها الواسعتان السوداوان تتعلقان بذلك الشق الطويل في الجدار والذي ينفذ منه الضوء، كانت تريد أن تقف على قدميها وتطلَّ من ذلك الشق، وأسندت يدها على الجدار وحاولت أن تقف لكن الجدار اهتزَّ فوقعت على الأرض، واتسع الشق قليلًا ولأول مرة ترى وجه أمها، ربما رأته من قبل كثيرًا لكن الملامح بدأت تظهر أمام عينيها من خلال الدخان، كان الدخان كثيفًا لكنها استطاعت أن ترى العينين الواسعتين الغائرتين والأنف الكبير المدبب والشفتين الجافتين المزمومتين تنفرجان من حين إلى حين عن زمجرة أو همهمة كاشفة عن أسنان كبيرة بيضاء تتوسطها سنة حمراء.
لم تكن تعرف ما هذا الدخان الكثيف الذي يتصاعد في وجه أمها، فزحفت على يديها وقدميها وأمسكت في ذيل أمها، واستطاعت أن تشب إلى فوق لتتسلق ساقيها الطويلتين، كانت تريد أن ترفعها أمها إلى فوق؛ لترى ما هذا الدخان الذي يتصاعد في وجهها، لكن أمها كانت تظل واقفة مكانها، وحينما يشتدُّ إصرارها وتشبثها ترفسها بعيدًا عن ساقيها وهي تزمجر وتلعن يوم مولدها.
لكن «عين» لم تكن تكف عن المحاولة، فتبتعد عن أمها قليلًا ثم ما تلبث أن تعود وتكرر إصرارها وعنادها، وكانت أمها ترفسها أكثر فإذا بها تتشبث أكثر ولا تتركها حتى ترفعها إلى فوق وتنظر داخل الحلة.
ولم يكن هناك شيء يُذكَر إلا دخانًا كثيفًا يتصاعد وسخونة شديدة تلهب وجهها، لكنها كانت تُصرُّ في كل مرة على أن تصعد لمجرد أن تصعد، وحينما تصل إلى تلك اللحظة التي تستسلم فيها أمها وترفعها إلى فوق بعد أن تكون قد استنفدت كل رفساتها ولعناتها، وتكون هي أيضًا استنفدت كلَّ طاقاتها في التشبث والإصرار؛ تتبدَّد رغبتها الأولى في معرفة مصدر الدخان لتحلَّ بها رغبة أخرى أشد، أن تنتصر على أمها، لم تكن تعرف بعدُ ما معنى أن تنتصر، لكنها كانت ترى ملامح أمها حين تتهدَّل في يأس وتمتدُّ ذراعاها الطويلتان فتحملانها إلى فوق، وحينما تستقر بجسمها الصغير المبلل بالدموع والعرق فوق صدرها العريض، ترتخي عضلاتها في لذَّة عنيفة تبدو في عنقها كأنما هي هدفها الحقيقي الوحيد، فتدفن رأسها الصغير في صدر أمها، ولا تعود ترغب في النظر داخل الحلة.
لكنها ليست إلا لحظة سرعان ما تنتهي وتعود «عين» إلى الأرض؛ لتزحف على يديها وقدميها باحثة عن شيء تمسكه، ويبدو لها الصنبور كعصفور صغير له رأس وذَنَب، وتمتد أصابعها الصغيرة الرفيعة لتلتفَّ حول العنق فإذا بشريط من الماء يندفع فجأة من الثقب، ربما لو كانت طفلة أخرى لضحكت في تلك اللحظة أو صرخت من الضحك، لكن «عين» كانت تستطيع أن تضع يديها تحت الماء وتبلل ذراعيها وساقيها، وحينما تستشعر لذة الماء البارد فوق جسدها تضع رأسها أيضًا لتُبلِّل شعرها وعنقها.
وكانت أمها تعرف حين يسود الصمت من حولها أن «عين» معتكفة تقترف إثمًا، ربما هي تعبث في ركن الأواني والحلل، أو هي قد زحفت إلى القناة القذرة لتعجن الطين وتصنع الكور، أو هي فتحت الصنبور وأفرغت كل ماء القلل.
وسرعان ما يقع بصرُ أمها عليها، مبللة من رأسها لقدمها وقد التصق شعرها والتصقت ملابسها بجسمها وعامت قدماها في بركة من الماء والطين، وكان من الممكن في تلك اللحظة أن تعرف «عين» الخوف، لكنها كانت قد عرفته من قبل أن تولد، وعرفت كيف تستطيع في لحظة الخطر أن تقهر الخوف، وتدرَّبت خلاياها على أن تُوقِفَ الألمَ وتَسُدَّ الجرح، فإذا ما ضربتها أمها أو قرصتها سرعان ما تبتلع الدموع وتضع لسانها فوق القرصة فتبرد.
وتشد أمها ملابسها المبللة القذرة لتخلعها عن جسمها كما يُسلَخ الأرنب، وإذا ما التوى ذراعها الصغير في الكم الضيق زمت شفتيها دون أن تصرخ، حين يشتد غضب أمها إلى هذا الحد فهي تعرف كيف تسكت وكيف تترك دموعها تنساب وحدها فوق خديها الناعمتين الصغيرتين، لم تكن دموع ألم تحسه فقد تدرَّبت على أن تبتلع الألم جافًّا بغير دموع، لكنها الدموع الصامتة تصحبها تلك النظرة التعيسة التي تجعل ملامح أمِّها ترتخي في هدوء يشبه الغبطة، وتبدأ لمساتها تلين ونظراتها تقلُّ حدَّة، وقد تقترب منها وتطبع على خدها قبلة سريعة، تودُّ لو بقيت أكثر، لكن شفتَيْ أمها سرعان ما تتقلَّصان مبتعدتين، كأنما تقاومان رغبة عنيفة.
ولأول مرة تتلقى عين من أمها قُبلة، إذا كان من الممكن أن تُسمَّى قُبلة؛ لأنها لم تكن في الواقع قُبلة، وإنما لمسة سريعة ما إن تحدث حتى تنتهي، بل لعلَّها لم تكن أيضًا لمسة؛ لأنه كانت تظل هناك دائمًا مسافة بين شفتي أمها وخدها، مسافة صغيرة وربما صغيرة جدًّا كشعرة رفيعة لكنها كانت تكفي دائمًا لعدم حدوث التلامس.
لم تكن قُبلة ولا لَمْسة لكنها كانت تجعل قلب «عين» يرفرف من تحت ضلوعها الصغيرة الطرية، وتنظر إلى أمها بعينين محبتين وترى لأول مرة هالة سوداء تحت رموشها الندية، وتُلقي بنفسها بين ذراعيها وتدفن رأسها في صدرها لتشم اللبن القديم، وتحاول أن تلتقط بشفتيها الحلمة السوداء وتعود تدسُّها في فمها من جديد لتمصَّ الثدي الهزيل، لكن أمها سرعان ما تشدها بعيدًا وتجلسها إلى الطبلية بجوار أخواتها.
•••
وكانت الطبلية هي المكان الأول الذي التقت فيه بأفراد أسرتها، كان أبوها يجلس على رأس الطبلية وأمامه صحن كبير، وكانت أمها تجلس إلى جواره وتشاركه الصحن، وتجلس هي وأخواتها الخمس في النصف الآخر من الطبلية وأمامهن جميعًا صحن واحد، وحينما يبدأ الأكل يسود الصمت، ويتخلَّله من حين إلى حين رشفات أبيها أو اصطكاك أسنانه وهو يدغدغ غضروفًا أو قطعة عظم، وترفع بصرها إليه ولأول مرة ترى ملامح وجهه، ربما رأتها من قبل مئات المرات لكنها تبدو غير مألوفة، العينان الضيقتان بغير رموش، والجبهة العريضة تتساقط منها حبات العرق، والأنف الغليظ من تحته شارب طويل أسود.
لم تكن تعرف حين تستغرق في النظر إلى وجه أبيها أن خمسين إصبعًا صغيرًا ورفيعًا تمتد داخل الصحن وتلتقط كل ما فيه من أكل، وتدور عيناها الجائعتان على وجوه أخواتها مستكشفتين، فتبدو لها الوجوه الخمسة متشابهة بريئة مستغرقة في الصمت.
•••
وبدأت «عين» ترى الأشياء بوضوح أكثر، كأنما انقشع الضباب الدائم الذي كان يغلف الجو أو أن السحابة الملتصقة بعينيها سقطت وذابت إلى الأبد، وكانت تريد أول ما تريد أن ترى وجهها، وكانت قد رأته من قبل كثيرًا حين ينعكس على صفحة القناة، لكنها لم تكن تعرف ملامحه، وسارت بساقيها الرفيعتين حتى وصلت القناة فجلست على الحافة ونظرت، وطالعتها عينان واسعتان تشبهان عينَيْ أمها، وثبَّتت عينيها في عينيها لتراهما أكثر وتَأْلفهما لكنها لم تكن تألفهما، وكلما نظرت إليهما أكثر زادت غربتهما فكأنهما عينا فتاة أخرى غيرها، وبدأت تخاف القناة، لم يكن خوفًا بمعنى الخوف الذي يجعل المرء يبتعد عن مصدره، لكنه كان إحساسًا شديدًا بالغربة عن نفسها يقابله إحساس أشد بالرغبة في إزالة هذه الغربة، وتثبت وجهها على صفحة القناة وتنظر في عينيها عن قرب حتى يكاد أنفها يلتصق بالماء، وكلَّما تسرَّب إليها الإحساس بالغربة همست لنفسها بقوة: هذه أنا! وأحيانًا تقتنع وتهدأ، وأحيانًا يظل ذلك الإحساس الغريب كلوح من الزجاج البارد يفصل بينها وبين نفسها.
ولم يكن ذلك يشغلها كثيرًا، كانت هناك أشياء أخرى من حولها تنتظرها لتكتشفها، وحينما كانت تكتشف شيئًا جديدًا، يبدو لها كأنما هي رأته من قبل، ويصبح الجديد في ذلك الوقت لا جديد والاكتشاف لا اكتشاف، فكأنما هي عاشت حياتها من قبل وها هي تعيشها مرة ثانية أو لعلها الثالثة أو الرابعة وتكاد تعرف بالضبط ما الذي سيأتي في الغد وبعد الغد، على أن ذلك لم يكن يحدث لها إلا في لحظات خاطفة تبلغ من سرعتها كأنما هي لا تحدث حقيقة وإنما هي نوع من الخيال أو الوهم.
ولم يكن هناك شيءٌ معين تفعله، كانت تجلس وحدها في العراء وعيناها الواسعتان السوداوان تدوران من حولها، لم يكن هناك شيء معين تبحث عنه، لكنها كانت كأنما تبحث، وأحيانًا تنبش التراب بأصابعها الرفيعة وتقلب الأحجار الصغيرة بين يديها، وقد تعثر على صرصار أو خنفسة فتقلبها على ظهرها وبطنها، وحينما يقع بصرها على عينيها البارزتين الذليلتين تسري قشعريرة في جسدها لكنها تظل قابعة في مكانها ممسكة بفريستها، وقد تنزع عنها أرجلها الرفيعة المشرشرة وتفصل صدرها عن فقرات بطنها.
وكانت تلعب مع الأطفال أحيانًا وتسابقهم الجري والقفز، وحينما تقفز ويتعرَّى فخذاها ترى نظرات ساخرة في عيون الأولاد وقد يتجمعون بعضهم حول البعض، ويتهامسون ويضحكون بأصوات عالية نابية، وقد يتعمَّد أحدهم أو بعضهم أن يجري وراء البنات يضربون أثدائهن وأردافهن، وتتفرق البنات مذعورات وسرعان ما تبلعهن الخيم، أما «عين» فلم تكن تجري ولم تكن تُذعر، كانت تملأ يديها بالحجارة وتقذف بها الأولاد، وكلما فرغت يداها عادت فتملؤهما، وتكاد تستمر على هذا النحو إلى الأبد لولا تلك اليد الكبيرة التي تشدها من كتفها وتدخلها الخيمة.
•••
وفي الخيمة لم يكن هناك شيء يُذكر، الجدار الأسود المقوَّس بغير سقف، والأغطية البالية مكوَّرة في ركن، وفي الركن الآخر كانت هناك أخواتها الخمس متكوِّرات بعضهن حول البعض ككتلة سوداء ضخمة لها خمسة رءوس وعشر عيون، وكانت عين قد بدأت تحفظ أسماء أخواتها؛ الكبرى «باء» وتليها «ثاء» ومن بعدها «فاء» ثم «سين» ثم «شين»، أما أمُّها فقد كانت لا تزال تخلط بين أسمائهن، فإذا ما أرادت أن تنادي «باء» قالت «ثاء»، وإذا أرادت «ثاء» نطقت «فاء»، وإذا نادت «سين» أرادت «شين»، أحيانًا كانت تردِّد الأسماء الخمسة جميعًا لتصل في النهاية إلى الاسم الذي تعنيه، لكنها لم تكن تخطئ في اسم «عين»؛ ربما لأن اسمها مميز بعض الشيء، أو ربما لأن هناك شيئًا مميزًا في وجهها أو جسمها، ربما هي الندبة تحت حاجبها الأيسر، ربما هي النظرة في عينيها الواسعتين السوداوين، ربما أي شيء، لكن أمها لم تكن تخلط بينها وبين أخواتها.
على أن «عين» لم تكن ترى في نفسها شيئًا مميزًا، كانت بنتًا كأخواتها الخمس، لم تكن تعرف بعدُ حقيقةَ كونِها بنتًا، فهي حقيقة بُنيت على السماع فحسب ويمكن لها أن تشك فيها، أشياء كثيرة سمعَتْها وظَنَّت أنها حقيقة ثم اتضح لها من بعدُ العكس، ولم تكن تعرف كيف يُمكن أن تثبت لنفسها أنها بنت، لكنها اختفت وراء الخيمة وشدت سروالها القذر الممزق ونظرت بين فخذيها العاريين، كانت أنفاسها تتلاحق وقلبها الصغير يدق، وحينما استقرَّت عيناها المرتجفتان على الشق الرفيع الصغير هبطت دقات قلبها وبطأت أنفاسها وزحف إلى جسدها إحساس بارد ثقيل.
وعادت حياتها الماضية تتتابع أمام عينيها تحت ضوء جديد، الكلمات التي سمعتها من أمها ولم تفهمها عادت ترن لتفهمها، والنظرات التي كانت تراها في عينَيْ أبيها ولا تفسرها عادت تتراءى لها لتفسرها، والحركات التي كانت تلمحها هنا وهناك وفي كل مكان عادت تظهر أمامها بالمعنى الصحيح.
وخرجت من وراء الخيمة تجرُّ جسدها الثقيل، وحملتها قدماها بغير وعي إلى حافة القناة، وحينما نظرت تحت قدميها رأت في الماء امرأة طويلة لها نهدان وردفان، كأنما ردفاها ونهداها نمت خلسة، كأنما أحسَّت أنوثتُها الرفضَ المحيط بها فأصبحت تنمو في الخفاء، وتتضخم بأكثر من المعتاد، تختزن بينها وبين نفسها خلايا إضافية حيطةً لما قد يحدث وينال منها.
•••
ولم تكن عين تدرك تمامًا ما الذي يدور حولها، كانت أخواتها البنات يختفين من الخيمة واحدة بعد الأخرى، وفي كل مرة تسمع الهمس الغريب من وراء الجدار وصوت أبيها الخشن يتحدث مع بعض الرجال، لم يكن حديثًا بمعنى الحديث وإنما هي أسئلة مباشرة سريعة وردود قاطعة بالأرقام، ومن بعدها تبدأ المساومة البطيئة والهمهمات، وكانت عيناها تدوران على محتويات الخيمة وهي لا تدرك تمامًا ما الذي يمكن أن يُباع، لكن الصوت كان ينقطع فجأة ويظهر أبوها على باب الخيمة مناديًا على واحدة من البنات، وكانت الأخوات الخمس يجلسن في الركن المعتاد متجاورات متلاصقات، وحين يرن الاسم بينهن ينتفضن ويلتصقن بعضهن بالبعض كالفراخ المذعورة، لكن اليد الطويلة القوية كانت تمتد وتشد واحدة منهن من ذراعها أو ساقها كالفرخة يشدها البائع من بين أخواتها ليخرجها من القفص.
وحينما اختفت الأخت الخامسة أصبحت «عين» تنتظر دورها، لم تكن تعرف متى سيأتي لكنها كانت تعرف أنه لا بُدَّ آتٍ عن قريب أو بعيد، وكانت تنتظر، تستيقظ كل يوم في الصباح الباكر وترتدي رداءها الوحيد وهو رداء إحدى أخواتها، قديم وبالٍ وأسود يغطي ذراعيها وساقيها ويضيق عند صدرها وبطنها كالكفن، وتجلس في الركن تنتظر، وحينما تسمع صوت أبيها تنتفض، وحين يسكت الصوت تهب واقفة وقد خُيِّل إليها أن أباها سيظهر، وأن اسمها سيرن في الجو، وأن اللحظة حانت وعليها أن تستعد، لكن الصوت لا يكون هو الصوت، وأبوها لا يظهر واسمها لا يرن، فتعود تجلس في الركن وتنتظر، وأصبحت أذناها مرهفتين لأي صوت وإن لم يكن صوت أبيها، وعيناها حساستين لأي ظلٍّ يقترب من باب الخيمة، وفي أيام الصيف الحارة كان العرق يتصبب من جسمها ويلتصق به الرداء ويضيق وينعدم الهواء من حولها فتكاد تختنق، وتمدد ساقيها وتغمض عينيها وتكاد تغفو، لكنها سرعان ما تنتصب. في الصيف لا تحدث أشياء هامة وخاصةً وقت الظهر، وربما لم يحدث من قبلُ أن نودي اسم من أسماء أخواتها وقت الظهر، أو أن أباها نفسه ظهر مرة وقت الظهر، لكن إذا حان الحين فأي شيء محتمل الحدوث وربما في هذه اللحظة بالذات يظهر أبوها وينادي على اسمها.
لم تكن تعرف شيئًا سوى أنها تنتظر دورها، ولم تكن تعرف أيضًا ما هو دورها، لكنها كانت تنتظر، لم تكن في حياتها شيئًا آخر فأصبح الانتظار حياتها، ترتدي الرداء الأسود القديم وتجلس في الركن وتنتظر، لم تعد تظن أن أباها سيظهر وأن اسمها سيرن، فأبوها لم يظهر واسمها لم يرن وربما لن يرن، بل إنها أصبحت تعتقد أنه لن يرن أبدًا، ومع ذلك كانت تنتظر كهذا الذي ينتظر الموت وفي نفس الوقت لا يحس أنه سيموت يومًا.
وجاء اليوم الذي رنَّ فيه اسمها، كانت تجلس في ركنها المعتاد وآلام شديدة تنبعث من إليتيها وجفناها ثقيلان يسقطان من تلقاء نفسيهما لكنها سرعان ما تشد عضلات وجهها وتفتحهما، ورن اسمها في الجو فانتفضت واقفة وقلبها يخفق بما يشبه الفرحة، لم تكن فرحة عادية كتلك التي يحسُّها الناس وإنما هو إحساس طاغٍ بالخلاص، كانت تريد أن تتخلص من الانتظار، وأصبح جسمها خفيفًا لا تكاد قدماها تلمسان الأرض، وكادت تسبق أباها خارج الباب، لم تكن تعرف ما الذي يمكن أن ينتظرها وراء الخيمة لكنها كانت تريد أن تنطلق إليه وإن كان هو الموت.
ولم يكن الموت هو الذي ينتظرها، وإنما شيء آخر ربما أشد من الموت، فالموت هو الموت؛ الكل يعرفه والكل مدركه بغير استثناء، ولكن أن تُستثنَى هي من جميع البشر لتعيش حياتها مع هذا «الكائن»؟ ولم يكن في إمكانها أن تقول عنه سوى «كائن»؛ فهو ليس إنسانًا وليس شابًّا وليس عجوزًا وليس رجلًا وليس امرأة، لم تكن تعرف تمامًا ما هو، ولولا قدرته على النطق وكونه حين يمشي يسير على قدمين اثنتين لحَسِبته من غير البشر.
•••
وفي الليل كان يزحف إلى جوارها وهي نائمة ويبدأ يخلع ملابسه فتغمض عينيها، كان الظلام كثيفًا ولن ترى من خلاله شيئًا لكنها كانت تشدُّ جفنيها وتغلقهما بإحكام، ويمزِّق سكون الليل صوت أنفاسه، لم تكن أنفاسًا بمعنى الأنفاس ولكنها حشرجة غليظة يعقبها سعال حاد طويل كالصفارة يمتد في الأنفاس، كأنما الهواء كان يدخل إلى صدره كتلة واحدة ثم يخرج ببطء شديد ومن خلال ثقب ضيق جدًّا يكاد يكون مسدودًا، وتمتد يده الغليظة الطرية كخُفِّ الجمل تتحسس جسمها، لم تكن تعرف تمامًا أهي يده أم قدمه، لكنها كانت دائمًا طرية مرتخية ومبللة بالعرق.
وفي النهار كان يظل راقدًا فوق ظهره في الخيمة، وحينما يفكر في أن ينهض يُخرِج من تحت الغطاء ساقين ضامرتين معوجَّتين ترتعشان، وينادي عليها بصوت حاد ممطوط كأنه عواء، فتمسك قدمه لتلبسها الحذاء، لكنَّ قدمَه ترتخي وترتعش وتنثني في عجز، ويزمجر بصوت غليظ ويسب أباها وأمها، وتحاول مرة أخرى لكن قدمه تظل ترتعش وتنثني ولا تدخل في الحذاء، فإذا ما استطاعت أن تمسكها بيديها الاثنتين وتدسَّها في الحذاء عادت فانزلقت خارجه وهي تهتزُّ، وهنا ينفد صبره بقدمه ليبعدها عنه، لكنه سرعان ما يناديها مرة أخرى لتعيد المحاولة.
وحينما يرتدي الحذاء يقف على قدميه الاثنتين ويمشي، لم تكن تظنُّ أنه قادر على المشي لكنه كان يمشي، لم تكن مشيته سريعة بالطبع وكانت أقرب إلى الزحف منها إلى المشي، لكنه كان ينتقل من ركن إلى ركن بل إنه أحيانًا ما كان يخرج من الخيمة ثم يعود بعد فترة طويلة أو قصيرة وهو يلهث ويسعل ويسب.
•••
وكان من الممكن أن تعيش «عين» هذه الحياة إلى الأبد، لم تكن تعرف حياة غيرها، وكانت تأكل وتشرب وتنام وتستطيع بعد عدة رفسات ولعنات أن تُدخل القدم المرتعشة في الحذاء، لم تكن الرفسات تؤلمها فهي رفسات قدم مرتخية عاجزة، ولم يكن السباب يَنصبُّ عليها وإنما على أبيها وأمها، ربما كان ينتابها أحيانًا إحساس غريب لا تعرف تمامًا ما هو، فهو إحساس غامض تدركه بجسمها فحسب، كأنما هي عجزت فجأة عن التنفُّس، ومن حول عنقها يدان قويَّتان تضغطان، وقد تنهض بسرعة من مكانها وتفتح فمها عن آخره ليدخل الهواء أو تصرخ صرخة خافتة خوفًا من الاختناق، لكنها لم تكن تختنق، وحينما كانت أنفاسها تعود إلى دقاتها المتتابعة المنتظمة تحس شيئًا يشبه السرور؛ كانت تُسَرُّ لأنها لم تختنق.
وكان من الممكن أن تظل «عين» على هذا النحو لولا تلك المرأة، لم تكن تعرف من هي لكنها كانت تعيش في البيت المجاور، ليس مجاورًا بمعنى الجوار فهو بعيد وربما تفصله عنها خيام كثيرة وبيوت وبحيرة أو قناة، ربما كان في منطقة أخرى لكنه لم يكن بعيدًا إلى حد الاختفاء، كانت تستطيع أن ترى سطحه العالي يُطلُّ من فوق الأسطح الأخرى.
وفي كل صباح تظهر المرأة فوق السطح، كان شعرها الأصفر يلمع في الشمس وعيناها الواسعتان بلون الزرع تنتقلان هنا وهناك كجرادتين خضراوين، ثم تستقران في النهاية في عيني «عين»، لو كان الأمر يقتصر على ذلك ربما من الممكن ألا يحدث شيء، لكن المرأة كانت تبتسم، ولم تعرف «عين» أول الأمر أن هذه الابتسامة لها هي بالذات، لم يحدث في حياتها قطُّ أن ابتسم أحد لها أو أن ابتسامة وُجِّهت لها هي بالذات، حينما كانت ترى ابتسامة على وجه أمها وتظن أنها لها سرعان ما تكتشف أنها ليست لها وإنما لواحدة من الجارات أو الزائرات.
لكن هذه الابتسامة كانت لها دون غيرها، فهي تقف على باب الخيمة ولا أحد عن يمينها أو يسارها أو أمامها أو خلفها، كانت تعرف أنها وحدها تمامًا في الخيمة، ومع ذلك كانت تلتفت خلفها لتؤكد لنفسها أنَّ أحدًا لا يقفُ وراءها، وأن هذه الابتسامة ليست له وإنما لها هي بالذات.
ولم تكن شفتاها تعرفان تلك الانفراجة المعيَّنة التي تنم عن الابتسام، كانت مطبقتين دائمًا مزمومتين وكأنما هما شفة واحدة وليستا شفتين اثنتين، وحينما كانت تفتحهما في لحظات الاختناق لتصرخ تلك الصرخة الخافتة غير المسموعة لم تكونا تنفتحان، وإنما هما تتمددان ممطوطتين إلى الأمام، وقد يحدث حين تبلِّلهما بطرف لسانها أن يتفكَّك لصاقهما وتنفرجا، ليس انفراجة كاملة وإنما شق ضيق صغير تلمع من تحته أسنانها كوميض ضوء لا يظهر حتى يختفي.
لكنها استطاعت أن ترد على الابتسامة إليها بابتسامة مماثلة، لعلها لم تكن ابتسامة مماثلة أو لم تكن ابتسامة على الإطلاق، ولكنها استطاعت أن تجعل عضلات فكَّيْها تنقبض وتنبسط لينفتح فمها عن آخره كاشفًا عن صفين طويلين منتظمتين من الأسنان الصغيرة البيضاء.
•••
ولم تكن المرأة تعطيها غير تلك الابتسامة لكنها بدت وكأنما هي تأخذ شيئًا لا تعرف أين تخبئه، لم يسبق لها أن أخذت شيئًا من أحد فأحست أنها لا تأخذ وإنما تختلس، وبدأت حركاتها تضطرب كهذا الذي يأخذ شيئًا خفية، حين تقترب من باب الخيمة لتفتحه في الصباح تضطرب أصابعها وقد ترتجف، وتقف من وراء الشق الرفيع كأنما هي تتجسس، وحين تظهر المرأة فوق السطح وعلى وجهها تلك الابتسامة الموجهة إليها هي بالذات تتلفت حولها لتتأكد من أن أحدًا لا يراها، وحينما يحدث التبادل الآثم وترد على الابتسامة بابتسامة مماثلة تسدُّ الشق بسرعة كمن يطمس آثار الجريمة.
وكان من الممكن في أول الأمر أن تكف عن هذه اللعبة الخطرة لكنها بعد فترة من الممارسة لم تستطع، أصبحت تصحو من النوم وعيناها ترنوان نحو الباب، فإذا ما تأخرت المرأة في الظهور بعض الوقت استبدَّ بها القلق، وراحت تتمشَّى في الخيمة وعيناها فوق الشق، وحينما يتمُّ كلُّ شيء وتغلق الباب تعود تنتظر الصباح التالي لتصحو من النوم وتفتح الباب.
لو كان الأمر خيالًا ربما بقيت «عين» تبادل المرأة الابتسام إلى الأبد، لكن الأمر لم يكن خيالًا، والمرأة كانت حقيقة من لحم ودم، لها قدرة على الحركة ولها أيضًا قدرة على النطق، وجاء اليوم الذي كان لا بُدَّ أن يجيء، وفتحت «عين» الباب فإذا بها أمام المرأة وجهًا لوجه، وهنا يصبح التعبير صعبًا، فاللحظة معقدة ومشاعر «عين» بالغة التعقيد، تغلق الباب أو تفتحه؟ تعرف المرأة أو لا تعرفها؟ تريدها أو لا تريدها؟ لم تكن تعرف تمامًا، فهي تعرفها ولا تعرفها، وهي تريدها ولا تريدها، وهي تغلق الباب وتفتحه، والحقيقة أنها لم تغلق الباب أو تفتحه وإنما ظلت أصابعها ترتجف فوق الباب، تجمَّدت فوق تلك اللحظة المترددة بين الفتح والغلق، وربما كان من الممكن أن تظل على هذا النحو لولا ذلك الصوت العالي الحاد الذي نفذ في أذنيها كالجرس: أنا جارتك «نون» هل أدخل؟
– ادخلي.
لم تعرف «عين» انفتحت شفتاها وانطلقت من بينهما الكلمة «ادخلي»، كان صوت المرأة ينم في تساؤله «هل أدخل؟» عن الاستئذان، ولأول مرة في حياتها يستأذنها أحد، كانت الأشياء تُفرَض عليها بالقوة كاللكمات وما كان عليها إلا أن تصدَّها، لو كان يسبق ذلك نوع من التساؤل أو الاستئذان ربما كان في إمكانها أن تتقبلها وربما بكامل إرادتها وعن طيب خاطر، لكن أحدًا لم يكن يدرك أنها يمكن أن يكون لها إرادة أو خاطر.
ودخلت «نون» إلى الخيمة وعيناها الخضراوان اللامعتان تدوران حولها، كانت طويلة ممشوقة يلتفُّ جسمها في استدارات ملساء ناعمة، وشعرها الأصفر ينسدل فوق كتفيها البيضاوين، وكأنما كانت تبتسم دائمًا، شفتاها الممتلئتان النديتان متباعدتان في انفراجة دائمة تكشف عن أطراف أسنانها الصغيرة المدببة.
– ما اسمك؟
– «عين».
– «عين الحياة».
– «عين».
– الأسماء أحيانًا تُختصر.
– تُختصر؟
– في أوقات الدلع.
– الدلع؟
– فاطمة تصبح «فوفو» ونفيسة «نونو» وعين الحياة «عين».
– «عين»؟
– ولكني سأناديك «عين الحياة».
– عين الحياة؟
– أنت تشبهين «عين الحياة».
– أنا؟
– «عين الحياة» كانت صديقتي الوحيدة.
– الوحيدة؟
– ولكنها ذهبت.
– ذهبت؟
– كنت أحبها أكثر من نفسي.
– نفسك؟
– وكانت تحبني بالمثل.
– بالمثل؟
– فاتت السنون ولم أنسَ ملامحها.
– ملامحها؟
– تشبه ملامحك.
– ملامحي؟
– عيناك السوداوان اللامعتان.
– اللامعتان؟
– وجسمك الطويل الملفوف.
– الملفوف؟
– وبشرتك الصافية السمراء.
– السمراء؟
– وشعرك الأسود الناعم.
– الناعم؟
– وكان أيضًا تحت حاجبها هذه «الحسنة».
– «الحسنة»؟
– أقصد «وحمة».
– وحمة؟
– الأم تشتهي شيئًا فيرتسم على وجه طفلها.
– طفلها؟
– ربما اشتهت أمك شيئًا.
– أمي؟
– ربما اشتهت تفاحة.
– تفاحة؟
– خَدُّك يشبه التفاحة.
– خَدِّي؟
– تفاحة معلقة على الشجرة.
– معلقة؟
– لا بُدَّ أنك سمعت هذا من قبل.
– من قبل؟
– لا بُدَّ أن قالها لك أحد.
– أحد؟
– ربما زوجك.
– زوجي؟
– ربما حبيبك.
– حبيبي؟
– ربما عشيقك.
– عشيقي؟
وكأنما كانت تتعلم الكلام، الأسماء الغريبة وحروف الكلمات الجديدة كانت تقتحم رأسها كشظايا من الحديد الساخن، تنطلق واحدة بعد الأخرى ملتهبة ومضيئة من تحت مطرقة الحدَّاد، وكالطفل الصغير حين يكتشف فجأة أنه تعلم الكلام؛ فيفتح فمه ويغلقه عشرات المرات مرددًا الكلمة الواحدة مئات المرات. راحت «عين» تردد بينها وبين نفسها: عين الحياة … عين الحياة … عين الحياة … لم تكن تعرف لماذا بقيت هذه الكلمة بالذات تتردَّد في رأسها بغير انقطاع، ربما بدت لها سهلة، ربما بدت مألوفة لأن اسمها جزء منها، ليس جزءًا صغيرًا وإنما هو النصف بأكمله أو لعله أكبر من النصف أيضًا، فما الذي يمكن أن تعنيه كلمة «عين» وحدها؟ ربما نسي أبوها أن يكتب اسمها كاملًا، أو لعله كتبه كاملًا لكنه نسي في النطق النصف الآخر.
وكأنما عثرت فجأة على نصف اسمها الضائع، وهتفت بينها وبين نفسها مرددة «عين الحياة» … «عين الحياة»، وبدا لها أنها تستردُّ مع نصف اسمها نصفَ ذاتها أيضًا، كأنما لم تكن تعيش بكل ذاتها، كأنما كانت «عين الحياة» نصف إنسان فإذا بها تصبح إنسانًا.
وتقمَّصت «عين» شخصية «عين الحياة»، لم يكن تقمصًا عاديًّا يعي فيه أنه شخص آخر، كان نوعًا من الالتحام، ليس التحامًا فحسب، وإنما هو ذلك الفناء الذي يحدث للشيء حين يذوب في الشيء الآخر، ولم يكن أيضًا فناءً واعيًا يمكن لها أن تدركه أو تذكره لكنه كان أشبه ما يكون بتناسخ الأرواح، كأنما ماتت «عين» ثم بُعثت لتعيش حياة أخرى في جسم «عين الحياة»، أو كأنما كانت هي في الأصل عين الحياة ذاتها وليست أي شخص آخر.
وأصبح كل ما حولها يؤكد لها ذلك، المرآة أصبحت تعكس لها صورتها الجديدة، العينان السوداوان اللامعتان، الجسم الممشوق الملفوف، البشرة الصافية السمراء، الشعر الناعم الأسود، والحسنة تحت الحاجب الأيسر، وصوت «نون» من حولها في كل وقت وكل لحظة يناديها «عين الحياة»، وعيناها الخضراوان تحوطانها بإلحاح وإصرار «عين الحياة».
ولم يَعُد في حياتها شيء آخر، ربما كان هناك ذلك «الكائن»، ولكنه كان كما كان دائمًا مجرد «كائن» لا تعرف فصيلته أو جنسه، وفي كل ليلة يصفر الصدر المطبق بالسعال الممطوط، وتمتد إلى جسمها الكف الطرية الثقيلة المبللة بالعرق والتي لا تعرف أهي يد أم قدم، وفي كل صباح تستطيع أن تُدخِل القدم المرتخية المرتعشة في الحذاء بعد عدة رفسات ولعنات.
كان كما كان دائمًا بغير تغيُّر أو تبديل، كأنما هو ظاهرة طبيعية ثابتة في الكون أو شخصية مرسومة في مسرحية تتكرر كلَّ يوم، فالسعال لا يزيد ولا ينقص، والكف أو القدم لا تخف ولا تجف، والقدم المرتعشة لا تسرع ولا تبطئ، كلُّ ما فيه باقٍ كما هو ككتلة من الطين، وهل يمكن لكتلة من الطين أن تحس ما يحدث حولها من تغيير؟ هل يمكن أن تدرك أن السماء أصبحت زرقاء بسُحُب أو بغير سُحُب؟ هل يمكن أن تفرِّق كثيرًا بين تلك المرأة الواقفة أمامها أهي «سين» أم «شين» أم «عين» أم عين الحياة؟
استردت «نون» صديقتها «عين الحياة»، وكانت «نون» امرأة خبيرة بالحياة، ليست الحياة العادية حيث يتزوج الرجال من النساء ويُولَد الأبناء من الآباء ويسود النظام بالأوراق والشهادات، لم تكن «نون» تعرف هذا النوع من الحياة، فهي لم تتزوج ولم تنجب ولم ينجبها أحد ولم تمسك بين يديها ورقة أو شهادة أو حتى شهادة ميلاد.
كيف وُلِدت؟ إنها لا تدري ولا أحد يدري، ربما جاءت من امرأة مجهولة ولدتها ثم ماتت، ربما خرجت من بطن الأرض كالدود، ربما تشكَّلت في الطبيعة صدفة من تطور كائن حي، لا أحد يعرف أصلها ولا فصلها لكنها وُجدت، فَتحَت عينيها ذات صباح فوجدت جسدها موجودًا.
لو وُجدت في مكان آخر ربما لم يكن في إمكانها أن تعرف ما الذي يمكن أن تصنعه بجسدها، وربما ظلت تتجوَّل في الحقول كحيوان ضال، تلتقط الحشائش حتى تموت وتنتهي، لكنها وُجِدت في ذلك المكان الغريب، لم يكن غريبًا جدًّا وربما كان مكانًا مألوفًا لكنه بدا كالغريب، فهو ضيق ومزدحم، تتساند فوقه البيوت الصغيرة الكثيرة وتلتصق بعضها بالبعض في كتلة واحدة، لم تكن هناك شوارع وإنما ممرات طويلة ملتوية وضيقة، لا يكاد الممر الواحد يتَّسع لجسد إنسان فأصبح المارة يقفون وقد التصق الواحد بالآخر في صفوف رفيعة طويلة تتحرَّك ببطء شديد جدًّا، أو لعلَّها لا تتحرك على الإطلاق.
ولم يكن هذا الالتصاق يُحدِث شيئًا فكل الواقفين رجال، ربما لم يكونوا رجالًا تمامًا، ولكنَّ رءوسَهم كانت حليقة وذقونهم وشواربهم طويلة، وصدورهم وسيقانهم يغطيها شعر كثيف، كانوا واقفين في الصفوف ينتظرون دورهم في المرور، وأحيانًا حين يبطئ أو يتوقف يجلسون أو يضَّجعون وقد يغلقون أجفانهم في غفوة أو ربما كانوا ينامون.
لم يكن نومهم عاديًّا كهذا الذي ينام ويفقد الوعي، وإنما كانوا يحسون بما يدور حولهم كأنهم يقظون، ليست يقظة كاملة يُدرك فيها المرء ما يدور حوله لكنها كانت نصف يقظة أو نصف وعي.
ربما كانوا مخمورين أو ذاهلين أو أي شيء آخر، لكن شيئًا واحدًا لم يكن يغيب عن عيونهم؛ الجسد … فوق ذلك السطح العالي في نهاية الممر، لم يكن إلا جسدًا لكنه كان يلوح لهم وكأنما هو المصب الأخير لكل هذا الممر الطويل، أو أنه الهدف العام لكلِّ هذا التحرُّك والسعي الحثيث.
لم يكن إلا جسدًا، لكنه لم يكن أي جسد، كان جسد امرأة وربما كانت البيوت الكثيرة تَكتظُّ بأجساد النساء، لكنها لم تكن أجساد نساء، كانوا زوجات مستعدات بحكم القانون، يتزوج الرجل الأولى والثانية والثالثة والرابعة فلا يزداد إلا حرمانًا، وإنما تلك الحالة المستمرة من الجوع والشبق الدائم لكلِّ بعيد وممنوع.
مرضى ربما، لكنهم لا يعرفون المرض، ربما هو الجو الخانق في الممر المزدحم الضيق، ربما هو القانون الصارم الذي جعلهم ينتظمون واحدًا وراء الآخر في صفوف، ربما هو الإحساس القاتل بأن الصف لا يتحرَّك وهم باقون في مكانهم إلى الأبد ينتظرون.
في هذا النحو الغريب وجدت «نون» جسدها، لم يكن جسدًا عاديًّا وإنما هو جسد ممشوق طويل، يرتفع عن نهديها البارزين المدببين ثم يضيق عند خصرها؛ فكأنه يختنق ليتسع مرة أخرى حول ردفيها الممتلئين المكورين، ولم يكن لها في الحياة إلا جسمها فأصبحت تُعلِّمه، لم تكن تعرف كيف تعلمه لكنها كانت تحرِّكه فيتحرك، تمدُّ ذراعيها فترتفعان، تهزُّ ردفيها فيهتزَّان، تَثْني خصرها فيَنثَني، ترفع ساقيها فترتفعان، ربما كانت ترقص، لكنه لم يكن رقصًا عاديًّا تؤديه كما يُؤدَّى الواجب وتنال عنه أجرها، كان جسمها يرقص وكأنما هو يتنفس، كأنما هذه هي طبيعته؛ أن يعيش الرقص، أن يتحرك على هذا النحو وينثني ويلتوي ويعتصر ويتساقط منه العرق كأنه يقطر الشهد.
ولم تعرف «نون» حين تهافت عليها الرجال أنها امرأة غير شريفة، لم تكن تفهم معنى الشرف، أو لعلها كانت تفهمه بشكل آخر، فالشرف في نظرها هو الحياة، أن تُقبِل على الحياة وتُقبِل الحياة عليها، وكانت تعرف أن المرأة التي يتهافت عليها الرجال لا يمكن إلا أن تكون شريفة، أما تلك التي لا يتهافت عليها الرجال أو لا يتهافتون بكثرة فهي امرأة غير شريفة.
على أنها لم تشغل نفسها كثيرًا بتلك المسميات، لم تكن تحتاجها، كان كل شيء عندها، والحياة برجالها ومتاعها وراء الباب، وهي التي تختار، تفتح أو لا تفتح، إذا طردت واحدًا جاء بعده اثنان، وإذا طردت اثنين جاء من بعدهما أربعة، يتضاعفون ويتكاثرون كالذباب.
لكنهم لم يكونوا إلا ذبابًا يهبط على الشيء ثم يطير، ولم يكن لها من أحد إلا صديقتها عين الحياة … كانت تحبها، لم يكن حبًّا عاديًّا حيث يبقى المحبَّان مهما التقيا كاثنين منفصلين، ولكنه ذلك الإحساس العجيب بأن «عين الحياة» قريبة وملتصقة بها إلى حد أنها قد تبدو جزءًا منها، تأكل حين تأكل، وتشرب حين تشرب، تنام حين تنام، تحرك ذراعيها حين تحرك ذراعيها، تثني خصرها حين تثني خصرها، تهزُّ ردفيها حين تهز ردفيها، ترفع ساقيها حين ترفع ساقيها، وربما كان من الممكن أن يختلط عليها الأمر فتظن «عين الحياة» أنها «نون» وتظن «نون» أنها «عين الحياة» لولا ذلك الاختلاف في لون الشعر والعينين، وفيما عدا ذلك كانتا متشابهتين كالتوءمين.
لكنهما لم تكونا توءمين، لم تكن أمهما واحدة ولم يكن أبوهما واحدًا، وربما كان هذا هو السبب في الاختلاف الآخر الذي ظهر فيما بعد، وكانت «عين الحياة» قد انتقلت لتعيش مع «نون»، لم تعرف في ذلك الوقت أنها هربت من خيمتها، كانت قد أصبحت «عين الحياة» ولم تعد خيمتها هي مسكنها وإنما مسكنها هو حيث عاشت «عين الحياة»، وحينما سارت إلى بيت «نون» كانت خطواتها ثابتة هادئة طبيعية وكأنما هي تسير إلى بيتها، وحينما كانت «نون» تنظر إليها كان يُخَيَّل إليها أنها تنظر إلى نفسها، وحينما ترى جسمها يُخَيَّل إليها أنه جسمها، ربما كان جسمها أكثر شبابًا وأكثر مرونة لكنه كان كجسمها.
وقد كان من الممكن أن تظل «عين الحياة» على هذا النحو لولا أنها لم تكن «نون» وإنما كانت امرأة أخرى.
ولأول مرة تلتقي «عين الحياة» بالرجل، لم تكن تعرف ما الذي يمكن أن تعنيه كلمة رجل، أبوها لم يكن رجلًا وإنما كان أباها، وزوجها كان … ماذا كان؟ لم تكن تعرف ولم تعد تذكر، وحينما طلبت من «نون» أن تصف لها الرجل أجابتها بكلمات غامضة: النظرة النافذة التي تنطلق وتخترق الصدر كطلقة المسدس ومن بعدها ينثني الجسد كغصن شجرة مثقل بالثمار ويتساقط إلى الأرض شيئًا فشيئًا؛ الغيبوبة العجيبة التي تصبح فيها الحواس أكثر حدة وأكثر قدرة على الإحساس؛ اللحظة الرائعة حين يصبح الجسد لا جسد، والرأس لا رأس، والذراع لا ذراع، والساق لا ساق، وإنما هي أسلاك كهربية أو خيوط عصبية معقدة ومتشابكة وملتفَّة بعضها ببعض كأنما منذ الأزل وكأنما إلى الأبد، ولا يمكن لأحد أن يتصور أنها يمكن أن تتحلل أو تتفكك بعضها عن البعض لتأخذ في النهاية شكل امرأة ورجل.
ولم تفهم «عين الحياة» من هذه الكلمات شيئًا … لكنها رقدت بجسدها الطويل الممشوق … لم تكن تعرف أتفتح عينيها أم تغلقهما، واكتفت بعد فترةِ تردُّدٍ أن تغمض عينًا واحدة وتفتح الأخرى. كان الظلام كثيفًا لكن ضوءًا خافتًا كان ينبعث من فتحة ما، واستطاعت أن ترى الصدر الأسمر العريض يغطيه شعر أسود كثيف يبدأ من تحت الرقبة ويهبط غزيرًا كثيفًا متشابكًا كغابة مجهولة يخفي من تحته بطنه المشدود، وظلت راقدة تنظر بغير حراك.
وفجأةً أحسَّت ثقلًا ضخمًا فوق جسدها، كأنما سقط الجدار عليها وحاولت أن تفتح فمها لتصرخ، لكن كماشة حديدية كانت قد أطبقت على شفتيها الحديديتين، وحاولت أن تتنفس لكن أنفها كان قد ضُغِط وفُعِص فأصبح في مستوى وجهها وانسدَّت فتحتاه تمامًا، وأخذت عضلات جسدها تنقبض وتنبسط طالبة الهواء كما يحدث لأي جسد حي يرفس قبل أن يموت خنقًا، لكنها ليست إلا بضع دقائق ثم توقفت عضلاتها عن الحركة تمامًا.
ربما ماتت، لكنه لم يكن موتًا حقيقًا وإنما ذلك الموت الذي يسبق الموت الحقيقي ويسمى في الطب بالموت الإكلينيكي، حين تتوقَّف الأنفاس تمامًا لكن القلب يظلُّ يقاوم العدم بدقات خافتة ربما لا تكون مسموعة لكنها موجودة وباقية لفترة من الزمن، ربما تكون فترة طويلة جدًّا، فليس سهلًا أن يموت الإنسان ولا يمكن للجسد الحي أن يموت بسرعة، فما بالك لو كان هو جسد المرأة، وليست أي امرأة أيضًا وإنما هي «عين الحياة» بجسدها العجيب الذي صنع من الطين نهدين بيضاوين مكورين ناعمين، ومن ماء البرك عينين صافيتين واسعتين يتوسط كلًّا منهما «نني» أسود بارز كفص من الزمرد أو الماس.
لم يكن سهلًا أن تختنق وتموت، لكن الجدار كان لا يزال فوقها، لو كان جدارًا أملسَ ربما كان الثقل مُحتمَلًا، لكنه كان جدارًا خشنًا متعرجًا مليئًا بتضاريس مفلطحة كالبلطة تتخللها بروزات صغيرة مدببة تحتكُّ بجسمها كرءوس المسامير، وكان من الممكن أن تحتمل كل هذا لولا هذا الانسحاق.
وأصابتها الغيبوبة لكنها لم تكن تلك الغيبوبة وإنما هو الإحساس الطاغي بالألم، بلغ من طغيانه أن أطاح بكل الأحاسيس الأخرى وأطاح معها أيضًا الإحساس بالألم نفسه، كالنار تأكل كلَّ شيء ثم تأكل نفسها وتذوي وتنسحق وتصبح رمادًا.
لكنها لم تكن نارًا لتذوي وتصبح رمادًا، كانت «عين الحياة» وكان الجدار قد انزاح من فوقها بقدرة قادر، وتركها ممدودة مبطَّطة كفراشة ضُغطت بين الكتب لتحنَّط، أو كقطعة من اللحم دُقَّت بالساطور ودُقَّت ودُقَّت لتصبح كالورقة الرقيقة الشفافة.
وكانت شفتاها الرقيقتان تنزفان، وقد ارتسمت على كل شفة أسنان الكماشة، وأنفها عاد إلى مكانه لكنه لم يصبح في منتصف وجهها تمامًا وإنما اعوجَّ ومال إلى ناحية، وجسدها كله تغطِّيه خدوش وكدمات صغيرة تنزُّ ببطء يتوسَّطها ذلك الجرح العميق الغائر ينزف دمًا، دمًا حقيقًا أحمر.
وارتكزت بيدها فوق الأرض لتنهض فلمحت إلى جوارها ورقة خضراء صغيرة كُتب عليها عشرة قروش؛ سرعان ما التفت حولها أصابع «نون» بأظافرها الطويلة المدببة الحمراء، وكانت «نون» قد ظهرت بسرعة ووقفت أمامها تبتسم ابتسامتها الدائمة الندية، وكانت «عين الحياة» لا تزال راقدة تحاول أن تنهض.
وربما استطاعت أن تنهض، لكن حركتها أصبحت بطيئة وخصرها اللَّدن لم يعد هو خصرها، كان الجدار قد تلاشى تمامًا وكان من الممكن أن يتلاشى معه كلُّ شيء لو أنه كان جدارًا فحسب، لكنه كان رجلًا له جسد وله مسام تغرز في جسدها وتترك على جلدها بصمات العرق.
وبقيت الرائحة في أنفها بعض الوقت لكنها لم تكن تعرف مصدرها، كانت تتلفَّت حولها ويُخيَّل إليها أن الذي حدث لم يحدث، وتبدأ الأشياء كلها تختلط بعضها بالبعض فلا تكاد تعرف الحقيقة من غير الحقيقة، وحين تنظر إلى جسدها المهدود في المرآة يُخيَّل إليها أنها ليست عين الحياة، وحين تنظر إلى أصابعها الصفراء بأظافرها الطويلة الحمراء يُخيَّل إليها أنها ليست أصابعها، وحين تنظر إلى عينيها المكحلتين الممصوصتين يُخيَّل إليها أنهما ليستا عينيها، وحين تضع يدها على شعرها المصبوغ المنكوش يُخيَّل إليها أنه ليس شعرها، وحين تضع يدها فوق بطنها يُخيَّل إليها أنه ليس بطنها.
لكنه كان بطنها، ربما ليس هو بطنها الصغير المستدير الذي كان يرتفع ارتفاعًا خفيفًا فوق عانتها ولكنه بطنها الذي أصبح يكبر ويصعد نحو صدرها.
ولم يَعُد في إمكانها أن تثني خصرها، كان بطنها ينتفخ ويقترب من صدرها حتى التصق به تمامًا، ولم يعد لها خصر، أصبحت بغير خصر على الإطلاق، وكلَّما حرَّكت ساقيها ارتجَّ بطنُها الذي تمدَّد من كل ناحية وكاد يتدلَّى فوق فخذيها، وهبطت عينا «نون» الخضراوان كجَرَادتين فوق خصرها المتلاشي فتلاشت ابتسامتُها النديَّة لأول مرة في حياتها ثم ما لبثت أن تلاشت هي بأكملها، لم تعرف كيف تلاشت لكنها تلاشت، لم تكن تظنُّ أنها يمكن أن تتلاشى يومًا، كانت جزءًا منها كرأسها أو صدرها أو بطنها أو خصرها، لكن خصرها كان قد تلاشى من قبلُ.
كيف تلاشى لم تكن تعرف، كان مرنًا طيِّعًا تثنيه فينثني وتلويه فيلتوي كقطعة من الملبن أو اللبان، وكانت تحبه … وربما أكثر مما تحب أي شيء آخر وأكثر مما تحب «نون»؛ فهو الشيء الوحيد الذي يصل ما بين نصفها الأعلى ونصفها الأسفل، وكان من الممكن أن يكون كل حياتها لولا أنها لَقِيت الشيء الآخر.
ماذا كان هذا الشيء الآخر الذي لَقِيته؟ لم تكن تعرف كانت من قبلُ قد لقيت نصف اسمها ونصف ذاتها فإذا بها الآن تلقى الكل، كُلًّا كاملًا متكاملًا فحسبت أنه الله، وكانت قد سمعت كلمة الله، كانت تحس بطريقة غامضة أنه أكبر منها وأكبر من أبيها وأمها وأكبر من أي شيء في حياتها، وحينما التقت ﺑ «نون» ظنت أنها الله، وحينما اكتشفت من بعدُ أن جسدها أقدر من جسد «نون» وأكثر شبابًا بدأت تظن في نفسها أنها هي الله، لكنها عثرت فجأة على ما هو أكبر منها فأصبحت وكأنما وجدت الله.
لكنه لم يكن الله، كان شيئًا عجيبًا تحسه في أعماقها، له نبض خافت كنبضها، وسخونة دافئة دفء جسمها، وحركة ضعيفة ناعمة تدغدغ أحشاءها، وفي الليل حيث يصمت العالم وتصمت الدنيا من حولها، يبدأ بيده الدقيقة الناعمة يدقُّ جدران بطنها دقًّا عجيبًا له سخونة قلبها ونعومة كبدها وهمسه الدافئ يختلط بأنفاسها، أكان يقول شيئًا؟ لأنها كانت ترهف أذنيها وتتحسس بيديها بطنها وصدرها وكبدها، وحينما تحس دفعات يده الصغيرة تحت كفها تنتفض، أهو إله حي في داخلها؟ ليس أي إله وإنما إلهها، هي التي صنعته وهي التي تصنعه وهو الوحيد الذي تملكه والذي هو لها، لم يسبق أبدًا أن كان لها شيء أو أن شيئًا كان ملكها، كان الآخرون هم الذين يملكونها، أبوها وأمها وزوجها والرجال، حتى «نون» ملكتها ولم تكن هي إلا مملوكة لها.
ولأول مرة في حياتها تملك «عين الحياة» شيئًا، ليس خيمة وليس حُلة وليس جلبابًا ولكنه إله، إلهها الوحيد الذي يمزِّق نَفَسه الحاني الصمت من حولها ويشبع دفؤه الدفء في جسدها وقلبها، ابنها الحبيب ومملوكها الوحيد.
وكأنما لم تحزن أبدًا. أحزانها القديمة لم تعد أحزانًا، وحياتها الماضية بكل آلامها بدت لها من بعيد كأنما هي حياة امرأة أخرى عاشت وماتت ودفعت حياتها من أجل أن تقبض هي الثمن، ثمن غال كبير من أي شيء تحمله في جنباتها، ويملؤها ويملؤها حتى الحافة.
وحينما كان الفرح يفيض بها تتلفَّت وراءها كأنما هناك من يطاردها، كأنما المرأة الأخرى الميتة صحت فجأة وراحت تجري خلفها لتسترد حق آلامها، وقد بلغ الخوف أحيانًا فتسرع الخطى وهي تتلفَّت حولها، وتخفي بطنها بذراعيها كأنما هي تخبئ تحت ملابسها شيئًا مسروقًا أو مختلسًا.
ما الذي كان يطاردها؟ لم تكن تعرف، لكنه لم يكن امرأة ميتة أو امرأة على الإطلاق، كان رجلًا، ربما لا يتخذ دائمًا شكل الرجل لكنه كان رجلًا، مرة يصبح طويلًا نحيلًا له عينان ضيقتان بغير رموش كعينَيْ أبيها، ومرة يصبح غليظًا قصيرًا ينفخ خلفها بأنفاس كالسعال ويدب وراءها بقدم ثقيلة كخف الجمل، ومرة لا يكون رجلًا واحدًا وإنما رجال كثيرون ملتحمون في كتلة واحدة ضخمة متعددة الرءوس والأذرع والأرجل كحيوان مائي غريب أو أخطبوط.
وكانت قد ارتدت جلبابًا واسعًا فضفاضًا يخفي تحته بطنها، وكانت تسرع الخطى لتختبئ وراء شجرة أو صخرة، وبدأت اليدان الدقيقتان الناعمتان تدقَّان جدران بطنها، لم يكن هو الدَّق الرقيق العادي الذي ينتهي بعد فترة، وإنما هو دق شديد مستمر يهز جسدها هزًّا عنيفًا ويكاد يشطرها نصفين، وربما هي تنشطر فعلًا، فالمنشار الحاد بدأ يروح ويجيء من قمة رأسها إلى أطراف قدميها مارًّا بصدرها وبطنها وظهرها، وفتحت فمها لتصرخ من الألم لكنها دسَّت يدها في فمها وضغطت عليها بفكيها بكل قوتها فانغرزت أسنانها في لحمها.
وفي لحظة خاطفة انتهى كل شيء، المنشار سقط فجأة في الهواء وجسدها المشطور تمدد فوق الأرض ينزف ببطء، لحظة خاطفة لم تستغرق ثانية أو ثانيتين لكنها بدت كدهر بأكمله، دهر طويل ثقيل بطيء شمل حياتها كلها منذ وُلِدت، بل قبل أن تولد حين كانت جنينًا صغيرًا يصارع الموت بغير أظافر وبغير أسنان وبغير شعر، دهر طويل ولدت فيه بنتًا وتحولت فيه البنت إلى امرأة وتحولت المرأة إلى أم.
وزحفت الأمومة إلى جسدها الساخن النازف كإحساس ثقيل بارد أو كتيار من الهواء الصاقع جعل جسدها يرتعد، وضمت ذراعيها وساقيها لتدفئ نفسها فإذا بها تنضم حول إنسان صغير جدًّا له عينان تشبهان عينيها، ويدان وقدمان تشبهان يديها وقدميها، كأنما هي تنظر إلى نفسها من خلال عدسة مصغرة، والتفت حوله ذراعاها ونهداها وساقاها وشفتاها فكأنما هي تحتضن جسدها وتلثم بشفتيها جلدها.
وكان فمه الصغير مفتوحًا يلهث فدست فيه ثديها، وحينما أحست ضغط فكيه الناعمين الضعيفين على لحمها حوَّطَته بجسدها أكثر وأكثر فكأنما هي تُدخِله مرة أخرى إلى بطنها.
وربما كانت تريد أن تُدخِله فعلًا، فقد اشتد الهواء البارد من كل ناحية وأصبح جسده الصغير الأملس يرتعد، وكَسَت بشرته الرقيقة الوردية زرقة داكنة، لو أنها استطاعت أن تبقيه داخلها إلى الأبد! وتلتفت حولها فإذا بها تنهض مذعورة، كانت المطاردة لا تزال خلفها، وقد اشتدت وزاد عددها فأصبح الناس من كثرتهم يقفون وقد التصق الواحد بالآخر في صفوف رفيعة طويلة تندفع نحوها، كانوا رجالًا كلهم، ربما لم يكونوا تمامًا لكن رءوسهم كانت حليقة وذقونهم وشواربهم طويلة وصدورهم وسيقانهم يغطيها شعر كثيف كثافة الغابة.
أهي الصفوف نفسها التي كانت تسد الممرات الضيقة تتطلع نحو بابها؟ أهم الرجال أنفسهم الذين كانوا يقفون واحدًا وراء الآخر في انتظارها؟ لم تكن تعرف، لكنهم هذه المرة لا يتطلعون ولا ينتظرون، إنهم يندفعون بقوة وبسرعة كالمسعورين.
لم تكن تعرف إلى أين تجري لكنها كانت تجري، وخلعت حذاءها حتى يُسمع صوت قدميها، ووضعت كفَّها على فم طفلها حتى لا تُسمع صرخاته، وسدت جرحها النازف بحفنة تراب حتى لا يرسم شريط الدم أثرها، وكانت تلتفت وراءها من حين إلى حين، وكلما خُيِّل إليها أنها اختفت عن العيون عادت فوجدت نفسها في مكانٍ عارٍ مكشوف، ثم وجدت نفسها أخيرًا أمام النهر.
هنا توقَّفت، لم تستطع أن تتقدم أكثر؛ فالنهر بتياره العنيف أمامها، ولم تستطع أن تعود إلى الوراء؛ فالمطاردة المسعورة خلفها، وكان الجرح المفتوح النازف قد سحب الدم من رأسها، أصبح وجهها أبيض بلون البفتة وعقلها أبيض وخلايا مخها بيضاء ولم تعرف ماذا تفعل، كان جسدها يرتعد من الخوف، ليس خوفًا عاديًّا مألوفًا وإنما ذلك الخوف المفزع المروع حين يحس الإنسان لأول مرة في حياته ولآخر مرة أيضًا أنه سيموت، فيخرج من جسده ذلك العملاق الهائل الجبار الذي لا يعرف شيئًا ولا يعرف أحدًا إلا نفسه، ونفسه فحسب.
في تلك اللحظة الخرافية الخاطفة ارتفعت صرخة حادة من فم الطفل، ذُعرت وخبَّأته بجسمها، لكنه كان قد بدأ يصرخ ويرفس، حوَّطَته أكثر وأكثر لتخفيه في طيَّات جسدها، لتدخله مرة أخرى في بطنها، لكنه لم يدخل، لو كان يدخل فلا يراه أحد ولا يسمعه أحد! لو كان على الأقل يظل ساكنًا بغير حركة وبغير صوت! ربما استطاعت أن تلفه في جلبابها كصرة ملابس، ربما قالت إنه بضعة كيزان ذرة، لكن الطفل الوليد العاري كان قد ارتعد من البرد وارتفعت صرخاته الحادة في الجو كصفارة إنذار لا تنقطع، ولم تدرِ ماذا تفعل، وكان العملاق الجبار قد خرج منها، وضغطت يده القوية الهائلة فوق الفم الصغير الناعم لتكتم صرخاته إلى الأبد، لكن يدها الأخرى أسرعت بكل سرعتها وكل قوتها أيضًا فشدت اليد من فوق فم الطفل، وانفتح الفم إلى آخره هذه المرة وراح يطلق في الجو صراخًا حادًّا أكثر من أي مرة سابقة، وكانت المطاردة المسعورة قد اقتربت وكان موقعها قد انكشف، فاندفعت بكل اندفاعة الخوف من الموت، بكل غريزة البقاء العمياء تاركة أو ناسية الطفل حيث كان.
كانت تجري بأقصى سرعتها لكنها استطاعت أن تلوي رأسها ناحيته لتراه مرة أخيرة، كان يرقد بين الصخور بجسمه الأملس، فمه مفتوح يلهث، وعيناه الصغيرتان مليئتان بدموع تعكس لون عينها، ويداه الدقيقتان وقدماه كيديها وقدميها ممدودة في الهواء كأنما تنادي عليها.
ولم تعرف ماذا حدث لها بعد ذلك، ربما استمر جسدها بفعل الاندفاع الذاتي في الجري، ربما تعثَّرت أو سقطت بعد فترة من شدة النزيف والجهد، ربما امتدت إلى جسدها آيادٍ محميَّة لتكويها، ربما مُزِّقت إربًا، ربما حدث لها أي شيء ورأت أي شيء، لكن صورة واحدة ظلت ماثلة أمام عينيها، جسم أملس صغير بين الصخور، فمه مفتوح يلهث، وعيناه الصغيرتان مليئتان بدموع تعكس لون عينيها، ويداه الدقيقتان وقدماه كيديها وقدميها ممدودة في الهواء كأنما تنادي عليها.
وأغمضت عينيها وفتحتهما، لكن الجسم الأملس الصغير ظل بين الصخور لا يذهب، والدموع ظلت في العينين الصغيرتين لا تجف ولا تسقط، واليدان الدقيقتان والقدمان ظلَّت ممدودة في الهواء لا تكف عن النداء ولا تهدأ.
وأغمضت عينيها مرة أخرى وفتحتهما، ثم أغمضتهما وفتحتهما … مئات المرات بل آلاف المرات حتى إن جفنيها كانا ينفتحان وينغلقان وينفتحان وينغلقان بسرعة كبيرة فكأنهما لا ينغلقان ولا ينفتحان وإنما يهتزان بسرعة وقد أصابتهما رعشة ثابتة ومستمرة، على أنه في تلك اللحظة الخاطفة التي ينفرج فيها الجفنان المرتعشان كانت تظهر الصخور ومن بينها الجسم الأملس الصغير والفم المفتوح والعينان الصغيرتان الدامعتان واليدان الممدودتان والقدمان، فكأنما التصقت الصورة بشبكتيها أو انحفرت في قاع عينيها.
•••
وكان الليل والنهار يتعاقبان كالعادة لكنها لم تكن تعرف أنهما يتعاقبان، كان جفناها دائمًا مفتوحين أو لعلهما دائمًا منغلقان، فالنور والظلام سيان، وهي لا تدرك شيئًا سوى أنها تسير، تتسنَّد على الحيطان والجدران وقد تسقط أحيانًا فوق ركبتيها وتنثني فوق الأرض وتنبش التراب بيديها.
كأنما كانت تبحث، لكنه لم يكن بحثًا عاديًّا يعرف فيه المرء الشيء المفقود ويعرف أنه قد يجده وقد لا يجده، كان بحثًا غريبًا؛ فهي لا تعرف إذا كانت ستجده أم لا تجده، ولعلها كانت تحس أنها لن تجده أبدًا، بل إنها كثيرًا ما تلتفت حولها كالتائهة ولا تعرف تمامًا ما هذا الذي فقدته.
أحيانًا كان يبدو لها أنها تبحث عن أمها، ويلوح لها وجه أمها بعينيها الواسعتين الغائرتين وهما تنظران إليها حين كانت دموعها تنساب في صمت فوق خديها الصغيرين، وتبدأ نظرات أمها تلين وتطبع على وجهها تلك القبلة أو اللمسة السريعة، وأحيانًا كان يلوح لها وجه «نون» بعينيها الخضراوين اللامعتين وشفتيها النديتين المتباعدتين دائمًا أبدًا في ابتسامة لها هي بالذات، بل إنه في بعض الأحيان أيضًا كانت تلوح لها تلك القدم المرتخية المرتعشة وهي تحاول مرة بعد مرة أن تدخلها في الحذاء ثم تنجح في إدخالها بعد عدة محاولات.
وكانت عضلات وجهها في تلك الأحيان تتقلَّص عن ابتسامة صغيرة أو تنفرج شفتاها عن تنهيدة لضياع تلك اللحظات السعيدة لكنه سرعان ما يقع بصرها على وليد يرضع ثدي أمه، أو طفلة تتشبث بذيل أمها، أو طفل يمسك بيد أبيه، أو طفل يأكل أو طفل يلعب أو طفل يبكي، الأطفال منتشرون في كل مكان وسرعان ما يقع بصرها على طفل فتصيب جفنيها تلك الرعشة المزمنة ويظهر الجسم الأملس الصغير بين الصخور فمه مفتوح وعيناه مليئتان بالدموع ويداه الدقيقتان وقدماه ممدودة في الهواء تنادي عليها.
حينئذٍ ينفتح فمها لتصرخ، وقد يندفع جسدها من تلقاء نفسه فيجري بين الخيام، وقد تسقط على ركبتيها فوق الصخور تحفر بأصابعها الأرض وتنخل بين يديها التراب.
لكنها لم تكن تعثر على الشيء، فتظل راكعة على ركبتيها أو يهبط جسدها وحده فوق أليتيها، وحينما تسري رطوبة الأرض في فخذيها ينتابها إحساس جارف بالراحة، فتنفرج شفتاها الجافتان عن أنفاس لاهثة متقطِّعة تشبه الضحكة، بل لعلها كانت تضحك فعلًا أو لعلها كانت تقهقه كطفل صغير نزل القناة بقدميه الصغيرتين وراح يبلل بالماء الرطب ساقيه وذراعيه ورأسه وشعره.
•••
لو كانت بطلة في رواية ربما كانت تظل على هذا النحو إلى الأبد أو تنتهي وتموت ويأكلها الدود، لكنها كانت امرأة حقيقية، لم تكن حقيقتها كتلك الحقائق التي إذا اقترب المرء منها لم تعد حقائق، وإنما كانت حقيقة حقيقية، قد لا تبدو من على البُعد حقيقية ولكن إذا ما اقترب منها المرء أصبحت حقيقية يراها بعينيه ويلمسها بيديه ويشمها بأنفه، جسم موجود وباقٍ وليس هو أيضًا أي جسم، إنه جسمها «عين الحياة» بذاتها وإرادتها العجيبة التي قهرت كل الإرادات، جاءت إلى الحياة رغم إرادة الحياة وعاشت رغم إرادة الموت وظلت تعيش رغم إرادة الجميع، رُفضت منذ البداية حتى النهاية، ومن ذا الذي يمكن أن يدَّعي أنه أرادها، لا أحد أرادها وإنما هي التي أرادت نفسها، أرادتها هي وحدها، ولولا إرادتها ما جاءت ولا عاشت ولا استمرت تعيش، أي إرادة هذه؟ لم تكن تعرف، لكن جسدها كانت له قدرة عجيبة على الحياة، حين يمتد إصبعها خطأً ويلمس النار تتقلَّص عضلات ذراعها وتنكمش يدها فلا تحترق، وحينما تتلوَّى معدتها من الجوع تنقبض عضلاتها وتفرز شيئًا كالطعام، وحينما تلمح نصلًا لامعًا في الظلام أو فهدًا أو ذئبًا ينكمش جسدها ويتكوَّر كالكُرة الصغيرة ويمكن لها أن تختفي في حُفرة أو تحت صخرة، حتى الدود الميت الذي كانت تأكله مع طين البرك استطاعت خلاياها أن تحوله إلى نسيج ساخن حي.
كانت تريد أن تعيش فعاشت، ربما لو أرادت الموت لماتت قبل أن تولد أو بعد أن وُلدت أو في أي لحظة من حياتها، لكنها أرادت الحياة، ربما أرادتها بغير إرادتها لكنها أرادتها، كانت شمس الصباح تسقط فوق جسدها المرتخي الممدود بحذاء النهر فيجف ويصلب وتتسند فوق الصخور وتنهض، وحينما تسير يتبعها النهر من خلفها كشريط الدم فتملأ الجرح المفتوح بحفنة تراب لتوقف النزف، وحينما تلمح شيئًا يتحرَّك في الماء أو فوق الرمال أو بين الصخور، وربما لا يكون إلا سمكة أو ثعبانًا أو فأرًا صغيرًا، لكنه يبدو لها من بعيد وكأنما له يدان وقدمان ممدودة في الهواء، إذا تنطلق تجري نحوه، لكنها لا تلبث ألا تجده فتقف لاهثة وتتلفت حولها حائرة.
ربما دَمِيت قدماها من السير، ربما بَلِيت عيناها من النظر، ربما تآكلت أصابعها من النبش، ربما جاعت ربما تعرَّت، ربما هطل عليها المطر وجمَّد أطرافها الصقيع، ربما أُلقيت فوقها القاذورات والعفن، ربما أي شيء، لكنها لم تكن تتوقف، كانت قد أرادت الحياة ورفضت الموت، ليس رفضًا عاديًّا حيث يرفض المرء شيئًا قد يقبله وقد يرفضه، لكنها لم تكن تختار، كانت في الأصل مرفوضة ولم يكن أمامها إلا أن ترفض الرفض.
•••
لو كان الأمر خيالًا ربما انتهت القصة عند هذا الحد، لكنها لم تكن خيالًا، كانت امرأة من لحم ودم فقدت ابنًا من لحم ودم، ولم يكن هناك من حل، فإما أن تنساه وإما أن تعثر عليه، ولعلها استطاعت مرة أن تنساه، لكنه لم يكن نسيانًا بمعنى النسيان، فالمرء قبل أن ينسى لا بُدَّ له من شيء يذكره، لكنها لم تكن تذكر شيئًا، وما دامت لا تذكر شيئًا فهي لا تنسى شيئًا، كانت ذاكرتها قد طُحنت وسُحقت فأصبحت ناعمة ملساء كجلدة رأس صلعاء لا شيء يعلق بها ولا هي تستبقي شيئًا.
وكان من الممكن أن تنتهي عند هذا النسيان لولا أنها عثرت عليه بين الصخور، ربما لم يكن هو نفسه، فالفم ليس مفتوحًا وإنما مزمومٌ في غضب والعينان ليستا دامعتين وإنما قداحتان يتطاير منهما الشرر، واليدان والقدمان ليست ممدودة في الهواء وإنما متقلصة متقوسة حول مدفع، لكنه كان شبيهًا به إلى حد أنها تعرفت عليه، وكانت الأيام والسنون قد أنهكتها وأذلَّتها فلم تفتح فمها بفرحة الخلاص، وإنما تركت جسدها المشطور النازف يتساقط عند قدميه …