الفصل الخامس
القوة الناعمة للإنسانية
لماذا أخفقت حقوق الإنسان في البداية قبل أن تنجح
على المدى البعيد
هل كانت حقوق الإنسان مجرد «هراء منمق، وجعجعة فارغة» حقًّا كما ادعى الفيلسوف جيرمي
بنتام؟ إن الفجوة الزمنية الطويلة في تاريخ حقوق الإنسان، التي تفصل بين نشأتها الأولى
مع الثورتين الأمريكية والفرنسية وبين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم
المتحدة عام ١٩٤٨، تجبر أي إنسان على التوقف للتأمل وإنعام النظر. لم تختفِ الحقوق سواء
على مستوى الفكر أو الفعل، غير أن المناقشات والمراسيم تكاد تجرى الآن على نحو حصري ضمن
أطر قومية محددة. ظلت فكرة الحقوق التي يكفلها الدستور على اختلاف أنواعها — كالحقوق
السياسية للعمال، والأقليات الدينية، والمرأة مثلًا — تلقى المزيد من القبول في القرنين
التاسع عشر والعشرين، غير أن الحديث عن حقوق طبيعية قابلة للتطبيق على صعيد عالمي خبا
بريقه؛ فالعمال — على سبيل المثال — نالوا حقوقهم بصفتهم عمالًا بريطانيين، أو فرنسيين،
أو ألمانًا، أو أمريكيين، وليس بصفتهم عمالًا فحسب. عبَّر القومي الإيطالي جوسيبي
ماتزيني، الذي عاش في القرن التاسع عشر، عن التركيز الجديد على فكرة الوطن عندما طرح
السؤال البلاغي: «ما الوطن … سوى المكان الذي تُكفل فيه حقوقنا الفردية بأكبر قدر من
الأمان؟» تطلب الأمر حربين عالميتين مدمرتين لتحطيم هذه الثقة في معنى الوطن.
1
نقائص حقوق الإنسان
سادت فكرة القومية باعتبارها الإطار المهيمن في مسألة الحقوق تدريجيًّا بعد عام ١٨١٥،
مع سقوط نابليون ونهاية عهد الثورة. وفي الفترة بين ١٧٨٩ و١٨١٥ تنازع مفهومان مختلفان
للسلطة أحدهما مع الآخر: حقوق الإنسان من ناحية والمجتمع الهرمي التقليدي من ناحية
أخرى. استخدم كل جانب منهما مفهوم الأمة والقومية، مع أن أيًّا منهما لم يقدم أي مزاعم
بشأن تحديد الهوية بواسطة العرق. بطبيعة الحال، رفض مفهوم حقوق «الإنسان» أي فكرة تزعم
أن الحقوق معتمدة على الجنسية، ومن ناحية أخرى، كان إدموند بيرك قد حاول أن يربط
المجتمع الهرمي بمفهوم معين للوطن، عن طريق التأكيد على أن الحرية لا تكفلها سوى حكومة
لها جذورها الراسخة في تاريخ الأمة، مع التأكيد على التاريخ، وأصر بيرك على أن الحقوق
تنجح فقط عندما تنبع من تقاليد وممارسات عريقة.
أنكر مؤيدو حقوق الإنسان أهمية التقاليد والتاريخ، وأكد بيرك أن الإعلان الفرنسي لم
يمتلك من القوة العاطفية ما يكفي لفرض الانصياع له؛ وذلك لأنه اعتمد بالتحديد على
«أفكار تجريدية ميتافيزيقية». كيف يمكن «لقصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة» تلك
أن تضاهي محبة الله، ورهبة الملوك، وطاعة القضاة، وتبجيل الكهنة، والإذعان للرؤساء؟
وانتهى بيرك بالفعل في عام ١٧٩٠ إلى أن الثوار سيضطرون إلى استخدام العنف كي يبقوا في
السلطة. وعندما أعدم الجمهوريون الفرنسيون الملك وانتقلوا إلى «حكم الإرهاب» باعتباره
نظام حكم معترفًا به — كما كان الحال في عامي ١٧٩٣ و١٧٩٤ — بدا أن نبوءة بيرك قد تحققت.
ولم يمنع «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، الذي وُضع على الرف إلى جانب دستور ١٧٩١، من
قمع المعارضة والإعدام الجماعي لأولئك الذين اعتُبروا أعداءً.
وعلى الرغم من نقد بيرك اللاذع، رحَّب العديد من الكُتَّاب والساسة في أوروبا
والولايات المتحدة بإعلان الحقوق بحماسة بالغة في عام ١٧٨٩، على أنه عندما أصبحت الثورة
الفرنسية أكثر تطرفًا، بدأ الرأي العام ينقسم. كان رد فعل الحكومات الملكية تحديدًا
قويًّا في معارضة إعلان الجمهورية وإعدام الملك؛ ففي ديسمبر من عام ١٧٩٢، أُجبر توماس
بين على الفرار إلى فرنسا عندما أدانته محكمة بريطانية بتهمة إثارة الفتنة لمهاجمته
نظام الحكم الملكي الوراثي في الجزء الثاني من كتابه «حقوق الإنسان»، وأتبعت الحكومة
البريطانية هذا بحملة تعسف واضطهاد ممنهجة ضد مؤيدي الأفكار الفرنسية. وفي عام ١٧٩٨،
أي
بعد مرور اثنين وعشرين عامًا فحسب على إعلان الولايات المتحدة الذي ينادي بالحقوق
المتساوية لجميع الناس، أصدر الكونجرس الأمريكي «قوانين الفتنة والغرباء» للحد من
الانتقادات الموجهة للحكومة الأمريكية، وتجلت الروح الجديدة لهذا العصر في التعليقات
التي أبداها جون روبيسون — أستاذ الفلسفة الطبيعية بجامعة إدنبرة — عام ١٧٩٧؛ ندَّد
روبيسون بما أسماه: «ذلك المبدأ البغيض، الذي يسيطر الآن على كل العقول، ويدعونا إلى
التفكير المستمر في حقوقنا، والمطالبة بها بلهفة من كل الجهات.» في رأي روبيسون، كان
هذا الهوس بالحقوق هو «أعظم خراب في الحياة»؛ إذ حسب هذا الهوس السبب الرئيسي للجيشان
السياسي المستمر حتى في اسكتلندا، وللحرب بين فرنسا وجيرانها؛ تلك الحرب التي تهدد الآن
باجتياح أوروبا بأكملها.
2
كان تحفُّظ روبيسون على الحقوق واهنًا باهتًا بالمقارنة بالقذائف التي أطلقها أنصار
الملكية المناوئين للثورة على القارة؛ فوفقًا لما قاله لويس دي بونالد، أحد المحافظين
الصريحين: «بدأت الثورة بإعلان حقوق الإنسان، ولن تنتهي إلا عندما تُعلن حقوق الله.»
وقد أكد أن إعلان الحقوق يجسد الأثر الخبيث لفلسفة عصر التنوير، والإلحاد، والمذهب
البروتستانتي، والماسونيين الأحرار، وهي الأشياء التي جمعها كلها معًا. شجَّع الإعلان
الناس على إهمال واجباتهم وحصر تفكيرهم في رغباتهم الفردية، ولمَّا عجز عن كبح مشاعرهم،
قاد فرنسا مباشرة إلى الفوضى، والإرهاب، والتفسخ الاجتماعي. ولا توجد جهة تستطيع أن
تغرس المبادئ الأخلاقية الحقيقية سوى كنيسة كاثوليكية يعاد تنشيطها وتقويتها تحت حماية
النظام الملكي الشرعي بعد عودته للحكم. وبعد إعادة ملك آل بوربون
إلى العرش مرة أخرى في عام ١٨١٥، أخذ
بونالد زمام المبادرة في إبطال القوانين الثورية المتعلقة بالطلاق وإعادة تفعيل الرقابة
الصارمة على المطبوعات.
3
وقبل عودة ملوك آل بوربون — عندما نشر الجمهوريون الفرنسيون
ومن بعدهم نابليون رسالة الثورة الفرنسية
من خلال الغزو العسكري — كانت حقوق الإنسان
متداخلة مع العدوان الاستعماري، ومما يُحسب لفرنسا أن تأثيرها دفع السويسريين
والهولنديين إلى إلغاء التعذيب في عام ١٧٩٨؛ وتبعتهما إسبانيا عام ١٨٠٨ عندما تُوِّج
شقيق نابليون ملكًا عليهم. على أنه بعد سقوط نابليون، عاود السويسريون استخدام التعذيب،
وأعاد الملك الإسباني تفعيل «محاكم التفتيش»، التي كانت تستخدم التعذيب بغية انتزاع
الاعترافات، كما تشجَّع الفرنسيون أيضًا على تحرير اليهود في أي منطقة تهيمن عليها
الجيوش الفرنسية. ومع أن الحكام العائدين سلبوا بعضًا من هذه الحقوق المكتسبة مؤخرًا
في
إيطاليا وألمانيا، فإن تحرير اليهود ظل ثابتًا في هولندا. ولمَّا اعتُبر تحرير اليهود
عملًا فرنسيًّا، فإن الخارجين على القانون الذين هاجموا القوات الفرنسية في بعض الأراضي
التي غزتها فرنسا حديثًا كانوا عادة يستهدفون اليهود أيضًا.
4
بيَّنت تدخلات نابليون المتناقضة أن الحقوق ليس بالضرورة أن ينظر إليها على أنها تشكل
حزمة واحدة؛ فقد مَنح التسامحَ الديني والحقوق المدنية والسياسية المتساوية للأقليات
الدينية أينما حكم، في حين أنه في وطنه فرنسا كبح بصرامة حرية كل فرد في التعبير، وألغى
حرية الصحافة من الأساس. لقد كان الإمبراطور الفرنسي يرى أن «الناس لم يولدوا ليكونوا
أحرارًا … فالحرية هي حاجة ملحة تراود فئة محدودة من البشر حَبَتهم طبيعتهم بعقول أكثر
نبلًا من عقول عامة الناس، وعليه يمكن كبحها بلا خوف من العقاب. ومن ناحية أخرى،
فالمساواة تسرُّ جموع الناس». لم يكن الفرنسيون إذن يرغبون في حرية حقيقية، من وجهة
نظره؛ وكل ما هنالك أنهم يطمحون للارتقاء إلى قمة المجتمع، وكانوا سيضحُّون بحقوقهم
السياسية في مقابل ضمان المساواة أمام القانون.
5
أما فيما يتعلق بالعبودية، فقد كان
نابليون ثابتًا على موقفه تمامًا؛ فأثناء فترة هدنة قصيرة إبان الصراع في أوروبا عام
١٨٠٢، أرسل حملات عسكرية إلى مستعمرات جزر الكاريبي، ومع أنه تعمد عدم الإفصاح عن
نواياه في بادئ الأمر لكي لا يثير انتفاضة عامة وسط العبيد المُحرَّرين، فإن التعليمات
المُعطاة لصهره، أحد الجنرالات، أفصحت عن نواياه؛ إذ ينبغي على الجنود أن يحتلوا بقاعًا
رئيسية فور وصولهم ويتفقدوا الأحوال، ومن ثم ينبغي عليهم «أن يتعقبوا المتمردين بلا
هوادة»، ويجردوا كافة السود من الأسلحة، ويقبضوا على قادتهم ويرحِّلوهم إلى فرنسا، وبذا
يمهدون الطريق أمام عودة العبودية. وكان نابليون على يقين من أن «احتمال قيام جمهورية
للسود يزعج الإسبان، والإنجليز، والأمريكيين كما يزعجه تمامًا». وقد باءت خطته بالفشل
في سان دومينجو، التي حصلت على استقلالها باسم هايتي، غير أنها نجحت في بقاع أخرى من
المستعمرات الفرنسية. وبلغ عدد القتلى نحو مائة وخمسين ألف شخص في الصراع على سان
دومينجو، أي إن عُشر سكان جزر جوادلوب قُتلوا أو رُحِّلوا.
6
حاول نابليون أن يخلق هجينًا من حقوق الإنسان والمجتمع الهرمي التقليدي، لكن في نهاية
المطاف، رفض الجانبان الذرية غير الشرعية لهذا التزاوج. أكد نابليون تأكيدًا شديدًا على
التسامح الديني، والقضاء على النظام الإقطاعي، والمساواة أمام القانون لكي يرضي
التقليديين، وحدَّ الكثير من الحريات السياسية ليرضي الجانب الآخر. وقد استطاع أن ينهي
الصراع مع الكنيسة الكاثوليكية، غير أنه لم يصِرْ أبدًا حاكمًا شرعيًّا في أعين
التقليديين. ومن وجهة نظر المدافعين عن الحقوق، أخفق إصراره على المساواة أمام القانون
في موازنة إحيائه لطبقة النبلاء وتأسيسه إمبراطورية وراثية. وبحلول الوقت الذي فقد فيه
إمبراطور فرنسا السلطة، ندَّد به كلٌّ من التقليديين والمدافعين عن حقوق الإنسان بوصفه
طاغية ومستبدًّا ومُغتصِبًا للسلطة. صرحت الكاتبة جيرمين دي ستال، واحدة من أكثر نقاد
نابليون حدة وإصرارًا، في عام ١٨١٧، أن إرثه الوحيد هو «بعض الأسرار الإضافية في فن
الاستبداد». وقد أشارت دي ستال — شأنها شأن كل النقاد الآخرين — إلى الزعيم المخلوع
بكنية «بونابرت»، ولم تستخدم قط اسمه الإمبراطوري «نابليون».
7
القومية تتقدم
تبيَّن على المدى الطويل أن الانتصار الذي حقَّقه النظام القانوني عابرٌ سريع الزوال،
ويعود الفضل في ذلك بدرجة كبيرة إلى التطورات التي أحدثها خصمه الرهيب نابليون. على
مدار القرن التاسع عشر، هيمنت القومية على طرفي المناقشات الثورية، فغيَّرت مسار
مناقشات الحقوق، وخلقت أنواعًا جديدة من التسلسلات الهرمية التي هددت في نهاية المطاف
النظام القانوني التقليدي. حفزت المغامرات الاستعمارية للطاغية المغرور المنحدر من
جزيرة كورسيكا قوى القومية من وراسو إلى ليما عن غير قصد؛ فأينما ذهب أنشأ كيانات جديدة
(مثل دوقية وارسو، والمملكة الإيطالية، واتحاد الراين)، أو خلق فرصًا جديدة، أو أثار
عداءات جديدة تصاعدت حتى تحولت إلى طموحات قومية. فقد ذكَّرت دوقية وارسو البولنديين
أنه في يوم من الأيام كانت هناك دولة اسمها بولندا قبل أن تستولي عليها بروسيا،
والنمسا، وروسيا. ومع أن حكومتي ألمانيا وإيطاليا الجديدتين قد اختفتا بعد سقوط
نابليون، فقد أظهرتا أن التوحيد القومي أمر ممكن. وبخلع ملك إسبانيا، فتح الإمبراطور
الفرنسي الباب أمام حركات الاستقلال في أمريكا الجنوبية في العقدين الثاني والثالث من
القرن التاسع عشر. وقد تحدث سيمون بوليفار، مُحرر بوليفيا، وبنما، وكولومبيا،
والإكوادور، وبيرو، وفنزويلا، بنفس لغة القومية الناشئة التي تحدث بها أقرانه في
أوروبا. قال بوليفار بحماسة: «إن ترابنا الوطني يثير فينا مشاعر رقيقة وذكريات مبهجة
…
فهل من ادعاءات بالحب والإخلاص أعظم من هذه؟» وقدمت مشاعر القومية تلك القوة العاطفية
المفقودة في «قصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة» التي ازدراها بيرك.
8
كرد فعل للإمبريالية الفرنسية، رفض بعض الكُتَّاب الألمان كل ما هو فرنسي — بما في
ذلك حقوق الإنسان — وخلقوا إحساسًا جديدًا بالوطن يعتمد بكل وضوح على العرق. ولمَّا كان
الألمان المنادون بالقومية يفتقرون إلى هيكل دولة قومية موحدة، ركزوا بدلًا من ذلك على
خاصية الشعب العضوي، وهي سمة داخلية مميزة للشعب الألماني تميزه عن سائر الشعوب. ويمكن
بالفعل رؤية الدلائل الأولى على الاضطرابات المستقبلية في آراء فريدريك جان الألماني
المناصر للقومية التي أعرب عنها في مطلع القرن التاسع عشر. كتب جان: «كلما كان الشعب
أنقى، كان هذا أفضل.» وأكد على أن قوانين الطبيعة تحول دون اختلاط الأجناس والشعوب، ومن
وجهة نظر جان، فإن «الحقوق المقدسة» هي تلك الحقوق التي تخص الشعب الألماني دون سواه،
وكان ناقمًا بشدة على التأثير الفرنسي، حتى إنه حث إخوانه الألمان على الامتناع عن
التحدث بالفرنسية تمامًا. وعلى غرار كافة المناصرين للقومية الذين جاءوا من بعده،
حثَّهم على كتابة التاريخ الوطني ودراسته؛ فينبغي أن تركز كافة النُّصب التذكارية،
والجنازات العامة، والمهرجانات الشعبية على الطابع الألماني وليس على أي مُثل عالمية.
وفي نفس اللحظة التي كان يخوض فيها الأوروبيون ذروة معاركهم في مواجهة طموحات نابليون
الاستعمارية، اقترح جان توسيع حدود ألمانيا الجديدة بقدر مدهش، وشدد على أن هذه الحدود
ينبغي أن تشمل سويسرا، والبلدان المنخفضة، والدنمارك، وبروسيا، والنمسا، كما ينبغي أن
تُبنى عاصمة جديدة لها ويُطلق عليها اسم تيوتونا.
9
وعلى غرار جان، آثر معظم أنصار القومية الأوائل الشكل الديموقراطي للحكومة؛ لأنه من
شأنه أن يعظِّم الإحساس بالانتماء الوطني إلى أقصى حد. ونتيجة لذلك، عارض التقليديون
القومية والاتحاد الألماني أو الإيطالي في بداية الأمر بقدر ما عارضوا حقوق الإنسان.
وكان أنصار القومية الأوائل يتحدثون باللغة الثورية للعالمية المسيحية، لكن من وجهة
نظرهم كان الوطن، وليست الحقوق، هو نقطة الانطلاق إلى العالمية الشاملة. آمن بوليفار
أن
كولومبيا سوف تنير الطريق إلى الحرية والعدالة العالميتين. وصرَّح ماتزيني، مؤسس «جمعية
يانج إيتالي» القومية، بأن الإيطاليين سوف يقودون حملة عالمية للشعوب المضطهدة من أجل
الحرية. ورأى الشاعر آدم ميسكفيتش أن البولنديين سوف يقودون الطريق نحو الحرية
العالمية. باتت حقوق الإنسان في ذلك الحين تعتمد على تقرير المصير القومي، وكانت
الأولوية بالضرورة لتقرير المصير القومي.
بعد عام ١٨٤٨، شرع التقليديون في استيعاب مطالب أنصار القومية، وانتقلت الحركة
القومية من يسار إلى يمين الطيف السياسي. ومهَّد إخفاق الثورات القومية والدستورية في
ألمانيا، وإيطاليا، والمجر، في عام ١٨٤٨ الطريق لهذه التغيرات. أبدى أنصار القومية
المعنيين بكفالة الحقوق في الأوطان المقترحة حديثًا استعدادهم التام لرفض حقوق الجماعات
العرقية الأخرى. حرر الألمان في اجتماعهم بفرانكفورت دستورًا قوميًّا جديدًا لألمانيا،
غير أنهم أنكروا على الدنماركيين، والبولنديين، والتشيكيين حق تقرير المصير داخل حدودهم
المقترحة. وتجاهل المجريون الذين طالبوا بالاستقلال عن النمسا مصالح الرومانيين،
والسلوفاكيين، والكرواتيين، والسلوفينيين، الذين كانوا يشكلون أكثر من نصف سكان المجر.
دمرت المنافسة فيما بين الأعراق ثورات عام ١٨٤٨ ومعها الرابطة التي تجمع بين الحقوق وحق
تقرير المصير القومي، ونجح التوحيد القومي لكل من ألمانيا وإيطاليا في خمسينيات
وستينيات القرن التاسع عشر بفعل الحرب والدبلوماسية؛ ولم يلعب ضمان الحقوق الفردية أي
دور في هذا الاتحاد.
تحولت القومية — التي كانت في وقت من الأوقات مندفعة بكل حماسة باتجاه ضمان الحقوق
من
خلال نشر حق تقرير المصير القومي — نحو الانغلاق والدفاعية على نحو متزايد. وعكس هذا
التحول مدى هول مهمة خلق الأمم؛ فقد خيَّبت الخريطة اللغوية نفسها فكرة أنه يمكن تقسيم
أوروبا على نحو منظم إلى دول قومية من المجموعات العرقية والثقافية المتجانسة نسبيًّا؛
فكل دولة قومية كانت تؤوي أقليات لغوية وثقافية في القرن التاسع عشر، حتى الدول العريقة
مثل بريطانيا العظمى وفرنسا. فعندما أُعلنت الجمهورية في فرنسا في عام ١٨٧٠، لم يكن نصف
سكانها يستطيعون تحدث الفرنسية؛ أما الباقون فقد كانوا يتحدثون لهجات أو لغات إقليمية
مثل اللغة البريتانية، والبروفنسالية الفرنسية، والباسكية، والألزاسية، والكتالانية،
والكورسية، والقسطانية، أو اللغة الكريولية في المستعمرات. كان يقتضي الأمر حملة
تعليمية هائلة لدمج كل فرد في الأمة، وواجهت الأمم الطموحة ضغوطًا أعظم بسبب اختلافات
عرقية أكبر؛ فقد كان الكونت كاميلو دي كافور، رئيس وزراء المملكة الإيطالية الجديدة،
يتحدث اللغة البيدمونتية كلغته الأولى، وأقل من ثلاثة بالمائة من إخوانه المواطنين
كانوا يتحدثون الإيطالية الفصحى، بل وكان الموقف أكثر فوضوية في شرقي أوروبا، حيث عاش
العديد من الجماعات العرقية المختلفة جنبًا إلى جنب. فعلى سبيل المثال: لم تشتمل بولندا
الجديدة على مجتمع كبير لليهود فحسب، وإنما أيضًا على لتوانيين، وأوكرانيين، وألمان،
وبيلاروس، وكلٌّ بلغته وتقاليده.
ساهمت صعوبة خلق تجانس عرقي أو الحفاظ
عليه في المخاوف المتنامية بشأن الهجرة على الصعيد العالمي. اعترض قليلون على الهجرة
قبل ستينيات القرن التاسع عشر، غير أنها تعرضت للنقد الشديد في الدول المستقبِلة في
ثمانينيات وتسعينيات نفس القرن؛ فقد حاولت أستراليا أن تمنع تدفق المهاجرين الآسيويين
إليها لعلها تحافظ على شخصيتها الإنجليزية والأيرلندية، ومنعت الولايات المتحدة الهجرة
إليها من الصين في عام ١٨٨٢ ومن كل أنحاء آسيا في عام ١٩١٧، ثم وضعت حصصًا محددة للهجرة
لجميع الأجناس الأخرى عام ١٩٢٤ بناء على التركيب العرقي الحالي لسكان الولايات المتحدة،
وأصدرت الحكومة البريطانية «قانون الغرباء» عام ١٩٠٥؛ كي تحول دون هجرة «غير المرغوب
فيهم»، العبارة التي فسرها كثيرون على أنه يُقصد بها يهود شرق أوروبا. وحتى فيما بدأ
العمال والعبيد يحصلون على الحقوق السياسية المتساوية في هذه البلاد، وقفت المعوقات في
طريق أولئك الذين لا يتمتعون بنفس الأصول العرقية.
وسط هذا الجو الوقائي الجديد، تسربلت القومية بخاصية يشوبها المزيد من الكره للأجانب
والعنصرية. ومع أن كره الأجانب قد يستهدف أي جماعة أجنبية (الصينيين في الولايات
المتحدة، أو الإيطاليين في فرنسا، أو الأيرلنديين في ألمانيا)، فإن العقود الأخيرة من
القرن التاسع عشر شهدت زيادة كبيرة في معاداة السامية. استخدم الساسة اليمينيون في كل
من ألمانيا، والنمسا، وفرنسا، الصحف والنوادي السياسية، وفي بعض الحالات الأحزاب
السياسية الجديدة؛ كي يشعلوا نار كراهية اليهود باعتبارهم أعداء الأمة. وبعد مرور عقدين
من حملة الصحف اليمينية لمعاداة السامية، جعل حزب المحافظين الألماني معاداة السامية
بندًا رسميًّا من بنود برنامجه في عام ١٨٩٢. وفي الوقت نفسه تقريبًا، أثارت قضية دريفوس
اضطرابات هائلة في عالم السياسة الفرنسي، فقد أشاعت انقسامات دائمة بين مؤيدي ومناوئي
دريفوس. بدأت القضية في عام ١٨٩٤ عندما اتُّهم خطأً ضابط جيش يهودي اسمه ألفريد دريفوس
بالتجسس لصالح ألمانيا، وعندما حُكم عليه بالإدانة — على الرغم من الأدلة الكثيرة على
براءته — نشر الروائي الشهير إيميل زولا مقالة جريئة في الصفحة الأولى لإحدى الصحف يتهم
فيها الجيش والحكومة الفرنسيين بطمس الأدلة عمدًا بهدف إدانة دريفوس. وكرد فعل للانحياز
المتنامي إلى جانب دريفوس، أثارت عصبة فرنسية حديثة التشكيل معادية للسامية الشغبَ في
العديد من المدن والبلدات، الأمر الذي تتطور في بعض الأحيان إلى هجوم آلاف المتظاهرين
على ممتلكات اليهود، واستطاعت العصبة أن تحشد عددًا كبيرًا من الناس؛ لأن العديد من
المدن كانت تصدر بها الصحف تعجُّ بالسب والقذف المعادي للسامية بانتظام. ومنحت الحكومة
دريفوس العفو في عام ١٨٩٩، وأخيرًا برأته في عام ١٩٠٦. على أن معاداة السامية تفاقمت
للغاية في كل مكان. وفي عام ١٨٩٥، نجح كارل لوجر في الفوز بمنصب عمدة فيينا معتمدًا على
برنامج معادٍ للسامية، وقد أصبح فيما بعد أحد أبطال هتلر.
التفاسير البيولوجية للإقصاء
فيما باتت القومية أكثر تداخلًا مع العرقية، تحولت إلى تأكيد متزايد على التفاسير
البيولوجية للاختلاف. كانت مناقشات حقوق الإنسان قد اعتمدت على الافتراض أن طبيعة
الإنسان عبر الثقافات والطبقات هي واحدة، وبعد الثورة الفرنسية، تزايدت صعوبة إعادة
التأكيد ببساطة على الاختلافات على أساس التقاليد، أو العرف، أو التاريخ. وكان لا بد
أن
تتمتع الاختلافات بأساس أكثر متانة إذا كان مطلوبًا أن يحتفظ الرجال بسموهم على النساء،
أو البيض على السود، أو المسيحيون على اليهود. وباختصار، إذا كان من المفترض أن تقف
الحقوق عند مستوى أقل عالمية، ومساواة، وطبيعية، فلا بد من عرض الأسباب. ونتيجة لذلك،
شهد القرن التاسع عشر طفرة في التفاسير البيولوجية للاختلاف.
وما يدعو إلى السخرية هو أن فكرة حقوق الإنسان نفسها هي التي فتحت الباب سهوًا أمام
أشكال أكثر خبثًا من التحيز على أساس الجنس، والعرق، ومعاداة السامية؛ ففي واقع الأمر،
تسببت المزاعم الجارفة بشأن المساواة الطبيعية بين البشر جميعًا في ظهور تأكيدات عالمية
مماثلة على الفوارق الطبيعية، مما نتج عنه نوع جديد من المناوئين لحقوق الإنسان، أعتى
من المناوئين التقليديين وأشد خطرًا وتهديدًا. وطَرحت الأشكال الجديدة للعنصرية،
ومعاداة السامية، والتحيز على أساس الجنس، تفاسيرَ بيولوجية لفطرية اختلاف البشر، وفي
ضوء العنصرية الجديدة، لم يكن اليهود فقط قتلة المسيح؛ وإنما دناءتهم العنصرية المتأصلة
فيهم هددت بتلطيخ نقاوة البيض من خلال التزاوج معهم، ولم يعد السود أدنى لأنهم عبيدًا؛
فحتى مع انتشار إلغاء الرق في أنحاء الأرض، باتت العبودية أكثر سمِّية وليس أقل، ولم
تكن المرأة أقل عقلانية من الرجل لأنها لم تحصل على التعليم الكافي، إنما حتَّم عليها
تركيبها البيولوجي الحياة المنزلية الخاصة، وجعلها غير مؤهلة بالمرة للسياسة، أو
التجارة، أو المهن الحرفية. وفي ظل هذه المذاهب البيولوجية الجديدة، ما كان التعليم أو
التغيرات الطارئة على البيئة لتغير أبدًا الهياكل الهرمية المتأصلة في الطبيعة
البشرية.
كان التحيز على أساس الجنس هو أقل المذاهب البيولوجية الجديدة من حيث التنظيم
السياسي، والمنهجية الفكرية، والسلبية العاطفية، فعلى أي حال، ما من أمة تستطيع أن
تتكاثر بدون أمهات، لذا حين بدا ممكنًا مناقشة أمر إعادة العبيد الأمريكيين من أصول
أفريقية إلى أفريقيا أو منع اليهود من الإقامة في منطقة معينة، كان مستحيلًا إقصاء
النساء تمامًا، ومن ثم كان يُسمح لهنَّ ببعض المزايا الإيجابية التي قد تكون هامة في
محيطهن الخاص. وعلاوة على ذلك، لمَّا اختلفت المرأة اختلافًا بيولوجيًّا واضحًا عن
الرجل (مع أن مقدار هذا الاختلاف ما زال موضوع نقاش)، فإن قليلين فقط هم من رفضوا
النقاشات البيولوجية بشأن الاختلاف بين الجنسين، التي كان لها تاريخ أطول بكثير من
النقاشات البيولوجية بشأن العرق. غير أن الثورة الفرنسية كانت قد بيَّنت أنه حتى
الاختلاف بين الجنسين، أو على الأقل علاقته بالسياسة، يمكن التشكيك فيه. فمع ظهور حجج
صريحة تنادي بالمساواة السياسية للمرأة، تغيرت الحجة البيولوجية التي تؤكد على نقص
المرأة؛ فلم تعد النساء تشغل منزلة أدنى على نفس السلم البيولوجي الذي يوجد عليه
الرجال، بل أصبح يُنظر إليهن باعتبارهن متشابهات بيولوجيًّا مع الرجال، وإن كنَّ أدنى
مرتبة. باتت الإناث توصفن على نحو متزايد بأنهن مختلفات بيولوجيًّا تمامًا عن الرجال؛
فقد صرن «الجنس الآخر».
10
لا يسهل أن نحدد بالضبط توقيت هذا التحول في طريقة التفكير بشأن المرأة أو حتى
طبيعته، غير أن فترة الثورة الفرنسية تبدو مهمة في هذا الصدد. كان الثوار الفرنسيون قد
اعتمدوا على مناقشات تقليدية إلى حد كبير بشأن اختلاف المرأة عندما منعوا لقاء النساء
في النوادي السياسية عام ١٧٩٣، صرح المتحدث الرسمي للحكومة حينها قائلًا: «النساء غير
قادرات بصفة عامة على الإتيان بأفكار سامية وتأملات جدية.» غير أنه في السنوات التالية
اجتهد أطباء فرنسيون في ترسيخ هذه الأفكار الغامضة على أسس أكثر بيولوجية؛ أثبت عالم
الفسيولوجيا الفرنسي البارز بيير كابانيس أن المرأة تملك أليافًا عضلية أضعف، وأغشية
دماغية أكثر حساسية، مما يجعلهن غير مؤهلات للمهن العامة، غير أن حساسيتهنَّ الزائدة
وسرعة تأثرهنَّ المترتبة على ذلك أهلتهنَّ لدور الزوجة والأم والممرضة، وساعد مثل هذا
التفكير في ترسيخ تقليد جديد بدت فيه المرأة مخلوقة لتحقيق ذاتها في نطاق حدود الحياة
المنزلية أو عالم أنثوي منفصل.
11
شكك الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مِل في مقاله المؤثر بعنون «خضوع المرأة» (١٨٦٩)
في وجود هذه الاختلافات البيولوجية، وأكد أننا لا نستطيع أن نعرف كيف يختلف الرجل
والمرأة في طبيعتهما؛ لأننا لا نراهما إلا في أدوارهما الاجتماعية الحالية. أكد مِل
قائلًا: «ما يُطلق عليه الآن طبيعة المرأة هو قطعًا شيء مصطنع زائف.» وربط مِل إصلاح
وضع المرأة بالتطور الاجتماعي والاقتصادي الشامل، وأكد أن التبعية القانونية للمرأة
«خاطئة هي نفسها» و«ينبغي أن يحل محلها مبدأ المساواة الكاملة الذي لا يعترف بأن القوة
والامتياز من نصيب جانب واحد، والعجز من نصيب الجانب الآخر». غير أنه لم يكن هناك حاجة
إلى عُصب أو أحزاب مماثلة لتلك المعادية للسامية للحفاظ على الجدل البيولوجي مستمرًّا
بقوة؛ ففي واحدة من القضايا القانونية الهامة التي نُظرت أمام المحكمة العليا في
الولايات المتحدة عام ١٩٠٨، استخدم القاضي لويس برانديس نفس الحجج القديمة مرة أخرى
عندما علل سبب كون الجنس أساسًا قانونيًّا للتصنيف؛ ﻓ «البنية الجسدية للمرأة»،
ووظائفها المتعلقة بالولادة، وتربية الأطفال، ورعاية المنزل، كل هذا يضع النساء في فئة
منفصلة ومختلفة. وشاع استخدام مصطلح «النسوية» في تسعينيات القرن التاسع عشر (تعبيرًا
عن الحركة المنادية بالمساواة بين الرجل والمرأة)، وكانت مقاومة المطالب التي ينادي بها
هذا المصطلح مقاومة ضارية. ولم تحصل المرأة على حق التصويت إلا عام ١٩٠٢ في أستراليا،
وعام ١٩٢٠ في أمريكا، وعام ١٩٢٨ في بريطانيا العظمى، وعام ١٩٤٤ في فرنسا.
12
وعلى غرار التحيز على أساس الجنس، اتخذت كل من العنصرية ومعاداة السامية أشكالًا
جديدة بعد الثورة الفرنسية، فلم يعد أنصار حقوق الإنسان، على الرغم من أنهم لا يزالون
هم أنفسهم يحتفظون بالعديد من القوالب النمطية السلبية لليهود والسود، يقبلون بوجود
التحيز كأساس كافٍ للجدل، فما كان من التقييد الدائم لحقوق اليهود في فرنسا إلا أن أثبت
أن العادة والعرف مارسا سطوة هائلة، وليس أن تلك القيود مبررة منطقيًّا. وبالمثل، لم
يَرَ أنصار إلغاء الرق أن الرق يثبت انحطاط الأفارقة السود، وإنما أماط اللثام عن جشع
مُلاك العبيد وأصحاب المزارع البيض، ومن ثم احتاج أولئك الذين رفضوا فكرة منح الحقوق
المتساوية لليهود أو السود إلى مبدأ — قضية مُبرهنة ببراهين دامغة — يدعم موقفهم، لا
سيما بعدما حصل اليهود على الحقوق عام ١٨٣٣
وأُلغي الرق عام ١٨٤٨ في المستعمرات البريطانية والفرنسية. وعلى مدار القرن التاسع عشر،
لجأ مناوئو حقوق اليهود والسود على نحو متزايد إلى العلم — أو ما اعتُبر علمًا — بحثًا
عن هذا المبدأ.
يمكن اقتفاء أثر علم الأعراق إلى نهاية القرن الثامن عشر ومحاولات تصنيف شعوب العالم.
ثمة خيطان كانا قد نُسجا في القرن الثامن عشر ثم جُدلا معًا في القرن التاسع عشر؛
أولًا: الزعم بأن التاريخ شهد تطور الشعوب المتوالي صوب الحضارة والتمدن، وأن البيض
كانوا أكثر الشعوب تطورًا. ثانيًا: فكرة أن السمات الدائمة المتأصلة قسمت الناس حسب
العرق. واعتمدت العرقية، باعتبارها مذهبًا نظاميًّا، على دمج هذين الشقين معًا. افترض
مفكرو القرن الثامن عشر أن كل الشعوب سوف تصل في نهاية المطاف إلى الحضارة، فيما حسب
واضعو النظريات العنصريون في القرن التاسع عشر أن أجناسًا بعينها فحسب هي التي بمقدورها
الوصول إلى التمدن نتيجة لخصالهم البيولوجية الأصيلة فيهم. ويمكن رؤية عناصر هذا الدمج
في كتابات لعلماء تعود إلى مطلع القرن التاسع عشر؛ مثل عالم الطبيعة الفرنسي جورج
كوفييه، الذي كتب في عام ١٨١٧ يقول: «ثمة قضايا داخلية معينة» كبحت تطور سلالتي المغول
والزنوج. غير أن هذه الأفكار لم تتخذ شكلها الكامل بوضوح إلا بعد منتصف
القرن.
13
يمكن رؤية خلاصة هذا النوع من الكتابات والأفكار في مقال آرثر دي جوبينيو «عن عدم
المساواة بين الأعراق البشرية» (١٨٥٣–١٨٥٥)؛ فباستخدام مزيج من الحجج المستقاة من علوم
الآثار، والأعراق البشرية، واللغة، والتاريخ، أكد الدبلوماسي والكاتب الفرنسي دي
جوبينيو أن السلم الهرمي للأعراق الذي عماده البيولوجيا حدد تاريخ البشرية. رقد في قاع
السلم العرقي أعراق ما دون البشر، غير المفكرين، أصحاب البشرة السوداء شديدو الشهوانية؛
وفوقهم أعراق الصفر، الفاترون، المتواضعون، ولكنهم العمليون في الوقت نفسه؛ واعتلى قمة
السلم أعراق البيض المثابرون، النشطاء فكريًّا، والمغامرون، الذين امتلكوا توازنًا بين
«غريزة غير عادية للنظام» و«ولع واضح بالحرية». وبداخل الجنس الأبيض، كانت السيادة من
نصيب الجنس الآري. وخلص جوبينيو إلى أن: «كل ما هو عظيم ونبيل ومثمر في حياة الإنسان
على هذه الأرض في العلوم والفنون والحضارة» مستمد من الجنس الآري. ولمَّا نزح الآريون
عن وطنهم الأول في وسط آسيا، شكلوا أساس ووقود الحضارات الهندية، والمصرية، والصينية،
والرومانية، والأوروبية، بل وحتى حضارتي الآزتك والإنكان، من خلال الاستعمار.
14
وطبقًا لجوبينيو، سوَّغ الاختلاط بين الأجناس بالتزاوج نهضة الحضارات وسقوطها. كتب
يقول: «تهيمن مسألة العرق على سائر مشكلات التاريخ الأخرى وتملك مفاتيحها.» غير أنه
اعتقد — على خلاف بعض من أتباعه اللاحقين — أن الآريين فقدوا بالفعل مزيَّتهم من خلال
التزاوج مع أجناس أخرى، وأن المساواة والديمقراطية سوف تنتصران في نهاية المطاف — مع
أن
هذه الفكرة تثير اشمئزازه — معلنتين نهاية الحضارة ذاتها. ومع أن أفكار جوبينيو
الخيالية العجيبة لم تستهوِ الكثيرين في فرنسا، فإنها لاقت استحسان إمبراطور ألمانيا
فيلهلم الأول (الذي حكم في الفترة بين عامي ١٨٦١ و١٨٨٨)، حتى إنه منح جوبينيو الفرنسي
المواطنة الفخرية. كما تبنى أفكاره أيضًا الملحن الألماني ريتشارد فاجنر، ثم صهر فاجنر
المؤلف الإنجليزي ومحب اللغة والأدب والحضارة الألمانية هيوستن ستيوارت تشامبرلين، ومن
خلال تأثير تشامبرلين، بات الجنس الآري — كما وصفه جوبينيو — عنصرًا محوريًّا في
أيديولوجية هتلر العنصرية.
15
قدم جوبينيو قالبًا علمانيًّا منهجيًّا لأفكار كانت متداولة بالفعل في معظم أنحاء
العالم الغربي؛ ففي عام ١٨٥٠ — على سبيل المثال — نشر خبير علم التشريح الاسكتلندي
روبرت نوكس عمله «أعراق البشر» الذي زعم فيه أن «العرق — أو السلالة — هو كل شيء؛ فهو
يدمغ الإنسان»، وفي العام التالي، قدَّم جون كامبيل، رئيس اتحاد فيلادلفيا لمنضِّدي
الحروف الطباعية عمله «الهوس بالزنوج؛ فحص المساواة المزعومة خطأً بين الأجناس
البشرية». ولم تقتصر العنصرية على جنوب الولايات المتحدة؛ فقد استشهد كامبيل بكوفييه
ونوكس من بين آخرين ليؤكد على وحشية وبربرية الزنوج، وكي يفند أي إمكانية للمساواة بين
البيض والسود. ولمَّا كان جوبينيو نفسه قد انتقد المعاملة التي يُعامل بها العبيد
الأفارقة في الولايات المتحدة، اضطر مترجموه الأمريكيون إلى حذف هذه الفقرات؛ كي يجعلوا
العمل أكثر قبولًا لدى مؤيدي العبودية من أهل الجنوب عندما نُشر بالإنجليزية في عام
١٨٥٦. وهكذا فإن احتمال إلغاء الرق (الذي لم يصبح رسميًّا في الولايات المتحدة إلا في
عام ١٨٦٥) زاد من شدة الاهتمام بعلم الأعراق والأجناس.
16
كما توضح عناوين أعمال جوبينيو وكامبيل، كانت السمة المشتركة في معظم طرق التفكير
العنصرية هي رد فعل باطني عميق مناهض لفكرة المساواة، وقد اعترف جوبينيو لتوكفيل
بالاشمئزاز الذي أثاره في نفسه «أصحاب بدل العمل المتسخة» [العمال] الذين كانوا قد
شاركوا في ثورة عام ١٨٤٨ في فرنسا. أما كامبيل فقد شعر بالاشمئزاز من الوقوف على منصة
سياسية واحدة مع ملونين. وما كان في وقت من الأوقات بمنزلة رفض أرستقراطي للمجتمع
المعاصر — أي رفض الاختلاط بالطبقات الأدنى — اتخذ الآن دلالة عنصرية. ولعل ظهور
السياسة الجماهيرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قوَّض تدريجيًّا معنى الفرق
الطبقي (أو بدا وكأنه فعل هذا)، على أن هذه السياسة لم تمحِ الفروق كليةً، وتحول الفرق
من فرقٍ في الطبقة إلى فرقٍ في العرق والجنس، وتضافر إرساء حق الاقتراع العالمي للذكور
مع إلغاء الرق وبداية الهجرة الجماعية لجعل المساواة أكثر واقعية وأكثر
تهديدًا.
17
فاقمت الإمبريالية هذه التطورات أكثر فأكثر؛ فحتى فيما ألغت القوى الأوروبية الرق
في
مستعمراتها، فقد وسعت نطاق هيمنتها في أفريقيا وآسيا. غزا الفرنسيون الجزائر في عام
١٨٣٠، ثم ضموها أخيرًا إلى فرنسا، واستولى البريطانيون على سنغافورا عام ١٨١٩،
ونيوزيلاندا عام ١٨٤٠، ثم أحكموا سيطرتهم على الهند، وبحلول عام ١٩١٤ كانت أفريقيا
مقسمة بين فرنسا، وبريطانيا العظمى، وإيطاليا، والبرتغال، وبلجيكا، وإسبانيا، ولم تكد
تسلم من براثنهم أي دولة أفريقية. ومع أن الحكم الأجنبي قد ضاعف في بعض الحالات من
«تخلف» البلدان؛ من خلال تدمير الصناعات المحلية لمصلحة الاستيراد من المركز
الاستعماري، فإن الأوروبيين خرجوا من غزواتهم بعبرة واحدة بصفة عامة، ألا وهي: أن لهم
حق — وعليهم واجب — «جلب الحضارة» إلى لأماكن الأكثر تخلفًا التي حكموها.
ولم يكن جميع من أيدوا هذه المشاريع الاستعمارية يشجعون العنصرية الصريحة؛ فقد رفض
جون ستيوارت مِل — الذي عمل لسنوات عديدة في «شركة الهند الشرقية» البريطانية، وكان هو
المدير الناجح للحكم البريطاني في الهند حتى عام ١٨٥٨ — التفاسير البيولوجية للاختلاف،
لكن حتى مِل نفسه كان يعتقد أن المناطق الهندية الأصلية كانت «همجية، وليست لديها
قوانين، أو أن لديها قدرًا أدنى من القانون»، وتعيش في حالة «لا ترقى إلا قليلًا فوق
حالة أكثر الحيوانات تطورًا». وبالرغم من رغبة مِل، كوَّن الاستعمار الأوروبي وعلم
الأعراق علاقة تكافلية: فاستعمارية «الأعراق الغازية» جعلت مزاعم العنصرية أكثر
مصداقية، وساعد علم الأعراق على تبرير الاستعمار. وقد تبنَّى المستكشف البريطاني
ريتشارد برتون، في عام ١٨٦١، الخط الذي سرعان ما أصبح اتجاهًا شائعًا في ذلك الوقت؛ إذ
صرح أن الأفارقة: «يتقاسمون في الأغلب الأعم أسوأ صفات أنماط الشخصيات الشرقية الأدنى؛
من ركود ذهني، وخمول جسدي، ونقص أخلاقي، ومعتقدات خرافية، وعاطفة طفولية.» وبعد
سبعينيات القرن التاسع عشر، وجدت هذه التوجهات الفكرية جمهورًا عريضًا في الصحف الجديدة
الرخيصة، والمجلات الأسبوعية المصورة، والمعارض الخاصة بوصف الأعراق البشرية، وحتى في
الجزائر، التي كانت تعتبر جزءًا لا يتجزأ من فرنسا بعد عام ١٨٤٨، لم يحصل السكان
الأصليون على الحقوق إلا على المدى الطويل جدًّا. وفي عام ١٨٦٥، أُعلن الجزائريون
الأصليون بموجب مرسوم حكومي رعايا وليسوا مواطنين، في حين أنه في عام ١٨٧٠ جعلت الحكومة
الفرنسية اليهود الجزائريين مواطنين حاصلين على الجنسية الفرنسية، ولم يحصل الذكور
المسلمون على حقوق سياسية متساوية إلا في عام ١٩٤٧، فلم تكن «حملة إدخال الشعوب إلى
الحضارة» مشروعًا قصير المدى.
18
لم يعتبر جوبينيو اليهود حالة خاصة في شرحه لعلم الأعراق، على أن أتباعه اعتبروهم
كذلك. مزج هيوستن ستيوارت تشامبرلين في كتابه «أساسات القرن التاسع عشر» الذي نُشر في
ألمانيا عام ١٨٩٩، أفكار جوبينيو حول العرق والصوفية الألمانية بالهجوم العنيف على
اليهود، ذلك «الشعب الأجنبي» الذي استعبد «حكوماتنا، وقوانينا، وعلمنا، وتجارتنا،
وأدبنا، وفنوننا». ولم يطرح تشامبرلين سوى حجة جديدة واحدة فحسب، غير أنه كان لها
تأثيرها المباشر على هتلر: فالآريون واليهود وحدهم دون كل الشعوب هم الذين حافظوا على
نقائهم العرقي، وعليه لا بد أن يتقاتلوا حتى الموت. في أوجه أخرى، حشد تشامبرلين
مجموعات متنوعة من الأفكار الآخذة في الانتشار.
19
على الرغم من أن مذهب معاداة السامية الحديث يقوم على المعتقدات المسيحية النمطية
السلبية بشأن اليهود والتي انتشرت طيلة قرون، فإنه اتصف بصفات جديدة بعد سبعينيات القرن
التاسع عشر. وعلى خلاف السود، لم يعد اليهود يمثلون مرحلة أدنى من التطور التاريخي، كما
كانوا في القرن الثامن عشر على سبيل المثال؛ بل إنهم تصدوا لتهديدات الحداثة نفسها:
المادية المفرطة، وتحرير الأقليات ومشاركتهم في السياسة، والعالمية «المنحطة» «عديمة
الجذور» للحياة الحضرية. صورت الرسوم الكاريكاتيرية في الصحف اليهودَ على أنهم أشخاص
جشعون، مراءون، ماجنون؛ وكتب الصحفيون ومؤلفو الكتيبات عن سيطرة اليهود على رأس المال
العالمي، والمناورات التآمرية للأحزاب البرلمانية (انظر الشكل رقم
٥-١). ففي رسم
كاريكاتيري أمريكي يرجع إلى عام ١٨٩٤ — أقل كراهية وغلًّا من العديد من الرسومات
الأوروبية المماثلة — تظهر قارات العالم تطوقها أرجل أخطبوط جالس في موضع الجزر
البريطانية، والاسم المكتوب على الأخطبوط هو «روتشيلد»، في إشارة إلى عائلة روتشيلد
اليهودية الثرية ذات النفوذ. وزاد من اشتعال محاولات التشنيع المعاصرة هذه «بروتوكولات
حكماء صهيون»، تلك الوثيقة الاحتيالية التي يُفهم منها أنها تكشف عن مؤامرة يهودية
لإقامة حكومة كبرى تهيمن على العالم بأكمله. نُشرت هذه البروتوكولات للمرة الأولى في
روسيا عام ١٩٠٣، وفُضحت باعتبارها مزيفة عام ١٩٢١، وبالرغم من ذلك أعاد النازيون نشرها
مرارًا وتكرارًا في ألمانيا، وتُدرَّس إلى يومنا هذا على أنها حقائق في المدارس في بعض
البلدان العربية. وهكذا مزجت معاداة السامية الحديثة بين عناصر تقليدية وأخرى حديثة:
ينبغي حرمان اليهود من الحقوق، بل وطردهم من الوطن؛ لأنهم شديدو الاختلاف وأصحاب نفوذ
واسع.
الاشتراكية والشيوعية
لم تكن القومية هي الحركة الجماهيرية الوحيدة في القرن التاسع عشر، فعلى غرار القومية
تبلورت كلٌّ من الاشتراكية والشيوعية كرد فعل صريح للقيود المدركة لحقوق الأفراد التي
صاغها الدستور، وحين أراد القوميون الأوائل كسب الحقوق لكافة الشعوب، وليس فقط للشعوب
التي تملك أوطانًا قائمة بالفعل، أراد الاشتراكيون والشيوعيون أن يضمنوا أن الطبقات
الأدنى سوف تنعم بمساواة اجتماعية واقتصادية وليس بمجرد حقوق سياسية متساوية. لكن مع
أن
المنظمات الاشتراكية والشيوعية لفتت الانتباه إلى حقوق لم يمنحها أنصار حقوق الإنسان،
فإنها حطت — على نحو حتمي — من أهمية الحقوق باعتبارها هدفًا. وكانت وجهة نظر ماركس
واضحة تمامًا: يمكن تحقيق التحرير السياسي عن طريق المساواة أمام القانون في المجتمعات
البرجوازية، غير أن التحرير الحقيقي للإنسان يتطلب تدمير المجتمعات البرجوازية
والحمايات الدستورية التي تسبغها على الملكية الخاصة. إلا أن الاشتراكيين والشيوعيين
طرحوا سؤالين عسيرين حول الحقوق: هل الحقوق السياسية كافية؟ وهل يمكن أن يتعايش حق
الفرد في حماية ممتلكاته الخاصة مع حاجة المجتمع إلى توفير العيش الكريم لأفراده الأقل
حظًّا؟
تمامًا مثلما مرت القومية بطورين في القرن التاسع عشر، من الحماس المبكر لتقرير
المصير نحو وقائية أكثر دفاعًا عن الهوية العرقية، تغيرت الاشتراكية أيضًا بمرور الوقت؛
إذ انتقلت من تشديد مبكر على إعادة بناء المجتمع بوسائل سلمية ولكن غير سياسية إلى
انقسام حاد بين المؤيدين للممارسة البرلمانية للسياسة وأولئك الداعين للإطاحة بالحكومات
بأسلوب عنيف. وفي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما كانت النقابات العمالية
كيانات غير شرعية في معظم البلدان، ولم يكن يحق للعمال التصويت، ركز الاشتراكيون على
إضافة الطابع الثوري على العلاقات الاجتماعية الجديدة التي خلقها تحول المجتمع إلى
التصنيع، وما كان للاشتراكيين أن يأملوا في الفوز بالانتخابات ما لم يكن في مقدور
العمال التصويت، الأمر الذي ظل قائمًا حتى سبعينيات القرن التاسع عشر على الأقل. وبدلًا
من ذلك، أقام الرواد الاشتراكيون مصانع مثالية، وجمعيات للمنتجين والمستهلكين، ومجتمعات
تجريبية للتغلب على الصراع والغربة بين المجموعات الاجتماعية. لقد أرادوا أن يمكِّنوا
العمال والفقراء من أن يستفيدوا من النظام الصناعي الجديد، وأن يحولوا الصناعة إلى ساحة
اجتماعية، وأن يستبدلوا التعاون بالمنافسة.
تشارك كثيرون من أولئك الاشتراكيين الأوائل مشاعر عدم الثقة تجاه «حقوق الإنسان».
أكد
تشارلز فورييه، الاشتراكي الفرنسي الذي برز في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر،
أن الدساتير والمناداة بالحقوق الثابتة هي زيف. ماذا يمكن أن تعني «حقوق المواطن التي
لا يجوز المساس بها» عندما «لا يملك الفقير الحرية ليعمل» ولا السلطة ليطلب وظيفة؟ ومن
وجهة نظره، فاق الحق في العمل كافة الحقوق الأخرى. وعلى غرار فورييه، استشهد كثيرون من
الاشتراكيين الأوائل بالإخفاق في منح المرأة حقوقها كعلامة على عجز مذاهب حقوق الإنسان
السابقة. فهل يمكن بحال أن تتحرر المرأة دون إلغاء الملكية الخاصة والتشريعات الداعمة
للسلطة الأبوية الذكورية؟
20
ثمة عاملان غيَّرا مسار الاشتراكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: ظهور حق
الاقتراع العالمي للذكور، وظهور الشيوعية (ظهرت لفظة «شيوعي» للمرة الأولى كمصطلح في
عام ١٨٤٠)، وعندئذ انقسم الاشتراكيون والشيوعيون بين أولئك الذين رموا إلى تأسيس حركة
سياسية برلمانية ذات أحزاب وحملات لتولي السلطة، وأولئك الذين أصروا على أن الحكم
المطلق للبروليتاريا (طبقة العمال) والثورة الكاملة وحدهما من شأنهما أن يبدلا الأحوال
الاجتماعية، ومن هؤلاء البلاشفة الروس. وآمن أنصار الفكر الأول بأن إرساء حق التصويت
العالمي لجميع الرجال إرساءً تدريجيًّا قد أتاح إمكانية أن يبلغ العمال أهدافهم في إطار
سياسة برلمانية؛ على سبيل المثال: تألَّف حزب العمال البريطاني في عام ١٩٠٠ من مجموعة
متنوعة من الاتحادات والأحزاب والنوادي الموجودة سلفًا لتعزيز مصالح العمال. ومن ناحية
أخرى شجعت الثورة الروسية التي اندلعت عام ١٩١٧ الشيوعيين في كل مكان على أن يؤمنوا بأن
التحول الاجتماعي والاقتصادي الشامل يلوح في الأفق، وأن المشاركة في السياسة البرلمانية
يركز الطاقات اللازمة للتصدي لصراعات أخرى.
وكما يُمكن أن نتوقع، اختلف هذان الفكران أيضًا في رأيهما بشأن الحقوق؛ فالاشتراكيون
والشيوعيون الذين اعتنقوا العملية السياسية تبنَّوا أيضًا قضية الحقوق. أكد جان جوريس،
أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الفرنسي، أن الدولة الاشتراكية «تحافظ على شرعيتها بالقدر
الذي تكفل به الحقوق الفردية». وقد أيد آراء دريفوس، وحق التصويت العام للرجال، وفصل
الكنيسة عن الدولة، وباختصار، دعا جوريس إلى حقوق سياسية متساوية لجميع الرجال بالإضافة
إلى تحسين حياة العمال، واعتبر «إعلانَ حقوق الإنسان والمواطن» وثيقة لها أهمية عالمية.
أما أصحاب الرأي الآخر فقد اتبعوا ماركس في زعمهم — مثلما فعل أحد الاشتراكيين
الفرنسيين المناوئين لجوريس — أن الدولة البرجوازية لا يمكن إلا أن تكون «أداة للمذهب
المحافظ والقمع الاجتماعي».
21
لم يناقش كارل ماركس نفسه حقوق الإنسان بأي قدر من الاستفاضة سوى في شبابه؛ ففي
مقاله
«حول القضية اليهودية»، الذي نُشر عام ١٨٤٣،
أي قبل صدور «البيان الشيوعي» بخمسة أعوام،
أدان بالتحديد الأسس التي يقوم عليها «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»؛ فقد تبرَّم
قائلًا: «لا يتعدى أي حق من الحقوق المفترضة للإنسان حدود الإنسان الأناني.» فتلك
الحرية المزعومة تنظر للإنسان وكأنما هو مخلوق منعزل، وليس جزءًا من طبقة أو مجتمع، وحق
الملكية لا يضمن سوى الحق في السعي وراء المصلحة الذاتية دون اعتبار للآخرين، وحقوق
الإنسان تكفل حرية الاعتقاد واختيار الدين في حين أن ما يحتاجه الإنسان هو التحرر من
الدين؛ وهي تؤكد على الحق في اقتناء الممتلكات في حين أن ما يحتاجه الإنسان هو التحرر
من الممتلكات؛ كما اشتملت على الحق في الانخراط في الأعمال التجارية في حين أن ما
يحتاجه الإنسان هو التحرر من الأعمال التجارية. وقد مقت ماركس بالتحديد التأكيد على
السياسة في حقوق الإنسان؛ إذ حسب أن الحقوق السياسية تتعلق بالوسائل وليس الغايات؛ ففي
رأيه «الرجل الممارس للسياسة» هو «رجل تجريدي» و«زائف» وليس رجلًا حقيقيًّا أصيلًا، ولا
يستطيع الرجل أن يسترد أصالته إلا عندما يدرك أن تحرير الإنسان لا سبيل إلى تحقيقه من
خلال السياسة، وإنما يحتاج إلى ثورة تركز على العلاقات الاجتماعية وإلغاء حق الملكية
الخاصة.
22
أثرت تلك الآراء وبعض تنويعاتها اللاحقة على الحركة الاشتراكية والشيوعية تأثيرًا
دام
أجيالًا. أصدر البلاشفة «إعلان حقوق جماهير الشعب العاملة المستغلة» في عام ١٩١٨، غير
أن هذا الإعلان لم يتضمن حقًّا سياسيًّا أو قانونيًّا واحدًا، وكان هدفه هو «إلغاء كافة
أوجه استغلال الإنسان للإنسان، والقضاء الكامل على تقسيم المجتمع إلى طبقات، وسحق
مقاومة المُستغِلين بلا هوادة، وتأسيس منظمة اشتراكية من أفراد المجتمع». استشهد لينين
نفسه بماركس في رفض أي تأكيد على الحقوق الفردية، وأكد على أن فكرة الحق المتساوي هي
في
حد ذاتها انتهاك للمساواة، وتنطوي على جور؛ لأنها قائمة على «قانون برجوازي»، فتلك
الحقوق المتساوية المزعومة — من وجهة نظره — تحمي الملكية الخاصة، ومن ثم تستغل العمال.
وأصدر جوزيف ستالين دستورًا جديدًا في عام ١٩٣٦ زعم أنه يكفل حرية القول، والصحافة،
والدين، غير أن حكومته لم تتوانَ عن إرسال مئات الآلاف من أعداء الطبقة، والمعارضين،
بل
وحتى بعض رفاقهم من أعضاء الحزب، إلى المعتقلات، أو إعدامهم فورًا.
23
الحربان العالميتان والبحث عن حلول جديدة
حتى فيما استهل البلاشفة تأسيس الحكم الديكتاتوري للبروليتاريا في روسيا، كانت
الأعداد الفلكية للقتلى الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى تحث قادة ما سمي بعد ذلك
بوقت قصير «الحلفاء» المنتصرين على التوصل إلى آلية جديدة لضمان السلام، وعندما وقَّع
البلاشفة معاهدة سلام مع الألمان في مارس عام ١٩١٨، كانت روسيا قد فقدت قرابة مليوني
شخص. وبحلول وقت انتهاء الحرب على الجبهة الغربية في نوفمبر عام ١٩١٨، كان أربعة عشر
مليون شخص قد لقوا مصرعهم، معظمهم من الجنود. وانتهى الحال بثلاثة أرباع الرجال الذين
حُشدوا للقتال في روسيا وفرنسا ما بين قتيل وجريح. وفي عام ١٩١٩، أنشأ الدبلوماسيون
الذين حرروا اتفاقيات السلام ما يسمى «عصبة الأمم» من أجل حفظ السلام، ومراقبة نزع
الأسلحة، والتحكيم في النزاعات بين الأمم، وكفالة حقوق الأقليات القومية والمرأة
والطفل. وأخفقت عصبة الأمم في مهمتها على الرغم من الجهود النبيلة المبذولة. رفض مجلس
الشيوخ الأمريكي إقرار المشاركة الأمريكية؛ وحُرمت كلٌّ من ألمانيا وروسيا العضوية من
الأصل؛ وفيما كانت العصبة تعزز حق تقرير المصير القومي في أوروبا، فإنها أشرفت على
إدارة المستعمرات الألمانية السابقة والأقاليم التابعة للإمبراطورية العثمانية البائدة
من خلال نظام «الانتداب» الذي بُرِّر مرة أخرى بالتقدم الأوروبي على الشعوب الأخرى.
وعلاوة على ذلك، عجزت عصبة الأمم عن إيقاف الصعود المستمر للفاشية في إيطاليا والنازية
في ألمانيا، ومن ثم لم تتمكن من الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الثانية.
سجلت الحرب العالمية الثانية رقمًا قياسيًّا في الوحشية بعدد قتلى يصعب تصوره وصل
إلى
ستين مليون قتيل. وعلاوة على ذلك فإن أغلبية الذين قُتلوا هذه المرة من المدنيين، ومنهم
ستة ملايين يهودي لم يُقتلوا لأي سبب سوى أنهم يهود، وخلَّفت الفوضى ملايين اللاجئين
في
نهاية الحرب، كثيرون منهم بالكاد يستطيعون أن يتطلعوا إلى المستقبل ويأملوا في العيش
في
مخيمات «اللاجئين»، إلا أن آخرين أُجبروا على الهجرة لأسباب عرقية (على سبيل المثال،
طُرد مليونان ونصف المليون ألماني من تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٤٦)، واستهدفت جميع القوى
المشاركة في الحرب المدنيين في وقت أو آخر، إلا أنه مع انتهاء الحرب، فزع العامة لدى
الكشف عن حجم الفظائع التي ارتكبها الألمان عمدًا؛ فقد كشفت الصور التي التُقطت عند
تحرير معسكرات الموت النازية عن الأهوال المروعة التي ترتبت على معاداة السامية، والتي
سوَّغتها المناداة بالسيادة العرقية للجنس الآري والتطهير القومي. لم يقتصر دور محاكمات
نورمبرج في عامي ١٩٤٥-١٩٤٦ على لفت أنظار جمهور عريض من الناس إلى مثل هذه الأعمال
الوحشية، لكنها أرست أيضًا حادثة غير مسبوقة، هي أن الحكام، ورجال الدولة، والعسكريين،
يمكن أن يعاقبوا على ارتكابهم جرائم «ضد الإنسانية».
وحتى قبل أن تنتهي الحرب، عزم الحلفاء
— لا سيما الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، وبريطانيا العظمى — على تحسين أداء
«عصبة الأمم»، وعليه وضعوا في مؤتمر عُقد في سان فرانسيسكو في ربيع عام ١٩٤٥ الهيكل
الأساسي لهيئة دولية جديدة هي «الأمم المتحدة»، على أن يكون لهذه الهيئة «مجلس أمن»
تهيمن عليه القوى العظمى، و«جمعية عامة» تضم مندوبين من كافة الدول الأعضاء، و«أمانة
عامة» يرأسها أمين يقوم بدور الموظف التنفيذي. أسفر المؤتمر أيضًا عن إنشاء «محكمة
العدل الدولية» في لاهاي بهولندا؛ كي تحل محل محكمة مشابهة كانت قد أسستها عصبة الأمم
في عام ١٩٢١، ووقعت إحدى وخمسون دولة ميثاق الأمم المتحدة بصفتها الدول المُؤسِّسة في
السادس والعشرين من يونيو عام ١٩٤٥.
وعلى الرغم من الأدلة الدامغة المكتشفة على الجرائم النازية ضد اليهود، والغجر،
والسلافيين، وغيرهم، فإنه كانت هناك حاجة لدفع وتحفيز الدبلوماسيين المجتمعين في سان
فرانسيسكو كي يضعوا مسألة حقوق الإنسان ضمن بنود جدول الأعمال. في عام ١٩٤٤، كانت كل
من
بريطانيا العظمى والاتحاد السوفييتي قد رفضتا اقتراحات تضمين حقوق الإنسان في ميثاق
الأمم المتحدة. أما بريطانيا فقد خشيت التشجيع الذي قد يقدمه هذا الإجراء لحركات
الاستقلال في مستعمراتها، وأما الاتحاد السوفييتي فلم يرغب في أي تدخل في نطاق تأثيره
الآخذ في الاتساع في ذلك الوقت. وبالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة عارضت في
البداية اقتراحًا تقدمت به الصين بأن يتضمن الميثاق بيانًا ينص على المساواة بين جميع
الأعراق.
جاء الضغط من اتجاهين مختلفين؛ إذ حثت العديد من البلدان صغيرة ومتوسطة الحجم في
أمريكا اللاتينية وآسيا على منح المزيد من الاهتمام لحقوق الإنسان، ويرجع هذا جزئيًّا
إلى أنهم استاءوا من الهيمنة الاستبدادية للقوى العظمى على وقائع الجلسات. وعلاوة على
ذلك، فقد ضغط عدد غفير من المنظمات الدينية والعمالية والنسائية والمدنية — معظمها كائن
في الولايات المتحدة — على مفوضي المؤتمر مباشرة، وساعدت التماسات عاجلة رفعها مندوبو
«اللجنة اليهودية الأمريكية»، و«اللجنة المشتركة للحرية الدينية»، و«ملتقى المنظمات
الصناعية»، و«الجمعية الوطنية لتحسين حال الملونين»، في تغيير المسئولين بوزارة
الخارجية الأمريكية رأيهم، فوافقوا على تضمين حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة،
ووافق أيضًا كلٌّ من الاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى لمَّا ضمن الميثاق عدم تدخل
الأمم المتحدة مطلقًا في الشئون الداخلية لأي بلد.
24
كان الالتزام بحقوق الإنسان لا يزال غير مضمون على الإطلاق؛ فقد شدَّد ميثاق الأمم
المتحدة لعام ١٩٤٥ على قضايا الأمن العالمي، ولم يُخصِّص سوى بضعة أسطر ﻟ «الاحترام
والمراعاة العالميَّين لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما
التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين». غير أن الميثاق أسس
«لجنة حقوق الإنسان» التي قررت أن تكون أولى مهامها صياغة ميثاق لحقوق الإنسان. لعبت
إلينور رزوفلت، بوصفها رئيس اللجنة، دورًا محوريًّا في صياغة الإعلان، ثم رعايته حتى
إتمام العملية المعقدة المتمثلة في الحصول على موافقة الدول الأعضاء عليه. أعد جون
هامفري، أستاذ القانون بجامعة ماكجيل بكندا، والبالغ من العمر أربعين عامًا، المسودة
الأولية للإعلان، وكان لا بد بعدئذ من أن يراجعها كافة أعضاء اللجنة، ثم تُمرَّر إلى
كافة الدول الأعضاء، وعندئذ يراجعها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وفي حال الموافقة
عليها تُرسل إلى الجمعية العامة؛ حيث لا بد أن تنظرها أولًا اللجنة الثالثة للشئون
الاجتماعية والإنسانية والثقافية. وكان للجنة الثالثة مفوضون من كافة الدول الأعضاء،
وفيما طُرحت المسودة للنقاش اقترح الاتحاد السوفييتي إدخال تعديلات على جميع مواد
الإعلان تقريبًا. وبعد انعقاد ثلاثة وثمانين اجتماعًا (للجنة الثالثة وحدها)، وإدخال
قرابة مائة وسبعين تعديلًا فيما بعد، اعتُمدت المسودة للتصويت عليها. وأخيرًا في العاشر
من ديسمبر عام ١٩٤٨، أقرت الجمعية العامة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». صوتت ثمان
وأربعون دولة بالموافقة، وامتنعت ثماني دول تابعة للكتلة السوفييتية عن التصويت، ولم
تعارض أي دولة.
25
وعلى غرار إعلانَي القرن الثامن عشر السابقَين لإعلان الأمم المتحدة، أوضح الإعلان
العالمي في الديباجة الأسباب التي جعلت إصدار مثل هذه الوثيقة الرسمية ضرورة ملحة. أكد
الإعلان أن: «تجاهل حقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الضمير
الإنساني.» وكان الاختلاف الطفيف في لغة هذا الإعلان عن لغة الإعلان الفرنسي الأصلي
لعام ١٧٨٩ معبرًا وذا دلالة؛ ففي عام ١٧٨٩،
أكد الإعلان الفرنسي أن: «الجهل والإهمال وعدم احترام حقوق الإنسان هي وحدها أسباب شقاء
المجتمع وفساد الحكومات.» ولم يعد «الجهل» ولا حتى «الإهمال» البسيط واردًا؛ فبحلول عام
١٩٤٨، كان من المفترض أن الناس جميعًا يعرفون ما الذي تعنيه حقوق الإنسان. وعلاوة على
ذلك، فإن التعبير الذي استُخدم عام ١٧٨٩، «شقاء المجتمع»، لا يعبر بأي حال عن هول
الأحداث التي وقعت مؤخرًا. إن التجاهل المتعمد لحقوق الإنسان وازدراءها قد أفضيا إلى
أعمال يكاد لا يمكن لإنسان أن يتخيل وحشيتها.
لم يُعد الإعلان العالمي يؤكد على أفكار الحقوق الفردية التي بزغت في القرن الثامن
عشر من مساواة أمام القانون، وحرية التعبير، وحرية المعتقد، والحق في المشاركة في
السياسة، وحماية الممتلكات الخاصة، ورفض التعذيب والعقاب الوحشي فحسب (انظر ملحق
الكتاب)، وإنما حظر أيضًا بكل وضوح العبودية، وأقرَّ حق تصويت عالمي ومتساوٍ عن طريق
الاقتراع السري. وبالإضافة إلى ذلك، نادى الإعلان العالمي بحرية الانتقال، والحق في
التمتع بجنسية، والحق في الزواج، والأمور الأكثر إثارة للجدل؛ مثل الحق في الضمان
الاجتماعي، والحق في العمل والحصول على أجر متساوٍ عن العمل المتساوي، يكفل العيش
الكريم، والحق في الراحة وأوقات الفراغ، والحق في التعليم الذي يجب أن يتوفر مجانًا في
المراحل الابتدائية. وقد عبَّر الإعلان العالمي — إبان فترة تصاعد حدة الصراع في الحرب
الباردة — عن مجموعة من التطلعات، وليس عن واقع يمكن بلوغه بسهولة؛ لقد حدد مجموعة من
الالتزامات الأخلاقية للمجتمع الدولي، بيد أنه لم يملك آلية لتنفيذها، ولو أنه اشتمل
على آلية للتنفيذ، لما كان ليعلن أبدًا؛ فما كانت الدول لتوافق عليه مطلقًا. لكن على
الرغم من كافة أوجه القصور، فإن وثيقة الإعلان تركت آثارًا مشابهة لتلك التي كانت
لإعلانَي القرن الثامن عشر السابقَين، فقد وضع الإعلان لما ينيف على الخمسين عامًا
معايير النقاش والعمل الدوليين فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
بلور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مائة وخمسين عامًا من الصراع من أجل الحقوق؛
فطيلة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حفظت المجتمعات الخيرة شعلة حقوق الإنسان
العالمية مشتعلة، بينما انغلقت باقي الأمم على نفسها. وكان من أبرز تلك المجتمعات
الجماعاتُ التي قامت مستلهمةً نموذج جماعة الكويكرز التي تأسست من أجل مكافحة الرق
وتجارة الرقيق، وزعت «الجمعية البريطانية لإلغاء تجارة الرقيق»، التي تأسست في عام
١٧٨٧، مواد مطبوعة وصورًا تدعو لمكافحة تجارة العبيد، ونظَّمت حملات التماس جماعية
موجهة للبرلمان، ووطد قادة هذه الجمعية علاقاتهم مع مناهضي الرق في الولايات المتحدة،
وفرنسا، وجزر الكاريبي. وعندما أقر البرلمان عام ١٨٠٧ قانونًا لوقف المشاركة البريطانية
في تجارة الرقيق، أعاد أنصار إلغاء الرق تسمية
جمعيتهم ﺑ «جمعية مكافحة الرق»، واتجهت إلى
تنظيم حملات التماس جماعية كي تجعل البرلمان يلغي الرق نفسه كما ألغى تجارة الرقيق،
الأمر الذي أقره البرلمان أخيرًا عام ١٨٣٣. عندئذ حملت «الجمعية البريطانية والأجنبية
لمكافحة الرق» على عاتقها مسئولية القضاء على الرق في أماكن أخرى، وخاصة في الويات
المتحدة.
وبناء على اقتراح من أنصار إلغاء الرق الأمريكيين، نظمت الجمعية البريطانية مؤتمرًا
عالميًّا لمكافحة الرق في لندن عام ١٨٤٠ كي تنسق المقاومة الدولية للرق، وعلى الرغم من
أن المفوضين رفضوا السماح لأنصار إلغاء الرق من النساء بالمشاركة بأي شكل رسمي، ومن ثم
ساعدوا في تعجيل خطوات حركة حق النساء في التصويت، فإنهم أعطوا دفعة قوية لقضية مكافحة
الرق عالميًّا بتكوين علاقات دولية جديدة، وبمعلومات حول ظروف العبيد، وقرارات نددت
بالرق باعتباره «خطيئة في حق الله»، وأدانوا الكنائس التي تؤيد الرق، ولا سيما في جنوب
الولايات المتحدة. ومع أن المؤتمر «العالمي» كان يخضع لهيمنة البريطانيين والأمريكيين،
فقد كان بمنزلة نموذج لحملات دولية مستقبلية من أجل منح النساء حق التصويت، ومناهضة
عمالة الأطفال، وحقوق العمال، ومجموعة متنوعة من القضايا الأخرى، وكانت بعض الحقوق
متصلة والبعض الآخر غير ذات صلة؛ مثل حملة الاعتدال في شرب الخمر.
26
إبان خمسينيات وستينيات القرن العشرين، نُحِّيت قضية حقوق الإنسان الدولية جانبًا
لصالح صراعات الاستقلال ومناهضة الاستعمار؛ ففي ختام الحرب العالمية الأولى، أصر الرئيس
وودرو ويلسون — كما هو معروف — على أن السلام الدائم لا بد أن يكون قائمًا على مبدأ حق
تقرير المصير القومي. قال ويلسون بإصرار: «لكل شعب الحق في اختيار السلطة التي سيعيش
في
ظلها.» كان يقصد حينها البولنديين، والتشيكوسلوفاكيين، والصرب — وليس الأفارقة — وقد
منح هو وحلفاؤه الاستقلال لبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا؛ لأنهم اعتبروا أنهم
يملكون حق التصرف في الأراضي التي كانت تسيطر عليها من قبل القوى المهزومة، ووافقت
بريطانيا العظمى على أن تُلحِق حق تقرير المصير القومي بميثاق الأطلنطي الذي صدر عام
١٩٤١، والذي يحدد المبادئ البريطانية الأمريكية المشتركة في خوض الحرب، غير أن وينستون
تشرشل أصرَّ على أن هذا يسري على أوروبا فحسب، وليس على مستعمرات بريطانيا، أما
المفكرون الأفارقة فقد خالفوهم الرأي، وجعلوا هذا المبدأ جزءًا من حملتهم المتصاعدة من
أجل الاستقلال. ومع أن الأمم المتحدة فشلت في سنواتها الأولى في اتخاذ موقف قوي بشأن
تفكيك الاستعمار ومنح الاستقلال للدول المحتلة، فقد وافقت بحلول عام ١٩٥٢ على جعل حق
تقرير المصير جزءًا رسميًّا من برنامجها. وفي ستينيات القرن العشرين، استردت معظم الدول
الأفريقية استقلالها؛ إما بوسائل سلمية أو بالقوة. ومع أن الدول الأفريقية المستقلة
حديثًا دمجت أحيانًا في دساتيرها الحقوق المنصوص عليها في «الاتفاقية الأوروبية لحماية
حقوق الإنسان والحريات الأساسية» لعام ١٩٥٠ — على سبيل المثال — فكثيرًا ما وقعت
الضمانة القانونية للحقوق فريسة للتقلبات السياسية بين الدول وبين القبائل.
27
في العقود التي تلت عام ١٩٤٨، تشكل إجماع دولي على أهمية الدفاع عن حقوق الإنسان
على
نحو متقطع. لقد بدأ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العملية ولم يكن هو ذروتها. لم
يتجلَّ تطور حقوق الإنسان في أي مكان أكثر مما تجلى في أوساط الشيوعيين، الذين قاوموا
هذه الدعوة زمنًا طويلًا؛ فبدءًا من سبعينيات القرن العشرين، رجعت الأحزاب الشيوعية في
غرب أوروبا إلى تبني موقف يشبه كثيرًا ذلك الذي قدَّمه جوريس في فرنسا في مطلع القرن؛
فقدموا الديمقراطية والمصادقة على حقوق الإنسان صراحة، بديلًا عن «الحكم الاستبدادي
لطبقة البروليتاريا» في برامجهم الرسمية. ونحو نهاية ثمانينيات القرن العشرين، بدأت
الكتلة السوفييتية تتحرك في نفس الاتجاه. واقترح الأمين العام للحزب الشيوعي، ميخائيل
جورباتشوف، على مؤتمر الحزب الشيوعي لعام ١٩٨٨ في موسكو أن الاتحاد السوفييتي ينبغي أن
يكون من الآن فصاعدًا دولة تخضع لسيادة القانون، ينعم فيها «المواطن السوفييتي بالحماية
القصوى لحقوقه وحرياته». وفي العام نفسه، أُنشئ قسم حقوق الإنسان للمرة الأولى في كلية
حقوق سوفييتية. لقد حدث تقارب تدريجي في الفكر؛ إذ اشتمل الإعلان العالمي لعام ١٩٤٨ على
الحقوق الاجتماعية والاقتصادية — كالحق في التمتع بالضمان الاجتماعي، والحق في العمل،
والحق في التعليم على سبيل المثال — وبحلول ثمانينيات القرن العشرين كانت معظم الأحزاب
الاشتراكية والشيوعية قد تخلت عن معارضتها السابقة للحقوق السياسية والمدنية.
28
ولم تتوارَ المنظمات غير الحكومية البتة، وإنما اكتسبت المزيد من التأثير الدولي
بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، ويُعزى هذا في المقام الأول إلى انتشار العولمة
نفسها. قدمت منظمات غير حكومية — مثل «منظمة العفو الدولية» (التي تأسست عام ١٩٦١)،
و«الجمعية الدولية لمكافحة الرق» (امتداد ﻟ «جمعية مكافحة الرق»)، ومنظمة «مراقبة حقوق
الإنسان» (الشهيرة باسم «هيومان رايتس ووتش»، التي تأسست عام ١٩٧٨)،
ومنظمة «أطباء بلا حدود» (تأسست عام ١٩٧١)،
ناهيك عن عدد لا حصر له من الجماعات المحلية التي لم يذع صيت أنشطتها خارج مجتمعاتها
المحلية — دعمًا غاية في الأهمية لحقوق الإنسان في العقود العديدة المنصرمة. وكثيرًا
ما
تسببت المنظمات غير الحكومية في زيادة الضغط على الحكومات المنتهكة لحقوق الإنسان،
وقامت بالكثير من أجل الحد من المجاعات، وانتشار الأمراض، والمعاملة الوحشية التي يتعرض
لها المعارضون والأقليات، فاق ما قامت به الأمم المتحدة نفسها، غير أنها جميعًا تقريبًا
بنت برامجها على الحقوق المنصوص عليها بوضوح في جزء أو آخر من الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان.
29
غني عن القول أن حقوق الإنسان ما زال قبولها أيسر من تطبيقها؛ فالفيض الهائل من
المؤتمرات والاتفاقيات الدولية من أجل مناهضة القتل الجماعي، والرق، والتعذيب،
والعنصرية، ومن أجل حماية المرأة والأطفال والأقليات، يدل على أن حقوق الإنسان لا تزال
في حاجة إلى إنقاذ. تبنَّت الأمم المتحدة «الاتفاقية التكميلية لإبطال الرق وتجارة
الرقيق والنُّظم والممارسات الشبيهة بالرق» في عام ١٩٥٦، ومع ذلك يُقدَّر عدد الرقيق
في
العالم اليوم بسبعة وعشرين مليون عبد. كما أقرت الأمم المتحدة «اتفاقية مناهضة التعذيب
وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة» في عام ١٩٨٤؛
لأن التعذيب لم يختفِ عندما أُلغيت أشكاله القضائية في القرن الثامن عشر، فبدلًا من
استخدام التعذيب في منظومة مُجازة قانونًا، انتقل إلى الغرف السرية وغير السرية للشرطة
والقوات العسكرية في الدولة المعاصرة. أجازت النازية استخدام «الاستجواب الصارم» مع
الشيوعيين، وشهود يهوه، والمخربين، والارهابيين، والمعارضين، و«العناصر المعادية
للمجتمع»، والمتشردين من «البولنديين أو السوفييت». لم تعد الفئات هي نفسها بالضبط، غير
أن إجراء التعذيب نفسه مستمر؛ في جنوب أفريقيا، وعلى يد الفرنسيين في الجزائر، وفي
تشيلي، واليونان، والأرجنتين، والعراق، وعلى يد الأمريكيين في سجن أبو غريب؛ والقائمة
طويلة بلا نهاية، ولم يتحقق بعدُ الأمل في وقف «الأعمال البربرية».
30
حدود التعاطف
ما الذي نستنتجه من عودة التعذيب والتطهير العرقي، والاستخدام المتواصل للاغتصاب
باعتباره سلاحًا للحرب والاضطهاد المستمر للمرأة، والاتجار الجنسي المتنامي بالأطفال
والنساء، وممارسات الرق الباقية حتى يومنا هذا؟ هل خذلتنا حقوق الإنسان بثبوت عدم
أهليتها لإنجاز المهمة؟ إن مفارقة البعد والقرب تلعب دورًا في عصرنا الحديث؛ فمن ناحية
مكَّن انتشار القراءة والكتابة وتطور الروايات، والصحف، والراديو، والسينما،
والتليفزيون، من أن يتعاطف الكثير والكثير من الناس مع أناس لا يعيشون معهم بل يعيشون
في ظروف مختلفة، ويمكن لصور الأطفال المتضورين جوعًا في بنجلاديش، أو حكايات آلاف
القتلى من الرجال والصبيان في سربرنيتشا بالبوسنة، أن تحشد ملايين الناس من أجل إرسال
الأموال والسلع، وفي بعض الأحيان الذهاب بأنفسهم لمساعدة أشخاص في أماكن أخرى، أو حث
حكوماتهم أو المنظمات الدولية كي تتدخل. ومن ناحية أخرى، تروي الحكايات المستقاة من
مصادرها كيف تقاتل الجيران القريبون في رواندا بضراوة بالغة بسبب مسألة العرق، وقتلوا
بعضهم بعضًا بكل وحشية. هذا العنف البالغ ليس استثنائيًّا بالمرة أو حديث المنشأ؛
فلطالما حاول اليهود، والمسيحيون، والمسلمون، أن يعللوا سبب قتل قابيل، ابن آدم وحواء،
لأخيه هابيل. وفيما مرت السنون على الأعمال الوحشية النازية، بيَّنت الأبحاث الدقيقة
أن
البشر العاديين، الذين لا يعانون أي اضطرابات نفسية أو قناعات سياسية أو دينية ملتهبة
بالحماس الشديد، يمكن استفزازهم في ظروف «مناسبة» ليرتكبوا ما يعرفون أنه قتل جماعي في
الأماكن القريبة منهم؛ فالقائمون على التعذيب في الجزائر، والأرجنتين، وسجن أبو غريب،
جميعهم كانوا في بادئ الأمر جنودًا عاديين، هؤلاء القائمون على التعذيب والقتل هم أناس
مثلي ومثلك، وهم عادة ما يعذِّبون أناسًا قريبين منهم لدرجة أنهم يقفون أمامهم
مباشرةً.
31
وهكذا، في حين وسَّعت أشكال التواصل الحديثة وسائل التعاطف مع الآخرين، فإنها لم
تستطع أن تضمن أن الناس سوف يتصرفون بناء على شعور المشاركة الوجدانية. يمكن اقتفاء أثر
التناقض بشأن قوة التعاطف رجوعًا إلى منتصف القرن الثامن عشر، وقد عبَّر عنه حتى أولئك
الذين اضطلعوا بشرح آلية عمله. يتأمل آدم سميث في كتابه «نظرية المشاعر الأخلاقية»، ردة
فعل «رجل الإنسانية في أوروبا» الذي يتناهى إلى مسامعه نبأ عن وقوع زلزال في الصين مات
على إثره مئات الملايين من الناس، يتوقع سميث أن هذا الرجل سيقول كل ما يليق قوله، ثم
يمضي لشأنه وكأن شيئًا لم يكن. وعلى النقيض، إن عَلِم أنه سوف يفقد خنصره في اليوم
التالي، فلن يغمض له جفن طوال الليل. فهل يعني هذا أن ذلك الرجل على استعداد للتضحية
بمئات الملايين من الصينين مقابل خنصره؟ كلا، ليس كذلك، كما يؤكد سميث. لكن ما الذي
يجعل الإنسان يقاوم هذه الصفقة؟ يؤكد سميث قائلًا: «ليست القوة الناعمة للبشرية» هي
التي تمكننا من مقاومة المصلحة الشخصية، بل لا بد أنها قوة أكبر؛ قوة الضمير: «العقل،
والمبدأ، والضمير، الكامن في الصدور، والإنسان الداخلي، ذلك القاضي الأعظم الحَكَم على
سلوكياتنا.»
32
تشير قائمة سميث التي ترجع إلى عام ١٧٥٩ — والتي تضم العقل، والمبدأ، والضمير،
والإنسان الداخلي — إلى عنصر مهم في الجدل الحالي حول التعاطف. ما الدافع القوي بما
يكفي لدفعنا إلى التصرف انطلاقًا من مشاعر المشاركة الوجدانية؟ إن التباين الذي يشوب
قائمة سميث يدل على أنه عانى هو نفسه شيئًا من الصعوبة في إجابة هذا السؤال؛ هل «العقل»
معدود مرادفًا ﻟ «الضمير، الكامن في الصدور»؟ لقد بدا أن سميث يؤمن — شأنه في ذلك شأن
العديد من نشطاء حقوق الإنسان في وقتنا هذا — بأن مزيجًا من الابتهالات العقلية لمبادئ
الحقوق والمناشدات العاطفية لمشاعر المشاركة الوجدانية يمكن أن يجعل التعاطف فعالًا من
الناحية الأخلاقية. كان النقاد في ذلك الحين — وكثيرون من النقاد اليوم — سيجيبون بأن
شيئًا من الاحساس بالواجب الديني الأسمى يحتاج تفعيله كي يفلح التعاطف. من وجهة نظرهم،
لا يستطيع البشر التغلب على الميل الفطري الطبيعي إلى عدم الاكتراث أو إلى الشر من
تلقاء أنفسهم وبدون مساعدة. أطلق أحد الرؤساء السابقين لنقابة المحامين الأمريكية
تعبيرًا عن وجهة النظر السائدة هذه فقال: «عندما لا يظهر البشر على صورة الله، عندئذ
قد
تفقد حقوقُهم الأساسية السببَ الغيبي الأسمى لوجودها.» إن فكرة المشاركة الإنسانية غير
كافية وحدها.
33
يركز آدم سميث على قضية واحدة، في حين أن هناك قضيتين في حقيقة الأمر؛ يعتبر سميث
أن
التعاطف مع من هم بعيدون عنا من نفس طبقة المشاعر التي نكنُّها للقريبين منا، مع أنه
يعترف بأن ما نتعرض له تعرضًا مباشرًا أكثر تحفيزًا بكثير من المشكلات التي يواجهها من
هم بعيدون عنا. إذن القضيتان هما: ما الذي يمكن أن يحفزنا للتصرف بناءً على مشاعرنا
تجاه البعيدين عنا؟ وما الذي يمكنه أن يسحق مشاعر المشاركة الوجدانية سحقًا بحيث نستطيع
أن نعذِّب، أو نشوِّه، أو حتى نقتل القريبين منا؟ لا بد أن تشتمل المسألة على عناصر
البعد والقرب، والمشاعر الإيجابية والسلبية جميعها.
بداية من منتصف القرن الثامن عشر فصاعدًا، وبالتحديد بسبب بزوغ فكرة حقوق الإنسان،
باتت هذه التوترات أكثر تدميرًا. سلط أنصار مناهضة الرق، والتعذيب الشرعي، والعقوبات
القاسية في أواخر القرن الثامن عشر، الضوء على الوحشية في رواياتهم المعذِّبة للمشاعر؛
لقد عمدوا إلى إثارة الاشمئزاز، بيد أن إثارة الأحاسيس عن طريق قراءة ورؤية صور صارخة
للمعاناة لم يمكن توجيهها بعناية على الداوم. وعلى نحو مشابه، اتخذت الروايات التي تلفت
الانتباه بشدة إلى المعاناة التي تتكبدها الفتيات العاديات أشكالًا أخرى أكثر خبثًا
بنهاية القرن الثامن عشر؛ صورت الرواية القوطية — ومن أمثلتها رواية «الراهب» (١٧٩٦)
لماثيو لويس — مشاهد لزنا المحارم، والاغتصاب، والتعذيب، والقتل، وبدا على نحو متزايد
أن تلك المشاهد الحسية المثيرة هي الغرض المنشود من الكتابة، وليس فحص المشاعر الداخلية
أو النتائج الأخلاقية. تقدم الماركيز دي ساد بالرواية القوطية خطوة إضافية لتأخذ شكل
دعارة صريحة من الألم، مختزلًا عن عمد مشاهد الإغراء الطويلة المسهبة الموصوفة في
روايات سابقة مثل رواية ريتشاردسون، «كلاريسا»، في جوهر جنسي. أراد دي ساد كشف المعاني
المستترة للروايات السابقة: الجنس والهيمنة والألم والنفوذ، وليس الحب والتعاطف وحب
الخير. من وجهة نظره، لم يعْنِ «الحق الطبيعي» سوى الحق في الاستحواذ على أكبر قدر ممكن
من السلطة والتمتع بممارستها على الآخرين. وليس من قبيل المصادفة أن دي ساد كتب كل
رواياته تقريبًا في تسعينيات القرن الثامن عشر إبان الثورة الفرنسية.
34
وهكذا جلبت فكرة حقوق الإنسان في أعقابها سلسلة كاملة من التناقضات البغيضة. فقد
أثارت الدعوة إلى حقوق عالمية متساوية طبيعية إلى نمو أيديولوجيات اختلاف جديدة ومتعصبة
في بعض الأحيان، وفتحت الأنماطُ الجديدة لاكتساب فهم تعاطفي الطريقَ أمام المذهب الحسي
للعنف. والجهد الرامي إلى القضاء على الوحشية من أساسها القانوني والقضائي والديني جعل
الوحشية أكثر وجودًا كأداة يومية للهيمنة والتجريد من الإنسانية، ولم يكن من الممكن
تصور جرائم القرن العشرين غير الإنسانية إلا عندما أمكن لكل إنسان أن يزعم ويؤكد كونه
فردًا متساويًا في الأسرة البشرية. معرفة هذه الازدواجيات أمر ضروري من أجل مستقبل حقوق
الإنسان؛ فالتعاطف لم يفنَ كما ادعى البعض؛ وإنما أصبح قوة أكثر فعالية من أي وقت مضى،
غير أن التأثير المكافئ فيما يخص العنف والألم والهيمنة أصبح أيضًا أكبر من أي وقت
مضى.
35
حقوق الإنسان هي حصننا الوحيد المشترك ضد هذه الشرور، وما زال علينا أن نعمل باستمرار
على إدخال التحسينات على نسخة حقوق الإنسان التي ظهرت في القرن الثامن عشر، مؤكدين على
أن لفظة «الإنسان» المذكورة في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» لا يشوبها أي غموض،
كالذي شاب لفظة «الفرد» في تعبير «حقوق الفرد». ويستمر فيض الحقوق في التدفق، مع أنه
دائمًا ما يواجه صراعًا هائلًا حول الطريقة التي ينبغي أن يتدفق بها: حق المرأة في
الاختيار في مقابل حق الجنين في العيش، حق الموت بكرامة في مقابل الحق المطلق في
الحياة، حقوق المعاقين، حقوق المثليين، حقوق الأطفال، حقوق الحيوانات، ولم ولن تنتهِ
المجادلات. أدان أنصار حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر مناوئيهم باعتبارهم تقليديين
عديمي الشعور، ولا يهمهم إلا الحفاظ على نظام اجتماعي عماده عدم المساواة والتمييز
والعادات التاريخية، وليس الحقوق المتساوية العالمية الطبيعية، غير أننا لم نعد ننعم
برفاهية أن نرفض ببساطة وجهة نظر أقدم. وعلى الجانب الآخر للصراع من أجل حقوق الإنسان،
عندما بات الإيمان بتلك الحقوق أكثر انتشارًا، أصبح علينا أن نواجه العالم الذي تشكَّل
بفضل هذه الجهود، لا بد أن نكتشف كيف نتصرف حيال المُعذِّبين والقتلة، وكيف نمنع ظهورهم
في المستقبل، مدركين في الوقت نفسه أن هؤلاء أيضًا منا نحن البشر؛ فلا يمكننا أن نترأف
بهم ولا أن نجردهم من إنسانيتهم أيضًا.
قد يكون إطار عمل حقوق الإنسان، بهيئاتها الدولية، ومحاكمها الدولية، واتفاقياتها
الدولية، مثيرًا للاستياء الشديد؛ بسبب البطء في الاستجابة، أو العجز المتكرر عن تحقيق
الأهداف السامية لحقوق الإنسان، غير أنه ما من هيكل أفضل متاح لمواجهة هذه القضايا؛
فالاعتبارات السياسية الحكومية دائمًا ستعطل عمل المحاكم والمنظمات غير الحكومية، مهما
كان نطاق اختصاصها دوليًّا. ويبين تاريخ حقوق الإنسان أن خير مدافع عن الحقوق في نهاية
المطاف هو مشاعر وقناعات وأفعال جموع الأفراد الذين يطالبون باستجابات تتفق مع إحساسهم
الداخلي بالظلم والإساءة. أدرك القس البروتستانتي رباءوت سانت إتيان تلك الحقيقة من قبل
في عام ١٧٨٧، عندما كتب إلى الحكومة الفرنسية شاكيًا عيوب المرسوم الجديد الذي يمنح
البروتستانت التسامح الديني قائلًا: «لقد حان الوقت الذي لم يعد مقبولًا فيه لأي قانون
أن ينقض جهارًا حقوق الإنسانية التي باتت معروفة حق المعرفة للعالم أجمع.» وقدمت
إعلانات الحقوق — الصادرة في أعوام ١٧٧٦، و١٧٨٩، و١٩٤٨ — معيارًا لحقوق الإنسانية تلك،
معتمدة على معنى ما «لم يعد مقبولًا»، وفي المقابل ساعدت على جعل الانتهاكات غير مقبولة
على الإطلاق. فلطالما تمتعت العملية ولا تزال تتمتع بخاصية دائرية لا يمكن إنكارها:
بمعنى أننا نعرف معنى حقوق الإنسان لأننا نشعر بالانزعاج عند انتهاكها، وقد تكون حقائق
حقوق الإنسان متناقضة من هذا المنظور، غير أنها تظل مع ذلك بديهية.