مغامرة المنزل الخالي
لقد استحوذَ مقتل النبيل رونالد أدير في ظروفٍ شديدة الغرابة والغموض، والذي وقع في ربيع عام ١٨٩٤، على اهتمام لندن كلِّها، وتسبَّب في فجيعة الطبقة الأرستقراطية. لقد اطَّلع الناس بالفعل على التفاصيل التي تكشَّفَ عنها تحقيقُ الشرطة فيما يخص الجريمة، ولكنْ في هذه الواقعة أُبقيَ قدْرٌ لا بأسَ به من التفاصيل الأخرى طيَّ الكتمان؛ ذلك أن القضيةَ كانت بالنسبة للادِّعاء من القوةِ بمكانٍ؛ بحيث أصبح من غير الضروري الإفصاحُ عن الحقائق جميعِها. الآن فقط، وبعد مرور ما يقارب العشر سنوات، أستطيع الكشف عن تلك الحلقات المفقودة التي توضِّح كافة جوانب تلك القضية الغريبة. كانت الجريمةُ في حدِّ ذاتها مثيرةً للاهتمام، ولكنَّه اهتمامٌ لا يكاد يُذكر بالنسبة لي عندما أقارنه بالنهاية التي يستحيل تخيُّلها؛ تلك التي جعلتني أشهدُ أعظمَ صدمة ومفاجأة يمكن لأيِّ حدثٍ أن يُوقِعهما في حياتي الحافلة بالمغامرات، حتى إنني إلى هذه اللحظة، وبعد هذه المدة الطويلة، لا تزال تأخذني رِعدةٌ كلما تذكرتها، وأشعر مجددًا بذلك الفيض المفاجئ من البهجة والدهشة والذهول الذي يغمر عقلي بالكامل. دعوني أُخبر أولئك الذين أظهروا بعض الاهتمام بتلك اللمحات التي كنت أشير إليها بين الحين والآخر فيما يخص أفكار ومواقف رجلٍ بارزٍ جدًّا؛ أُخبِرهم أنَّ عليهم ألَّا يلوموني إذا كنتُ قد حجبتُ عنهم ما عندي من معلومات؛ فقد كان ينبغي لي أن أعُدَّ إخبارهم بما أعرف من أَولى واجباتي لولا أنْ منعني الرجلُ بنفسه منعًا صريحًا وباتًّا من ذلك، ولم يُبِح ليَ الكلامَ إلا في الثالث من الشهر الماضي.
لا يخفى أن صداقتي الحميمة مع شيرلوك هولمز قد أكسبتْني ولعًا شديدًا بعالم الجريمة، وأنني لم أنقطعْ قطُّ، بعد اختفائه، عن القراءة المتفحِّصة لمختلف ما يُعرَض على الجمهور من قضايا، حتى إنني حاولت أكثر من مرة، إشباعًا لرغبةٍ شخصية عندي، أن أستخدم طرقَهُ الخاصةَ في حلِّها، لكنْ لم أُحرِز إلَّا نجاحًا محدودًا. مع ذلك، لم تُثر اهتمامي قضيَّةٌ بقدْر ما فعلتْ مأساةُ رونالد أدير؛ فعندما قرأتُ أدلةَ التحقيق التي وصَّفت الجريمةَ بأنها جريمةُ قتلٍ مُتعمَّد نفَّذها شخصٌ أو عدة أشخاصٍ غير معروفين، أدركتُ، بوضوحٍ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، حجم الخسارة التي تكبَّدها المجتمعُ بموت شيرلوك هولمز. لقد كنتُ على يقينٍ من أنَّ بعض النقاط — تحديدًا في هذه القضية الغريبة — كانت ستحوز اهتمامه، وأنَّ قوةَ الملاحظةِ المحنَّكةَ ويقظةَ الذِّهن اللتَين يتمتع بهما العميل الجنائيُّ الأول في أوروبا كانتا ستُكملان جهودَ الشرطة أو — بالأحرى — تسبقانها. لقد قلَّبتُ القضيةَ على وجوهها كافةً طوال اليوم أثناء قيامي بأعمالي المعتادة ولم أجد أيَّ تفسيرٍ يبدو مناسبًا. وحتى لا أُعيد وأُكرِّر، فسوف أُوجز حقائقَ القضية كما أُعلنتْ على الناس في نهاية التحقيق.
إن النبيل رونالد أدير هو الابن الثاني لإيرل مينوث، الذي كان يحكم إحدى المستعمرات الأسترالية في ذلك الوقت. وكانت والدة أدير قد عادت من أستراليا لتخضع لعملية المياه البيضاء بعينيها، وقد أقامت هي وابنها رونالد وابنتها هيلدا معًا في ٤٢٧ شارع بارك لين. كان الشاب يقضي أوقاته بصحبة أفضل الرفاق، ولم يكن له — فيما عُلم — أيُّ أعداء، ولا كان لديه أيُّ نقائص بعينها. وكان قد خطب الآنسة إيدِث وُودلي من قرية كارستيرز، اسكتلندا، لكنَّ الخِطبةَ فُسختْ برضا الطرفين قبل بضعة أشهر، ولم يكن هناك أيُّ علامةٍ توحي بأنها تركت وراءها أيَّ تأثيرٍ عميق. فيما عدا ذلك فإن حياة الرجل كانت تدور في حدود فلكٍ ضيقٍ وتقليدي؛ حيث كانت طباعه هادئة ولم يكن انفعاليًّا. وبرغم كل هذا فقد توخَّى الموتُ هذا الشابَّ الأرستقراطيَّ الوديع، تحديدًا لينقضَّ عليه في أغرب الصُّور وأبعدِها عن التخيُّل، وكان هذا بين الساعة العاشرة والحادية عشرة والثُّلُث ليلةَ الثلاثين من مارس من عام ١٨٩٤.
كان رونالد أدير مُغرَمًا بألعابِ الورق، وكان دائِم اللعب، إلا أنه لم يكن يقترب مطلقًا من المقامرات التي قد تضرُّ بحياته. وكان عضوًا في ثلاثةٍ من نوادي ألعاب الورق: بولدوين وكافيندِش وباجاتل. أظهرت التحقيقات أنه في يوم وفاته كان قد تناول وجبة العشاء ثم لعب ثلاثة أدوار من لعبة الهويست في النادي الأخير. وكان قد لعب هناك أيضًا بعد الظُّهر. وأظهرت شهادةُ مَن شاركوه اللعب، وهم السيد موراي، والسِّير جون هاردي، والكولونيل موران؛ أن اللعبة كانت لعبة الهويست، وأنهم جميعًا كانت لهم حظوظ متساوية. ربما خسر أدير ما يقارب الخمسة جنيهات، ولكن ليس أكثر من ذلك. لقد كانت ثروته كبيرةً بحيث لا يمكن لخسارةٍ كهذه أن تؤثِّر عليه بأيِّ صورةٍ من الصور. كان أدير يلعب كلَّ يوم تقريبًا في هذا النادي أو ذاك، لكنَّه كان لاعبًا حذِرًا، ولم يكن يقوم عن اللعب عادةً إلَّا فائزًا. وقد أظهرتْ شهادة الشهود أنَّ أدير فازَ بالفعل — بالاشتراك مع الكولونيل موران — بما يقارب الأربعمائة والعشرين جنيهًا، وذلك في جلسة لعب ضِدَّ كلٍّ من جودفري ميلنر واللورد بالمورال منذ أسابيع. ولنكتفِ الآن من ذِكْر ما أورده التحقيقُ عن حياته.
عادَ أدير من النادي إلى منزله ليلةَ وُقوع الجريمة في تمام العاشرة. كانت والدته وأخته تقضيان السهرة خارج المنزل مع أحد الأقارب. وقد شهدت الخادمة تحت القسَم أنها سمعتْه وهو يدخل الغرفة الأمامية بالطابق الثاني، التي كان يتخذها عادةً غرفةَ جلوس. أما هي، فقد أشعلت نار المدفأة هناك، وعندما بدأ دخانها يتصاعد؛ فتحت النافذة. لم يُسمع أيُّ صوتٍ من الغرفة حتى عادت السيدةُ مينوث وابنتُها في الحادية عشرة والثُّلُث. أرادت الأم أن ترى ابنها وتتمنى له نومًا هادئًا؛ لذا حاولت دخولَ غرفته، لكن الباب كان مغلقًا من الداخل، ولم يردَّ أحد على ندائهنَّ ولا طَرْقهنَّ للباب. نجحت السيداتُ في إحضار المساعدة وكَسر الباب؛ فظهر الشابُّ البائسُ ممددًا على الأرض بجوار المنضدة. بدا رأسُهُ مُشوَّهًا بفظاعةٍ نتيجةَ رصاصةِ مسدسٍ قابلةٍ للتمدُّد والانفجار داخل الجسم، لكن لم يُعثر على أيِّ سلاحٍ من أيِّ نوعٍ داخل الغرفة. وقد وُجد فوق المنضدة عملتان ورقيتان كلتاهما من فئة العشرة جنيهات، وسبعة عشر جنيهًا أخرى عبارة عن عملات فضية وذهبية من فئة العشرة بنسات، وقد نُظِّمت جميعُها في أكوامٍ صغيرة مختلفة الحجم. وكان هناك أيضًا بعضُ الأرقام على قطعة من الورق وقد كُتب في مقابل كُلٍّ منها اسم أحد أصدقائه من النادي، واستُنتج من هذه الورقة أنه كان يحاول — قبل موته — أن يُحصي خسائره ومكاسبه في ألعاب الورق.
لم يُسهم الفحصُ الدقيقُ لملابساتِ القضية إلَّا في جعْلها أكثر تعقيدًا. فبدايةً، لا يوجَد ما يُبرِّرُ اضطرارَ الشابِّ لإحكام غلْقِ الباب من الداخل. كان هناك احتمالية أن يكون القاتل قد فعل هذا ثم هرب بعد ذلك من النافذة، لكن لم تكن المسافةُ بين النافذة والأرض خارج المنزل تقلُّ عن عشرين قدمًا، وكان يقبع بالأسفل حوضٌ من زهور الزعفران المتفتحة، ولم يَبدُ على الأزهارِ ولا على الأرضِ أيُّ علامةٍ تدلُّ على إخلالٍ بانتظامهما، ولا وُجِدَ كذلك أيُّ أثرٍ على الشريطِ العُشبي الضيِّقِ الذي يفصل المنزلَ عن الطريق. لِذا يبدو أنَّ الشابَّ نفسَه هو مَن أغلق الباب. ولكنْ، تُرى كيف لقي حتفه؟ لم يكن أحد ليستطيعَ التسلُّقَ إلى النافذة دون ترْك أثر. إذا افترضنا أن رجلًا ما أطلقَ النار عبرَ النافذة، فستكون حقًّا إصابةً مُميزة؛ فمن ذا يستطيعُ باستخدام مسدس أن يُحدِث هذا الجرح المميت؟ أعود فأقول إنَّ بارك لين شارع معمور يكثر رُوَّادُه، ويوجَد موقفٌ لعربات الأُجرة على بُعد مائة ياردة من المنزل، لكن لم يسمع أحدٌ صوت إطلاقِ نار. ورغم ذلك فقد عُثر على القتيل، كما عُثِر على رصاصة المسدس التي اتخذتْ شكل عيش الغراب عند اصطدامها بجسده، كما تفعل الطلقاتُ ذاتُ الرأس اللين، ثم أحدثتْ جرحًا لا بد أنه تسبَّب في موتٍ فوريٍّ. كانت تلك ملابساتُ لُغزِ بارك لين، التي ازدادتْ تعقيدًا بغياب الدَّافع كليًّا؛ حيث إنَّه، وكما أسلفتُ، لمْ يُعرَفْ أنَّ للشاب أدير أيَّ أعداء، ولمْ تُبذل أيُّ محاولةٍ للاستيلاء على المال ولا الأشياء الثمينة بالغرفة.
ظللتُ طُوال اليوم أُقلِّب هذه الحقائق في رأسي مُحاولًا إيجادَ نظريةٍ ما، يمكن من خلالها التوفيقُ بين تلك الحقائق جميعًا، والعثورُ على أسهلِ الطُّرقِ الموصِّلة للحل الذي سبق أنْ أكد لي صديقي المسكين أنَّه نقطة الانطلاق في أيِّ تحقيق. أعترفُ أني لم أُحرِز تقدمًا يُذكر. في المساء خرجتُ للتجول في شارع بارك لين، ووجدت نفسي في حوالي الساعة السادسة في شارع أكسفورد، عند نهاية شارع بارك لين. وكان على الأرصفة مجموعةٌ من المتسكِّعين يُحدِّقون جميعُهم ناحيةَ نافذةٍ بعينها، وهذا ما وجَّه انتباهي للمنزل الذي كنتُ قد أتيتُ لأراه. وقفَ هناك رجلٌ طويلٌ ونحيفٌ يرتدي نظارةً ملوَّنة وقد تشككتُ بقوةٍ في كوْنِهِ مخبرًا بملابس مدنية، وأخذ يعرض تصوُّرَه الخاصَّ عن الموضوع، بينما تَجمَّع حوله الآخرون ليستمعوا لما يقول؛ اقتربتُ منه بقدْر ما أمكنني، لكنَّ ملاحظاته بدتْ لي سخيفةً، فأخذتُ في التراجع وقد اعتراني نوعٌ من الاشمئزاز. وبينما أنا كذلك، اصطدمتُ برجلٍ عجوزٍ أعرج كان خلفي، وأسقطتُ الكتب العديدة التي كان يحملها. أذكر أنني لاحظت عنوان أحد الكتب بينما كنتُ ألتقطها من على الأرض وهو «أصل عبادة الأشجار»، وخطر بذهني أنه لا بد أن الرجل كان من هواة الكتب النادرة المساكين الذين يجمعون الكتب الغامضة والغريبة على سبيل التجارة أو الهواية. حاولتُ الاعتذار عمَّا حدث، لكنْ بدا واضحًا أنَّ هذه الكُتب التي — للأسفِ الشديد — أسأتُ التعامل معها كانت أشياء عزيزةً جدًّا على نفْس صاحبها. فاستدارَ فجأةً ومضى وهو يُزمجر على نحوٍ يَشي بشعوره بالازدراء، حتى رأيتُ ظهرَه المحنيَّ وسوالفه البيضاء يغيبان في الزِّحام.
لم يساعدني كثيرًا تفحُّصي لموقع المنزل رقم ٤٢٧، بشارع بارك لين، في حلِّ القضية التي كنتُ مشغولًا بها؛ فقد كان يفصل بين المنزل والشارع سورٌ منخفضٌ وسياج، لكنْ لمْ يزد ارتفاعُهما معًا على خمسة أقدام؛ لذا كان من اليسير جدًّا على أيِّ أحدٍ أنْ يتسلَّقَ إلى داخلِ الحديقة، لكنَّ بُلوغَ النافذةِ كان مُتعذِّرًا تمامًا؛ حيث لم يكن هناك مواسيرُ مياهٍ ولا أيُّ شيءٍ يُمكِّن حتَّى أكثرَ الرجال لياقةً من التسلُّقِ إليه. زادت حيرتي أكثر من قبلُ؛ فعُدتُ من حيث أتيتُ إلى منطقة كنزنجتون. لم يمضِ على وجودي في مكتبي خمس دقائق حتى دخلت الخادمة لتخبرني أن شخصًا ما يريد أن يقابلني. دُهِشتُ عندما رأيتُ أنه لم يكن سوى الرجل الغريب؛ هاوي جمع الكتب العجوز، وقد بدَتْ ملامحُ وجهه القاسيةُ الذابلةُ وكأنها تُحدِّق فيَّ وهي تطلُّ من إطار من الشعر الأبيض، أما كتبه القيِّمةُ، التي بلغ عددها ١٢ كتابًا على الأقل، فقد انحشرتْ تحت ذراعه اليمنى.
قال بصوتٍ أجش غريبٍ: «إنَّك متفاجئٌ لرؤيتي يا سيدي، أليس كذلك؟»
اعترفتُ أني كذلك بالفعل.
قال: «حسنٌ يا سيدي، إنَّ لي ضميرًا يقظًا، وعندما تصادفَ أن رأيتُك تدخل هذا البيت، فكَّرتُ في نفسي — وأنا أجرُّ رجلي العرجاء هذه في أثرِكَ — وقلتُ: دعني أقُم بزيارةٍ سريعةٍ فقط لأرى ذلك الرجل الطيب، وأُخبره أني وإن كان في سلوكي بعضُ الفظاظة تجاهه، فإني لم أقصد أيَّ أذًى، وأني ممنونٌ له جدًّا لأنه التقطَ كتبي من على الأرض.»
قلتُ: «إنك تُضخِّمُ الأمور. أيمكنني أن أسأل كيف عرفتَ مَن أكون؟»
«حسنٌ، سيدي، إذا لم يكن في ذلك كثيرُ رفعٍ للكلفة، فإنني جارك، وستجد محلَّ بيع الكتب الصغير الخاص بي عند ناصية شارع تشيرتش، وسأسعد برؤيتك هناك بالتأكيد. ربما تختار الكتب بنفسك يا سيدي؛ ها هي كتب «الطيور البريطانية» و«كاتولوس» و«الحرب المقدسة» – كلٌّ منها صفقةٌ رابحة في حدِّ ذاته. وبخمسةِ مجلداتٍ فقط تستطيع ملء هذا الفراغ في ذلك الرفِّ الثاني. إنه يبدو غير مُنسَّق، أليس كذلك يا سيدي؟»
حرَّكتُ رأسي لأنظر للخزانة الموجودة خلفي. وعندما استدرتُ ثانيةً كان شيرلوك هولمز واقفًا عند الجانب الآخر من طاولة الغرفة يبتسم في وجهي. انتصبت واقفًا، وأخذت أحدِّق فيه بضع ثوانٍ وأنا في ذهولٍ تامٍّ، ويبدو أنني أُصبت بعد ذلك بحالة إغماءٍ لأول وآخر مرةٍ في حياتي. لا شك أن سحابةً رمادية كانت تدور أمام عيني، وعندما انقشَعتْ عنِّي، وجدتُ ياقة ملابسي مفكوكةً وعلى شفتيَّ ذلك الخَدَرُ الذي يعقب ارتشافَ البراندي. كان هولمز منحنيًا فوق مقعدي وقنِّينتُه في يده.
قال الصوتُ الذي أذكرُه جيدًا: «عزيزي واطسون، إنني مَدينٌ لك بألفِ اعتذار. لم أكن أعلم أنك ستتأثر إلى هذا الحد.»
قبضتُ على ذراعه.
وصِحْتُ: «هولمز! أهذا أنت حقًّا؟ أحقًّا لا تزال على قيد الحياة؟ أيُعقل أنك نجحتَ في الخروج من هذه الهاويةِ المرعبة؟»
قال: «تمهَّلْ قليلًا. هل أنت متأكدٌ أنك مستعدٌّ بالفعل لمناقشة الأمر؟ لقد تسببتُ لك في صدمةٍ عنيفة بعودتي بهذه الطريقة المُثيرةِ غيرِ المبررة.»
«أنا بخير حال يا هولمز، لكنني حقًّا لا أستطيع تصديق عينيَّ. يا إلهي! أنا لا أصدِّق عندما أفكر أنك أنت — أنت من بين جميع الناس — واقفٌ في مكتبي!» أمسكتُه مُجدَّدًا من كُمِّه، وتحسستْ يدي تلك الذراعَ الرفيعة القوية من تحته، وقلت: «إذًا، إنك لستَ شبحًا على أيَّةِ حال. صديقي الغالي، كم أنا سعيدٌ برؤيتك. اجلس وحدِّثني كيف نجوْتَ من هذه الهُوَّة المروِّعة.»
جلسَ قبالتي وأشعلَ سيجارةً على طريقتِهِ القديمةِ اللامبالية. كان يرتدي سُترةَ بائعِ الكتبِ الرَّثَّةَ مشقوقةَ الذَّيْل، لكنَّ باقي أدوات هذه الشخصية تجمَّعت في كومة من الشعر الأبيض والكتب القديمة فوق المنضدة. بدا هولمز أكثرَ نحافةً وأكثر حماسةً من ذي قبل، ولكنْ عَلَتْ وجهَه المعقوفَ مسحةٌ من الشُّحوب الشديد اكتشفتُ من خلالها أنَّه لم يكنْ يتمتع بكامل صحته مؤخرًا.
قال هولمز: «إنني سعيدٌ ببسْطِ جسمي، يا واطسون؛ فليسَ هَيِّنًا أبدًا أنْ يضطرَّ رجلٌ طويلٌ إلى تعطيل إحدى قدميه لعدَّةِ ساعاتٍ مُتَّصلة ليتظاهر بالعرج. والآن يا صديقي العزيز، بخصوص ما تحتاج إليه من توضيحات، وإن كان لي أن أطلب تعاونَك، فإنَّ أمامنا ليلةً من العمل الشاقِّ والخطير، وربما كان من الأفضل أن أصف لك الموقفَ كاملًا بعد انتهاء ذلك العمل.»
«إنني مُفعمٌ بالفُضول. وأحبِّذُ جدًّا أن أعرفَ الآن.»
«هل سترافقني الليلة؟»
«وقتما تحب وأينما تحب.»
«إن ذلك حقًّا ليُشبه الأيامَ الخوالي. سنجد مُتَّسعًا من الوقت لتناول القليل من طعام العشاء قبل أن يتوجب علينا الذهاب. حسنٌ، إذن، بخصوص تلك الهاوية، فلم أجد صعوبةً حقيقيةً في الخروج منها؛ لأنني وبكل بساطةٍ لم أقعْ فيها قط.»
«لم تقع فيها قط؟!»
«نعم، لمْ أسقط فيها مطلقًا يا واطسون. ورسالتي لك كانت صادقةً تمامًا. لم يساورْني أي شك في أنني قد بلغتُ نهاية حياتي العملية عندما رأيتُ هيئة الراحل البروفيسور موريارتي المشئومة نوعًا ما الذي كان واقفًا فوق الممر الضيق المؤدي إلى نقطة النجاة. وقرأتُ في عينَيه الرماديتين عزمًا لا تُوهِنه رحمةٌ أو شفقة؛ فتبادلتُ معه بعض الكلمات، ومن ثمَّ حصلتُ على إذنه الكريم في كتابةِ الرسالة الموجزة التي تسلمتَها أنت فيما بعدُ. تركتُها مع علبة سجائري وعصايَ ومشيتُ عبر الممر، وظلَّ موريارتي يتعقَّبُني. وعندما وصلتُ إلى الحافَّةِ لم أجد بُدًّا من مواجهته. لم يستلَّ موريارتي أيَّ سلاح، لكنَّه اندفع نحوي وطوَّقني بذراعيه الطويلتين. لقد علم أنَّ لعبته انكشفت، وكان يتوق فقط إلى الانتقام لنفسه مني. ترنَّح كلٌّ منَّا على حافَّة الشَّلَّال، ولكنِّي كنت على درايةٍ ببعض أساليب الباريتسيو، أو طريقة المصارعة اليابانية، التي نفعتني جدًّا أكثر من مرة؛ فتخلصتُ من قبضته، وظلَّ هو لبضع ثوانٍ يركلُ الهواءَ ويُمزِّقه بجنونٍ بكلتا يديه وهو يصرخ صرخاتٍ مرعبة. وبرغم جُهودِه كلِّها لمْ يستطِع الحفاظ على توازنه، وهوى إلى أسفل. كان وجهي أعلى الحافة فرأيتُه يهوي مسافةً طويلة. ثمَّ اصطدم بصخرةٍ، فارتدَّ عنها، وارتطم بالماء.»
كنتُ أستمع في دهشةٍ لهذا الشرح الذي قدَّمه هولمز بينما كان ينفث دخان سيجارته.
صحتُ: «لكنْ، آثار الأقدام! لقد رأيتُ بعينيَّ هاتين أنَّ اثنين قد سقطا من فوق الممر ولمْ يرجعا.»
«هكذا سارت الأمور. بمجرد اختفاءِ البروفيسور تنبهتُ للحظ السعيد بصورةٍ غيرِ عادية الذي منحني القدَر إيَّاه. كنتُ أعلم أن موريارتي لمْ يكن الرجل الوحيد الذي كان يسعى لقتلي؛ فقد كان هناك ثلاثةٌ آخرون على أقل تقدير لا يُتوقع أنْ يزيدهم موتُ قائدهم إلا رغبةً في الانتقامِ مني. كانوا جميعًا من أكثر الرجال خطورةً. فإن لم يظفر بي أحدُهم لكان الآخر سيفعل بلا شك. لكن لو أن الجميعَ اقتنعوا أنني متُّ لأخذ هؤلاء الرجال حريتهم، وخاطروا بظهورهم، وكنتُ سأصبح قادرًا على التخلص منهم، عاجلًا أو آجلًا. ثمَّ كان سيتسنى لي إعلان أنني ما زلتُ في عالَم الأحياء. لقد تصرَّف العقلُ بسرعةٍ فائقة لدرجةٍ جعلَتْني أظنُّ أني قد فكَّرتُ في هذا كُلِّه قبل أن يصل البروفيسور موريارتي إلى قاعِ مُنحدَرِ شَلَّال رايكنباك.
وقفتُ وتفحصتُ الجدار الصخري الذي كان خلفي. إنك تؤكِّد في سردِك الحيِّ للقصة، الذي قرأتُه باهتمامٍ بالغٍ بعد بضعة أشهرٍ، أنَّ الجدار كان شديد التحدر، لم يكن ذلك صحيحًا في الواقع؛ إذ برزَ قليلٌ من المواضع الصغيرة التي تصلح أن تكون مواطئ أقدام تُستخدم في التسلق، وكان هناك بعضُ الدلائل على وجود حافَّةٍ ناتئة. كان الجرف عاليًا جدًّا بحيثُ كان من الواضح أنه يستحيل تسلُّقه كله، وكان شقُّ طريقي عبر الممر الرطب دون تركِ بعض آثار الأقدام في نفس درجةِ الاستحالة. ربما كان عليَّ قلبُ اتِّجاه حذائي الطويل الرقبة، كما سبق أن فعلتُ في ظروفٍ مشابهة، لكنَّ رُؤيةَ ثلاثِ مجموعاتٍ من آثارِ الأقدامِ في اتجاهٍ واحدٍ كانت ستوحي بلا شك بأنَّ في الأمرِ حيلة. عمومًا، كان الأفضلُ حينها أنْ أُخاطِرَ بالتسلُّق. لم يكن الأمرُ سهلًا، يا واطسون؛ كان الشَّلَّال يهدِر من تحتي. أنا لستُ من المتوهمين، لكني أؤكد لك أني كنتُ أكاد أسمع صوتَ موريارتي يصرخ فيَّ من داخل الهاوية، كان أيُّ خطأٍ سيصبحُ قاتلًا. وقد تكرَّر أكثر من مرة — كلما قبضتْ يدي على حفنة من العشب أو انزلقتْ قدمي في الشقوق الرطبة في الصخر — ظني بأنني قد هويت. ولكني قاومت واستمررتُ في الصعود بصعوبة، حتى وصلتُ أخيرًا إلى حافةٍ يمتدُّ عُمقُها إلى عدَّةِ أقدامٍ، وتغطِّيها الطحالب الخضراء الناعمة، حيث تمكنتُ من المكوث بعيدًا عن الأنظار وفي أكثر الأماكن راحة. وقد كنتُ هناك أتمدَّد بينما كنتَ أنتَ يا عزيزي واطسون، وجميعُ مَن معك تُحقِّقون بأكثر الأساليب إثارة للشفقة وأبعدها عن الفعالية في ملابسات موتي.
في النهاية، وبعد أن توصلتم جميعًا إلى نتائجكم الحتمية والخاطئة تمامًا، غادرتم المكان إلى الفندق وبقيتُ أنا وحيدًا. وظننتُ أني قد وصلت إلى نهاية مغامراتي، ولكنَّ حادثةً بعيدةً تمامًا عن التوقعِ وقعتْ لتُظهر لي أنه لا يزال ينتظرني المزيدُ من المفاجآت؛ فقد انحدرتْ صخرةٌ عظيمةٌ من أعلى، واندفعتْ بِدويٍّ شديدٍ من فوقي، حتى ارتطمتْ بالممر وقفزتْ إلى داخل الهُوَّة. وظننتُ للحظةٍ أنَّها كانت مصادفةً؛ ولكن بعد لحظة، نظرتُ لأعلى، فإذا بي أرى رأس رجلٍ في مواجهةِ السماءِ الآخذة في الإعتام، وإذا بصخرةٍ أخرى تصطدم تحديدًا بالحافة التي كنت ممددًا عليها، وعلى مسافةِ قدمٍ من رأسي. بالطَّبع، كان معنى ذلك واضحًا. لم يكن موريارتي بمفرده. إنَّه شريكٌ — وحتى هذه النظرة الخاطفة أخبرتْني كم هو رجلٌ خطيرٌ ذلك الشريك — وقد كان يراقب المكان بينما كان البروفيسور يهاجمني. وقد شَهِدَ، من على بُعدٍ خارجَ مدى رؤيتي، وفاةَ صديقِهِ وهروبي. لقد انتظرَ، ثُمَّ اتخذ لنفسه طريقًا إلى قمَّة الجرف، مُحاولًا النجاحَ فيما أخفقَ فيه زميله.
لم أستغرقْ كثيرًا للتفكير في الأمر يا واطسون؛ فقد رأيتُ ذلك الوجهَ الصَّارمَ مجدَّدًا وهو ينظر من أعلى الجرف، وأدركتُ أنَّه يُنذِرُ بانحدارِ صخرةٍ أخرى؛ فزحفتُ نزولًا إلى الممر. لا أظن أنني كنت قادرًا على فعلها في الظروف العادية؛ لقد كانت أصعب مائة مرةٍ من النزول على قدميَّ، لكنْ لم يكن لديَّ وقتٌ للتفكير في الخطر؛ إذ مرَّت صخرةٌ أخرى بجواري بينما كنتُ متعلِّقًا بيديَّ في أطراف الحافة الصخرية. وفي منتصفِ المسافة إلى الأسفل أفلتُّ يديَّ، ولكنِّي هبطتُ ببركةِ الربِّ، مجروحًا نازفًا، فوق الممر. وأسرعتُ بالفرار، حتى قطعتُ عشرة أميالٍ فوق الجبال في الظلام، وبعد أسبوع وجدتُ نفسي في فلورنسا، وكُلِّي يقين أنْ لا أحدَ في العالم يعرفُ ما آلَ إليه أمري.
لم يكن لديَّ غير كاتمِ أسرارٍ واحد وهو أخي مايكروفت. إنني مَدينٌ لك ببالغ الاعتذار، عزيزي واطسون، ولكنه كان مهمًّا جدًّا أنْ يُعتقد أنني قد متُّ، ولا شكَّ أنك ما كُنتَ لتكتب مثل هذه الرواية الشديدة الإقناعِ عن نهايتي التعيسة إذا لم تكن أنت نفسك قد اعتقدت وقوعها. وقد تناولتُ قلمي مراتٍ عديدةً على مدار السنوات الثلاث الماضية لأكتب إليك، ولكنني دائمًا كنتُ أتهيَّبُ ذلك خشيةَ أنْ يسوقك اهتمامُك الشديد بي إلى عملٍ طائشٍ قد يكشف سرِّي؛ ولهذا السبب انصرفتُ عنك هذا المساء عندما أسقطتَ كتبي، حيث كنتُ في خطرٍ ساعتها، ولو كنتَ أظهرتَ أيَّ شيءٍ يدلُّ على الدهشةِ أو التأثُّر، لكُنتَ لفتَّ الانتباه إلى هُوِيَّتي، ولأدَّى هذا إلى أشنعِ النتائج وأكثرِها تعذُّرًا على الإصلاح. أمَّا مايكروفت، فكان عليَّ أن أضعَ ثقتي به من أجل الحصول على المال الذي كنتُ أحتاجه. لم تجرِ الأحداثُ في لندن بالطريقة الجيدة التي كنت أرجوها، حيثُ لم تُدِنْ محاكمةُ عصابة موريارتي اثنين من أكثر أعضائها خطرًا، وهما أكثر أعدائي رغبة في الانتقام مني؛ ولذلك سافرتُ إلى منطقة التبت لمدةِ سنتَين، ورفَّهتُ عن نفسي بزيارةِ مدينة لاسا وتمضيةِ بعض الأيامِ مع اللاما الأعظم. ربما قرأتَ عن الاستكشافات البارزة لشخص نرويجيٍّ يُدعى سيجرسون، ولكني متأكدٌ أنه لم يخطر ببالك قطُّ أنَّك كنتَ تستقبل أخبارًا عن صديقك. بعد ذلك مررتُ ببلاد فارس، وعرَّجتُ على مكةَ، ثم زرتُ الخليفة في الخرطوم، وكانت زيارةً قصيرةً لكنها مثيرة، وقد أبلغتُ وزارة الخارجية بنتائج هذه الزيارات. ثم عدتُ إلى فرنسا حيث قضيتُ بضعةَ أشهرٍ في إجراءِ بحثٍ عن مشتقات قطران الفحم، وقد أجريتُه في معملٍ في مونبلييه بجنوب فرنسا. وبمجرد أن انتهيتُ من هذا البحث على النحو الذي أردتُ، وعلمتُ أنَّه لم يبقَ من أعدائي في لندن غير واحدٍ فقط، كنتُ على وشك الرجوع، والذي عجَّل به أخبارُ لغز بارك لين البارز، الذي لم يحُز على إعجابي فقط بسبب ملابساته، بل لأنه بدا مُبشِّرًا بتقديمِ بعضِ الفُرص الشخصية المميَّزة جدًّا؛ فأتيتُ على الفور إلى لندن، وذهبتُ إلى بيتي بشارع بيكر حيث استعدتُ حياتي وحريتي، وتسببتُ للسيدة هدسون في نوبةِ هستيريا عنيفة، ووجدتُ أنَّ مايكروفت قد احتفظَ بغُرفي وأوراقي تمامًا على الوضع الذي كانت عليه دائمًا. وهكذا كان الأمرُ، عزيزي واطسون، أنْ وجدتُ نفسي في الساعة الثانية اليومَ على كرسيِّي القديمِ وفي غرفتي القديمةِ، لا أتمنى غيرَ رؤية صديقي القديم واطسون جالسًا على الكرسي الآخر الذي كثيرًا ما زيَّنه بالجلوس عليه.»
تلك كانت القصةَ العجيبة التي استمعتُ إليها في مساء ذلك اليوم من شهر أبريل؛ إنها قصةٌ ما كنتُ لِأُصدقها أبدًا لولا أنْ أكَّدتها رؤيتي الفعلية لتلك القامة الطويلة النحيلة، وذلك الوجه المُتوقِّد حماسةً اللذَين ما ظننتُ قطُّ أنْ أراهما ثانيةً. وقد أَدركَ بطريقةٍ ما فجيعتي وحزني، فأظهرَ تعاطفَه بسلوكِه لا بكلماتِه، وقال: «العملُ أفضلُ ترياقٍ للحزن، عزيزي واطسون، وعندي بعضٌ منه الليلة لكلَينا، وإذا استطعنا أنْ نُنجزَه بنجاحٍ، فسيجعلنا في حدِّ ذاته نستحق الحياة على ظهر هذا الكوكب.» وعبثًا رجوتُه أنْ يخبرني المزيد، فأجاب: «ستسمع وترى ما فيه الكفاية قبل الصباح. إنَّ لدينا قصصًا من الثلاث سنواتٍ الفائتة لنناقشها. فلنكتفِ بهذا حتى تحين التاسعةُ والنصف، حينَ نبدأُ مغامرةَ المنزلِ الخالي البارزة.»
كان الأمرُ حقًّا يشبه الأيامَ الخوالي، عندما وجدتُ نفسي، في تلك الساعة، جالسًا بجواره داخل عربة أجرة، ومسدسي في جيبي ورِعشةُ المغامرةِ في قلبي. كان هولمز باردًا وعابسًا وصامتًا. وعندما لمعَ وميضُ مصابيح الشارع فوق ملامحِه المتجهِّمة، رأيتُه يعقد حاجبَيْه مستغرقًا في التفكير وقد أطبقَ شفتيه الدقيقتيْن. ولم أعلمْ أيُّ وحشٍ ضارٍ ذاك الذي كُنَّا على وشك مُلاحقته في الغابةِ المظلمة للإجرام بلندن، ولكني كنتُ متأكدًا تمامًا من هيئةِ ذلك الصيَّاد الخبير أنَّ المغامرةَ كانت بالغةَ الخطورة، بينما كانت الابتسامةُ الباهتة التي تكسر تجهُّمه الشديد بين الحينِ والآخر لا تبشِّرُ بأي خير فيما يتعلق بمهمتنا.
كنتُ أظنُّ أنَّنا متوجِّهَان إلى شارع بيكر، لكنَّ هولمز أوقفَ عربةَ الأجرة عند ناصيةِ ميدان كافيندِش. ولاحظتُ أنه بمجرد خروجه أخذَ يُلقي نظرة فاحصة ناحيةَ اليمين والشمال، وبذلَ غايةَ جهده عند ناصيةِ كُلِّ شارعٍ تالٍ ليتأكدَّ أنْ لا أحدَ هناك يُلاحقه. لقد كان طريقنا بالتأكيد ذا اتِّجاهٍ واحد. وكان هولمز على درايةٍ استثنائيةٍ بالطُّرقِ الجانبيةِ للندن، وفي هذه الليلةِ كان يتنقلُّ بسرعةٍ، وبخطًى واثقةٍ، عبر مجموعة من الأزقَّة والإسطبلات التي لمْ أكن أعلم بوجودها مطلقًا. وانتهينا أخيرًا إلى طريقٍ صغير، تُطلُّ من جانبَيْهِ منازلُ قديمةٌ مظلمة، وقد أدَّى بنا إلى شارعِ مانشستر، ومنه إلى شارعِ بلاندفورد. وهنا انعطف هولمز سريعًا إلى ممرٍّ ضيق، وشقَّ طريقَه عبْرَ بوابةٍ خشبيةٍ إلى فناءٍ مهجور، ثم فتحَ بمفتاحٍ معه البابَ الخلفيَّ لأحد المنازل. ودخلنا معًا وأغلقَ هولمز البابَ خلفنا.
كان المكانُ مُعتمًا جدًّا، وكان واضحًا لي أنَّه منزلٌ خاوٍ. كانت أرجُلُنا تُحدِثُ صريرًا وطقطقةً فوق الأرضيةِ الخشبية العارية، وقد لامستْ يدي الممدودةُ جدارًا تتدلَّى منه أشرطة ورقية. طوَّقتْ أصابعُ هولمز الباردةُ النحيلةُ معصمي وقادتني إلى الأمام نحو ردهةٍ طويلة، حتى تمكنتُ بالكادِ من رؤيةِ النافذة المروحيةِ المعتمة الموجودة فوق الباب. وهنا انعطفَ هولمز فجأةً ناحيةَ اليمين، فوجدنا أنفسنا داخلَ حجرةٍ مُربعةٍ كبيرةٍ فارغة، كانت الظلالُ تكتنف أركانها بكثافةٍ، لكنَّ أضواءَ الشارعِ البعيدةَ كانت تُلقي في وسطها ضوءًا خافتًا. ولم يكن هناك مصباحٌ قريب، وكانت النافذةُ مغطاةً بطبقةٍ كثيفةٍ من التُّراب؛ لذا لم نستطعْ أن نُميِّزَ غيرَ شخوصِنا بالدَّاخل. ووضَعَ رفيقي يدَه فوق كتفي وشفتَيه قريبًا من أُذُني.
وهمسَ قائلًا: «أتدري أين نحن؟»
فأجبتُ، وأنا أحدِّق عبرَ النافذةِ المعتمة: «بالتأكيد هذا شارع بيكر.»
«بالضبط. إننا في منزل كامدن، الذي يوجَد في مواجهةِ مسكننا القديم.»
«لكن، لِمَ نحنُ هنا؟»
«لأنَّ هذا المكان يُطِلُّ من زاويةٍ مُمتازةٍ على تلك المباني الرائعة. أتسمح، عزيزي واطسون، بالتحرُّكِ قليلًا قُربَ النافذة، وأخذِ جميعِ الاحتياطاتِ كي لا تُظهِرَ نفسك، ثم النظرِ إلى أعلى ناحيةَ مسكننا القديم؛ الذي كان نقطة انطلاقِ العديد والعديد من مغامراتنا الصغيرة؟ سوف نرى إنْ كانت سنواتُ غيابي الثلاثُ قد ذهبتْ تمامًا بقُدرتي على مفاجأتِك.»
فتزحزحتُ ببطءٍ ناحيةَ الأمام ونظرتُ نحو النافذة المألوفة، وبمجرد أنْ وقعتْ عيني عليها شهقتُ وصرختُ صرخةَ ذهول؛ فقد أزيلت الستارةُ وراحَ ضوءٌ شديدٌ يتوهَّجُ في الغرفة. كان ظِلُّ رجُلٍ جالسٍ على كرسيٍّ بالداخل ترتمي حُدوده السوداءُ الحادَّة فوق الحاجز السلكي المضيء للنافذة. لم يكن هناك أي لبس فيما يتعلق بهيئةِ الرأس، ولا تربيعة الكتفين، ولا حِدَّةِ الملامح. وقد اتَّخذَ الوجهُ شكلًا نصفَ دائريٍّ، وظهَرَ كواحدةٍ منْ تلكَ الصُّوَرِ الظِّلِّيَّةِ السوداء التي كان أجدادُنا يُحبونَ وضعها في إطارات. لقد كان نُسخةً مطابقة من هولمز، لقد كنتُ مشدوهًا جدًّا لدرجةِ أنني مددتُ يدي لأتأكَّد أنَّ الرجل نفسَه كان واقفًا بجانبي. كانَ هولمز يهتز بضحك مكتوم.
قال هولمز: «ما رأيك؟»
فصِحتُ: «يا إلهي! هذا مُدهش.»
فقال: «إنني واثقٌ أنَّ حِيَلي لا تنضَبُ بمرورِ السِّنينَ ولا تبلَى بالأُلفةِ والتَّعوُّد.» وأحسستُ في صوتِه نشوةَ الفنَّانِ واعتزازَه بإبداعِه. وقال: «إنَّه حقًّا يُشبهني نَوْعًا ما، أليس كذلك؟»
«إنني مُستعدٌّ للقَسَمِ إنَّه أنت.»
«يرجعُ الفضل في تنفيذِهِ إلى السيد أوسكار مونييه، من مدينة جرنوبل الفرنسية، الذي قضى بضعةَ أيَّامٍ في صُنعِ القالَب. إنَّه تمثالٌ نِصفيٌّ من الشمع. والباقي أعددتُه بنفسي أثناءَ زيارتي شارعَ بيكر بعدَ ظُهرِ اليوم.»
«لكن لماذا؟»
«لأنَّه، عزيزي واطسون، كانَ لديَّ ما يدفعني بشدة لأتمنَّى أنْ يحسبَ قومٌ بعينهم أني كنتُ هناك في حين كنتُ في الواقع في مكانٍ آخر.»
«وكُنتَ تظنُّ أنَّ الغُرفَ مراقَبة؟»
«بل كنتُ على يقينٍ أنها كانت تحتَ المُراقبة.»
«مراقبة مَنْ؟»
«مراقبة أعدائي القُدامى، يا واطسون. تلكَ العصابة السَّاحرةُ التي يقبعُ زعيمُها في قاع شَلَّال رايكنباك. يجبُ أنْ تتذكرَ أنهم يعلمون، وأنهم هُمْ فقط مَن يعلمون، أنِّي ما زلتُ على قيدِ الحياة. وبعد قليلٍ من الوقتِ أو كثيرٍ فقد بدءوا يعتقدونَ أنني سأعود حتمًا إلى منزلي؛ وقد راقَبوه بصورةٍ مستمرة، وفي هذا الصَّباح رأوني وأنا أصلُ إليه.»
«كيف عرفتَ هذا؟»
«لأنني تعرَّفتُ على حارِسِهِم عندما ألقيتُ نظرةً خارجَ نافذتي. إنَّه رجلٌ غيرُ مؤذٍ إلى حدٍّ كبير، يُدعى باركر، ويحترفُ خنق ضحاياه من الخلف، وهو عازفٌ مميَّزٌ على آلة قيثارِ اليهوديِّ الموسيقية. لمْ أُولِه أيَّ اهتمامٍ، ولكنِّي أوليْتُ اهتمامًا بالغًا للشخصِ الأكثر منه إفزاعًا بكثير والذي كانَ ورَاءَه، وهو صديقُ موريارتي المُقرَّب، والرجلُ الذي أسقطَ الصُّخورَ من فوق الجرف، والذي يُعَدُّ أشدَّ المجرمين مكرًا وخطورةً في لندن. ذاك هو الرجل الذي يلاحقُني الليلةَ، يا واطسون، وهو ذاتُه الرجلُ الغافلُ تمامًا أنَّنا نلاحِقُه.»
كانت خُططُ صاحبي تتكشَّفُ تدريجيًّا؛ فمِن هذا الملاذِ المُناسِب كان المُراقِبون يُراقَبون والمُتَعقِّبون يُتَعَقَّبون. كان ذلك الظِّلُ هُناك في الأعلى هو الطُّعم وكنَّا نحن الصيَّادين. وقفنا معًا في الظَّلام في صمتٍ، وأخذنا نراقبُ الأشخاصَ المُسرعين الذين كانوا يمرون ويعيدون المرورَ من أمامنا. كان هولمز صامتًا وساكنًا، ولكنني لاحظتُ أنَّه كان مُتنبِّهًا بشدة، وأنَّ عينيه كانتا مثبَّتتين بتركيزٍ على ذلك السَّيلِ من المارَّة. كانت ليلةً كئيبةً عاصِفةً، وكان للريحِ صفيرٌ مُدوٍّ على مدى الشارع الطويل. كان كثيرٌ من الناس يتحركون جيئةً وذهابًا، وكان معظمُهم متلفِّعًا بالمعاطف وأربطة العُنق. وخُيِّلَ إليَّ مرةً أو مرتَين أنِّي رأيتُ الشخصَ نفسَه من قبلُ، وقد فطنتُ إلى رَجُلَين تحديدًا بدا أنهما كانا يحتميان من الريح في مدخل أحد المنازل الواقعة على مسافةٍ قصيرة في نفس الشارع. وحاولتُ لفتَ انتباهِ رفيقي إليهما، لكنَّه صاح على نحوٍ ينمُّ عن نفادِ صبرِه وواصلَ التحديقَ إلى الشارع. وجعلَ أكثرَ من مرةٍ يهزُّ رجليه تململًا وينقرُ بأصابِعِه بسرعةٍ على الحائط. كان واضحًا لي أنَّه بَدَأَ يقلق وأنَّ خُطَطَه لم تكنْ تعملُ بفاعليةٍ كاملةٍ كما كان يرجو لها. وفي النهاية، عندما اقتربَ منتصفُ الليل وبدأَ الشارع يخلو تدريجيًّا، أخذَ هولمز يَذْرَعُ الغُرفةَ جيئةً وذهابًا في توتُّر شديد. كنتُ على وشك إبداءِ ملحوظة له عندما رفعتُ بصري ناحيةَ النافذةِ المُضاءَةِ، وتلقيتُ مرةً أخرى مفاجأةً عظيمةً كسابقتها تقريبًا. فقبضتُ على ذراعِ هولمز وأشرتُ إلى أعلى.
صرختُ قائلًا: «لقد تحرَّكَ الظِّل!»
في الواقع، لم يَعُد الجزءُ الجانبيُّ من التمثال هو الذي في مواجهتنا، بل الظَّهر.
ثلاثُ سنواتٍ مرَّتْ ولم تُلطِّف من حدَّةِ طِباعِهِ قطُّ، ولا من نفاد صبره السريع من عقلٍ أقل نشاطًا وذكاءً من عقلِه.
قال هولمز: «بالطبع لقد تحرَّك. هل أنا أخرَقُ سخيفٌ يا واطسون كي أنصبَ دُميةً جليَّةً وأتوقع أنْ ينخدعَ بها بعضُ أذكى الرجال في أوروبا؟ إننا في هذه الغرفة منذ ساعتين، وقد أجْرَت السيدةُ هدسون بعض التعديل في هذا التمثال ثماني مرات، أو مرةً كل ربع ساعة. وهي تقوم بذلك من ناحيةِ الأمام كي لا يُرى ظِلُّها أبدًا. آه!» وأخذ يتنفس بحدَّةٍ وانفعال. في الضَّوء الخافتِ رأيتُ رأسَه مائلًا للأمام، وهيئته كلها صارمة مُتنبِّهة. في الخارج، كان الشارعُ خاليًا تمامًا. ربما لا يزالُ هذانِ الرجلانِ قابعَين عند المدخل، لكنني لم أعُد قادرًا على رؤيتهما. كان كلُّ شيءٍ ساكنًا ومظلمًا، ما عدا ذلك الحاجز السلكي المضيء وحده أمامنا وفي وسطه ترتسمُ حُدودُ التمثال السوداء. ومجددًا وفي الصمت المُطبقِ سمعتُ ذلك الصوتَ الصفيريَّ الواهنَ الذي صدرَ عن انفعالٍ حادٍّ مكبوت. وبعدَ لحظة، جذبني للخلفِ ناحيةَ أكثرِ أركانِ الغُرفةِ ظُلمةً، وشعرتُ بيدِهِ المحذِّرة على شفتيَّ. كانت الأصابعُ التي أمسكتْ بي ترتعش. لم أرَ صديقي من قبلُ شديد الانفعال هكذا، غير أن الشارع المظلم كان لا يزال يمتدُّ أمامنا خاليًا وساكنًا.
ولكنني تنبَّهتُ فجأةً لذاكَ الذي كانت حواسُّه الأكثرُ توقُّدًا قد تبيَّنَتْه بالفعل؛ فتسلَّلَ صوتٌ خفيضٌ إلى أُذُنيَّ، ليس من جهةِ شارع بيكر، ولكنْ من الجزء الخلفي للمنزلِ نفسِه الذي كنا مختبئَين فيه. فُتِحَ بابٌ ثم أُغلق. وبعد هُنَيهةٍ بدأتْ خُطواتٌ تتسللُ أسفلَ الممر؛ خطواتٌ كان يُرادُ لها أنْ تكونَ صامتةً، ولكنَّها دوَّتْ بقسوةٍ في أرجاءِ المنزل الخالي. جَثَا هولمز ناحيةَ الوراءِ تِجاهَ الحائط وفعلتُ مثله، واضعًا يدي بالقرب من مقبض مسدسي. وعندما حدَّقتُ في الظلام رأيتُ صورةً مبهمةً لرجُل، طيفًا تزيدُ حُلكتُه على حُلكةِ الباب المفتوح. وقفَ للحظة، ثُمَّ تسلَّلَ إلى الأمام وهو جاثٍ على رُكبتيه، وهيئتُه تُنذِرُ بالسُّوء، إلى أنْ دخلَ الغرفة. كان على مقربة ثلاثِ يارداتٍ مِنَّا، ذلك الطَّيفُ المشئوم، وقد هيأتُ نفسي لمواجهةِ انقضاضِه، قبل أن أدرك أنه لم تكن لديه فكرةٌ عن وجودنا. مرَّ قريبًا مِنَّا، وانسلَّ ناحيةَ النافذة، وبرفقٍ وهدوءٍ بالِغَيْن رفعها مسافةَ نصفِ قدم. وبمجردِ أنْ أصبح في مستوى هذه الفتحة سقطَ ضوءُ الشارعِ — الذي لم يعد خافتًا بسببِ الزجاج المُترب — بالكامل على وجهه. لقد بدا الرجلُ في غمرةٍ من الانفعال؛ كانت عيناه تلمعان كالنجوم وكانت قسماتُ وجهه تتشنج. كان رجُلًا كبير السن، ذا أنفٍ رفيع ناتئٍ، وجبهةٍ صلعاء عاليةٍ، وشاربٍ أشيبَ ضخم، وكانت تلتصقُ بمؤخرةِ رأسِه قبعةٌ من قبعات الأوبرا، وتلتمعُ مقدمةُ قميصٍ من قمصان البدلات الرسمية من تحت معطفِه المفتوح، كان وجهُه ضامرًا أسمر اللون، موسومًا بخطوط وحشية عميقة، وكان يحمل في يده شيئًا بدا وكأنه عصا، ولكنَّه أحدثَ رنينًا كرنينِ الأشياء المعدنية بمجرد أن أنزلَه على الأرض، ثمَّ استلَّ من جيبِ معطفِه شيئًا ضخمًا، وانشغلَ في عملٍ انتهى بصوتِ تكَّةٍ حادَّةٍ مدوِّية، وكأنما كان زُنبركًا أو مسمارًا لولبيًّا قد استقرَّ في موضعه. ثم انحنى إلى الأمام وهو لا يزال جاثِيًا على الأرض وألقى بكامل وزنِه وقوَّته فوق شيءٍ كالرافعة؛ مِمَّا أحدثَ ضوضاء ذات صريرٍ كأنها دوامة، استمرَّتْ لوقتٍ طويل، وانتهتْ بتكَّةٍ قويةٍ أُخرى. ومن ثمَّ عدَّلَ هيئته، فرأيتُ أنَّ ما كانَ يحمله في يده هو بندقية من نوعٍ ما، وكان لها عقِبٌ مشوَّهٌ بطريقةٍ غريبة، وفتحها من عند العقِب، ووضع شيئًا بالداخل، ثم صَكَّ مِغلاقَ العقِب، ثم انحنى لأسفل، وأسند طرفَ ماسورة البندقية على حافة النافذة المفتوحة، ورأيتُ شاربَه الطويلَ يتدلى فوق مقبض البندقية وعينَه تلمع وهي تحدِّق في جزء التصويب. وسمعتُ منه تنهيدةَ رِضًا قصيرةً عندما ضمَّ عقِبَ البندقية إلى كتِفِه، ورأى ذلك الهدفَ المُذهل؛ الرجلَ الأسودَ عند الخلفية الصفراء، شاخصًا بوضوحٍ عند نهايةِ بندقيتِه. بقي الرجلُ لحظةً مُتجمِّدًا ساكنًا، ثم ضغطَ إصبعه على الزِّناد؛ فانطلقَ أزيزٌ مدوٍّ غريب، ورنينٌ قويٌّ طويلٌ لزجاجٍ يتكسَّر. وفي تلك اللحظة وثَبَ هولمز كالنمر على ظهر ذلك القناص وطرَحه أرضًا على وجهه. لكنَّ الرجُلَ قامَ من فورِه مجدَّدًا، وأمسكَ هولمز من رقبته بقوةٍ وتشنُّجٍ، لكنني ضربته على رأسه بعقبِ مسدسي؛ فسقط مجددًا على الأرض، ثم ألقيتُ بنفسي فوقه، وعندما تمكنتُ منه أطلق رفيقي صفيرًا عاليًا باستخدام صافرة؛ فسمعتُ دبيبَ أقدامٍ تعدو على الرصيف، واندفع شرطيان يرتديان الزيَّ الرسميَّ، مع مخبرٍ يرتدي ملابس مدنية، عبْرَ المدخلِ الأمامي للمنزل ومنه إلى داخل الغرفة.
قال هولمز: «أهذا أنت، يا لستريد؟»
«نعم، يا سيد هولمز. لقد توليتُ المهمة بنفسي. سُرِرتُ بعودتك إلى لندن، يا سيدي.»
«أظنك تحتاج إلى بعض المساعدة غير الرسمية؛ فوجود ثلاث جرائم قتلٍ دون حلٍّ في عام كاملٍ ليس بالأمر الجيِّد، يا لستريد. لكنك تعاملتَ مع لغزِ مقاطعة مولسي بأكثر مما هو معتادٌ منك؛ أي إنك تدبرت أمرَه بطريقة جيدة إلى حدٍّ كبير.»
نهضنا جميعًا على أقدامنا، كان أسيرُنا يتنفس بصعوبة، وقد وقفَ على كل جنب من جنبَيه شرطيٌّ قوي البنية. وكانت مجموعة من المارة قد بدأتْ بالفعل تتجمع في الشارع. وتقدَّم هولمز ناحية النافذة، فأغلقها، وأنزل الستائر. وأشعلَ لستريد شمعتين وأضاءَ كلٌّ من رجُلَي الشرطة مصباحه؛ فتمكنتُ أخيرًا من رؤية أسيرنا بوضوح.
لقد كان وجهًا مُفعمًا جدًّا بالحيوية ذاك الذي استدار ناحيتنا، لكنه لمْ يكن يخلو من الشر؛ فكان أعلاه جبينُ فيلسوف وأسفله فكٌّ شهوانيٌّ، لا بُد أنَّ الرجُلَ قد ابتدأ وبه قابليةٌ عظيمةٌ لكُلٍّ من الخير والشر، لكنْ لم يكن المرءُ ليستطيعَ النظر في عينيه الزرقاوين القاسيتين، ذواتَي الأجفان الساخرة المرتخية، ولا في أنفه العدواني الشرس وجبهته المتوعِّدة ذات الخطوط العميقة، دُون أنْ يقرأَ فيه أوضحَ مؤشراتِ الطبيعةِ دلالةً على الخطر. لمْ يكترث الرجلُ لأيٍّ منَّا، لكنَّ عينيه كانتا مثبتتَين على وجه هولمز وبهما تعبيرٌ امتزجتْ فيه الكراهيةُ والدهشة معًا بالقدْر نفسه. وأخذ يُتمتم: «أنت أيها الشيطان! أنت أيها الماكر، أيها الشيطان الماكر!»
فأجابه هولمز، وهو يعدل ياقته المتغضِّنة: «آه، حضرةَ الكولونيل! الرحلات تنتهي بلقاء الأحبة، كما تقول المسرحيةُ القديمة. لا أظن أني حظيتُ بشرفِ رؤيتك منذُ تفضَّلتَ عليَّ بعطاياك عندما كنتُ ممددًا على الحافة أعلى شَلَّال رايكنباك.»
ظلَّ الكولونيل يُحدِّق في صديقي كما يفعل مَن يتعرض لغيبةٍ تنويمية. وكان كل ما استطاع قوله هو: «أنت أيها المخادع، أيها الشيطان المخادع!»
قال هولمز: «لمْ أُعرِّف بعضكم ببعضٍ بعدُ. هذا، أيها السادة، هو الكولونيل سباستيان موران، الذي كان يومًا ضمن جيش صاحبة الجلالة في الهند وكان أفضل صائدِ طرائد كبيرة أنجبته إمبراطوريتنا الشرقية على الإطلاق. أعتقد أني مُصيبٌ، أيها الكولونيل، في قولي إنَّه لا يدانيك أحد بعدُ في عدد النمور التي اصطدتها، أليس كذلك؟»
لم ينبس العجوزُ الشرسُ ببنتِ شفة، لكنه ظلَّ يُحملِق في صاحبي بغضب؛ وكان هو نفسه — بعينيه الضاريتَين وشاربِه الكبير — يُشْبه النَّمِرَ بصورةٍ مذهلة.
قال هولمز: «إنني أَعجبُ كيف استطاعتْ حيلتي البسيطةُ جدًّا هذه أنْ تخدعَ صيادًا محترفًا واسع التجربة مثلك؛ لا بد أنها مألوفة جدًّا لك. ألمْ تُقيِّد جدْيًا صغيرًا من قبلُ تحتَ شجرةٍ، وتكمن فوقها ومعك بندقيتك، وأنت تنتظر الطُّعمَ حتى يجذبَ لك النمر الذي تريده؟ هذا البيت الخالي هو شجرتي وأنت نَمِري. كان من المحتمل أن يكون معك أسلحة احتياطية أخرى في حال وُجد أكثر من نمر، أو تحسبًا للفرضية غير المحتمَلة أنْ يخذلك تصويبُك. هؤلاء — وأشارَ حوله — هُم أسلحتي الأخرى. والحالتان متطابقتان تمامًا.»
وثبَ الكولونيل موران إلى الأمام، وهو يزمجر من الغيظ، لكنْ جرَّه الشرطيان إلى الخلف. كان الحنَق في وجهه أفظع من أن تنظر إليه.
قال هولمز: «أعترف أنك فاجأتني مفاجأةً صغيرة، فلمْ أكن أتوقع أنك ستستخدم هذا المنزل الخاوي وهذه النافذة الأمامية الملائمة. لقد تصورتُ أنك تدير مهمتك من الشارع، حيث كان صديقي لستريد ورفيقاه المرحَين ينتظرونك. وباستثناء هذا، فقد سارَ كلُّ شيءٍ كما توقعتُه.»
التفتَ الكولونيل موران نحو المحققِ الرسميِّ.
وقال: «قد يكونُ لديك دافعٌ مشروعٌ لاعتقالي وقد لا يكون، لكن على الأقل لا يمكن أن يُوجد أيُّ مُبرر لخضوعي لاستهزاءِ هذا الشخص. وإذا كنتُ بين يدَي العدالة، فدع الأمورَ تجري بطريقةٍ قانونية.»
قال لستريد: «حسنٌ، هذا مقنعٌ جدًّا، ألدَيك شيءٌ آخر تريد قولَه قبل أن نغادر، يا سيد هولمز؟»
كان هولمز قد التقط بندقية ضغط الهواء الضخمة من على الأرض وأخذ يفحص آلية عملها.
وقال: «سلاحٌ رائعٌ وفريدٌ من نوعه؛ لا يُحدِث ضجيجًا عاليًا وقوَّتُه مُروِّعة. إنني أعرف فون هيردير، الحِرَفي الألماني الأعمى، الذي صنعَه بناءً على طلب الراحل البروفيسور موريارتي. وكنتُ على درايةٍ بوجودهِ منذ سنواتٍ، لكن لم تُتح لي الفرصةُ كي أمسكه بيدي من قبلُ مطلقًا. وأنا أُودِعه أمانة بين يديك، يا لستريد، والرصاص الخاص به كذلك.»
فقال لستريد، والجمع كُلُّه يتحرك تجاهَ الباب: «يمكنك الوثوق بنا للعناية بهذا الأمر، يا سيد هولمز. أتريد قولَ أيِّ شيءٍ آخر؟»
«فقط أريد أن أعرفَ أيَّ تُهمةٍ تفضِّل أن نوجِّهها إليه؟»
«أيَّةُ تهمة، يا سيدي؟ لِمَ؟ بالطبع، محاولة قتل السيد شيرلوك هولمز.»
«ليس كذلك، يا لستريد؛ فأنا لا أعتزم الظهورَ في الأمر مطلقًا. فإليك، وإليك وحدك، يرجع الفضلُ في الاعتقال الاستثنائي الذي أنجزتَه. نعم، يا لستريد، إنني أُهنِّئك! فقد أمسكتَ به بفضل جمعِك المُوَفق والمعهود بين البراعة والبسالة.»
«أمسكتُ به! أمسكتُ بمن، يا سيد هولمز؟»
«الرجل الذي كانت قوة الشرطة بكاملها تبحث عنه دون جدوى؛ الكولونيل سباستيان موران، الذي أطلق النار على النبيل رونالد أدير من بندقيةِ ضغط هواءٍ وباستخدام رصاصة قابلة للتمدُّد والانفجار داخل الجسم عبرَ النافذة المفتوحة في الغرفة الأمامية بالطابق الثاني للمنزل رقم ٤٢٧، بشارع بارك لين، في الثلاثين من الشهر الماضي. هذه هي التهمة، يا لستريد. والآن، يا واطسون، إذا كنتَ تستطيع تحمُّلَ تيار الهواء من نافذةٍ مكسورة، فأظن أنَّ نِصفَ ساعةٍ في مكتبي ومع دخان السيجار يُمكِن أنْ تُقدِّم لك تسلية مُثمرة.»
لم تتدهور حالة مسكننا القديم بفضل إشرافِ مايكروفت هولمز والرعاية المباشرة للسيدة هدسون. وبمجرد دخولي لاحظتُ ترتيبًا غير مألوف، لكنَّ المعالم الرئيسية القديمة كانت جميعها في مكانها؛ فكان هناك ركن الكيمياء والطاولة التي يعلوها لوحٌ من خشب الصنوبر والملطَّخة بالأحماض. وعلى أحد الرفوف اصطفَّتْ دفاترُ مهولةٌ تحوي قصاصات ومراجع، كان كثير من سكان مدينتنا سيصبحون سعداء جدًّا لو أنهم أحرقوها. والرسوم التوضيحية، وصندوق الكمان، وحامل البايب، حتى الخُفُّ الفارسي الذي كان يحتوي على التبغ؛ كلُّها رأيتُها عندما أدرتُ النظرَ حولي. كان يشغلُ الغرفةَ اثنتان؛ إحداهما هي السيدة هدسون، التي تبسَّمتْ بابتهاجٍ لكلينا عندما دخلنا؛ والأخري تلك الدمية الغريبة التي أدَّتْ دورًا بالغ الأهمية في مغامرة الليلة. كانت مُجسمًا شمعيًّا ملوَّنًا لصديقي، وقد صُنعتْ على نحوٍ بارعٍ بحيث كانت صورةً طبق الأصل تمامًا منه. كانت تقوم على منضدةٍ صغيرة وعليها رداءٌ منزليٌّ قديم من أردية هولمز وقد التفَّ حولها جيدًا بحيث بدا خيالُها من الشارع مثاليًّا تمامًا.
قال هولمز: «أرجو أن تكوني قد أخذتِ جميعَ احتياطاتك، سيدة هدسون.»
«كنتُ أذهب إليه زحفًا على ركبتيَّ، يا سيدي، تمامًا كما أمرتَني.»
«رائع. لقد نفَّذتِ المهمة بصورةٍ جيدة جدًّا. أما لاحظتِ أين ذهبت الرصاصة؟»
«بلى، سيدي. ولكنها للأسف أتلفتْ تمثالَك الجميل؛ إذ اخترقت الرأس مباشرةً واندكَّتْ في الحائط. لقد التقطتُها من على السجادة. ها هي ذي!»
أمسك بها هولمز وأراني إياها وقال: «طلقةُ مسدسٍ ذاتُ رأسٍ ناعم، كما تلاحظ، يا واطسون. إنَّ هذا يدلُّ على عبقرية؛ فمَنْ كان يتوقع أنْ يُطلقَ شيءٌ كهذا من بندقيةِ ضغط هواء. حسنٌ، سيدة هدسون، إنني ممنونٌ جدًّا لتعاوُنِك. والآن، يا واطسون، فَلْأَرَكَ في مقعدك القديم مرةً أخرى؛ إذ لديَّ نقاط عديدة أودُّ أنْ أناقشها معك.»
خلع المعطفَ الرَّثَّ المشقوقَ الذَّيْل، وأصبح الآن هولمز الذي كنت أعرفه عندما ارتدى الرداء المنزلي ذا اللون الفيراني الذي خلعه من تمثاله.
ثم قالَ ضاحكًا، وهو يفحصُ جبهةَ تمثاله المهشَّمة: «لمْ تفقد أعصابُ الصياد العجوز ثباتَها ولا فقدتْ عيناه حدَّتَها.
إصابة عمودية في منتصف مؤخر الدماغ اخترقت المخ مباشرةً؛ لقد كان أفضل قنَّاص في الهند، وأعتقد أنه لا يوجَد الكثير ممن هم أفضل منه في لندن. ألمْ تسمع بالاسم؟»
«لا، لمْ أسمع به.»
«حسنٌ، حسنٌ، هكذا هي الشهرة! لكن، أيضًا — إن لمْ أكن واهمًا — فإنك لمْ تسمع باسم البروفيسور جيمس موريارتي، الذي كان يتمتع بعقلٍ من أذكى عقول هذا القرن. فقط أعطني قائمتي الخاصة بالسِّيَر الذاتية من على الرفِّ.»
وأخذ يقلِّب الصفحات ببطء، وهو متكئٌ على كرسيِّه ينفثُ سُحُبًا كثيفةً من سيجارِه.
وقال: «إن مجموعة حرف الميم عندي من النوع الممتاز، موريارتي وحده يكفي لإعطاء أيِّ حرفٍ شُهرةً واسعة، وها هو مورجان المُسمِّم، وميريديو صاحب الذاكرة الغريبة، وماثيوس الذي هشَّمَ نابي الأيسر في حجرة الانتظار في محطة قطار تشيرينج كروس، وأخيرًا، ها هو صاحِبنا الليلة.»
موران، سباستيان، كولونيل. عاطل. فرقة رُواد بنجالور العسكرية الأولى سابقًا. من مواليد لندن، ١٨٤٠. ابن السير أوجستس موران، الحاصل على وسام الاستحقاق برتبة رفيق من الدرجة الأولى، والسفير السابق لبريطانيا في بلاد فارس. درسَ في مدرسة إيتون وجامعة أكسفورد. خدمَ في حملة جوفاكي، وحملة أفغانستان، وجهار آسیاب (المراسلات)، وشيربور، وكابُل. مؤلِّف كتاب «الطرائد الكبيرة في غرب الهيمالايا»، ١٨٨١؛ وكتاب «ثلاثة أشهرٍ في الغابة»، ١٨٨٤. عنوان السكن: شارع كوندويت. النوادي: نادي ذي أنجلو إنديان، ونادي تانكرفيل، ونادي باجاتل لألعاب الورق.
ثاني أخطر رجل في لندن.
قلتُ، وأنا أُعيد إليه المجلد: «هذا مُذهل، إنَّ مسيرة الرجل هي مسيرة جنديٍّ جديرٍ بالاحترام.»
فأجابني هولمز: «هذا صحيح. فقد أبلى بلاءً حسنًا حتى مرحلةٍ معينة. وكان دائمًا رجلًا ذا أعصاب حديدية، ولا تزال قصةُ زحفِه في أحد مصارف المياه وراءَ نمرٍ جريحٍ من آكلي لحوم البشر تُروى في الهند. بعضُ الأشجار، يا واطسون، تنمو إلى ارتفاعٍ مُعيَّن ثُم فجأةً تُنبِتُ بعضَ الشذوذ البشع. إنك كثيرًا ما سترى هذا في البشر. إن لديَّ نظريةً مؤداها أن الفرد يُمثل — في مراحل تطوره — مسيرةَ أجداده كاملةً، وأن مثل هذا التحوُّل المفاجئ إلى الخير أو الشر يشير إلى بعض التأثير القوي الذي يرثه من سلسلة نسبه. ويصبح الشخص — كما كان الحالُ هنا — نموذجًا لتاريخ عائلته.»
«إنها بالتأكيد خيالية نوعًا ما.»
«حسنٌ، أنا لا أصرُّ عليها. وأيًّا كان السبب، فإن الكولونيل موران بدأ ينحرف عن الصواب. ورغم عدم وجود أي فضيحة معلَنة، فإن الهند لا تزال تسعى بشدة للإمساك به. لقد تقاعدَ، وأتى إلى لندن، واكتسبَ سُمعة سيئة مرة أخرى. وفي هذا الوقت سعى البروفيسور موريارتي إلى أن يقرِّبه إليه، وقد عمل لصالحه مدةً ما رئيسًا لمساعديه. وقد أغدق موريارتي عليه المال بسخاء ولم يستخدمْه إلَّا في مهمة أو مهمتَين رفيعتَي المستوى جدًّا لمْ يكن يستطيع مجرمٌ عادي أن يتولاهما. ربما تذكُر شيئًا عن وفاةِ السيدة ستيورت، من بلدة لودر، عام ١٨٨٧. أنت لا تذكر، أليس كذلك؟ حسنٌ، أنا متأكدٌ أن موران هو المسئول الحقيقي عن وفاتها؛ لكن لا يمكن إثبات أيِّ شيء. وقد استتر الكولونيل ببراعة فائقة؛ حتى إننا لم نستطع إدانته عندما تفرَّقت عصابة موريارتي. أتذكُر عندما زرتُك في شقتك، في هذا التوقيت، كيف أغلقتُ مصاريع النوافذ خشيةً من بندقيات ضغط الهواء؟ لا شك أنك ظننتني واهمًا. لقد كنتُ أعرفُ تمامًا ما الذي كنتُ أفعله؛ لأنني كنتُ على علمٍ بوجود هذه البندقية المميَّزة، وكنتُ على علمٍ كذلك أنها ستكون في يد واحدٍ من أمهر القناصين في العالم. وقد تعقَّبَنا هو وموريارتي عندما كُنَّا في سويسرا، وكان هو بلا شكٍّ مَنْ جعلني أُقاسي تلك الدقائقَ الخمسَ الأليمةَ على حافة شَلَّال رايكنباك الصخرية.
ربما تعتقد أني قرأتُ الصُّحُفَ بشيءٍ من الاهتمامِ أثناءَ إقامتي المؤقتة في فرنسا، ترقُّبًا لأيِّ فرصةٍ لاعتقالِه. لمْ تكن حياتي لتستحق أن أحياها بحقٍّ طُوال مُدةِ بقائه طليقًا في لندن. كان طيفُه سيظل يطاردني بالليل والنهار، وعاجلًا أو آجلًا كانت الفرصةُ ستُواتيه حتمًا لمواجهتي. ماذا كنتُ أستطيع أن أفعل؟ ما كنتُ لأطلقَ عليه النار بمجرد رُؤيته، وإلا لأُودِعتُ أنا نفسي في قفصِ الاتهام. كان من العبث الاحتكامُ إلى القُضاة؛ فهم لا يستطيعون التدخل لأنَّ الأمر كان سيبدو لهم أنه اتِّهامٌ غيرُ مُبرَّر؛ لذا لمْ أستطع فعلَ شيء، ولكني تابعتُ أخبار المجرمين، مُوقنًا أنني كنتُ عاجلًا أو آجلًا سأُمسك به. ثُمَّ وقع موتُ رونالد أدير هذا؛ فواتتني الفرصةُ أخيرًا! وهل يكون من غير المؤكد أن الكولونيل موران هو من فعلها، إذا أخذنا في الاعتبار كلَّ ما قمتُ به؟ لقد لعب إحدى ألعاب الورق مع الشاب، وقد لاحقه وهو عائد من النادي إلى منزله، ثُم أطلق عليه النار من النافذة المفتوحة. لم يكن هناك شكٌّ في هذا. والطلقات وحدها تكفي ليطوِّق عنقه حبلُ المشنقة. لقد جئتُ إلى لندن في الحال، ورآني الحارس، الذي أعلم أنه كان سيخبر الكولونيل بوجودي. ما كان الكولونيل ليفشلَ في الربطِ بين عودتي المفاجئة وجريمتِه، وكان سيشعر بالقلق الشديد. كنتُ مُوقنًا أنه كان سيحاول إزاحتي من طريقه في الحال، وأنه سوف يأتي بسلاحه الفتَّاك لتحقيق هذه الغاية. لقد تركتُ له علامة ممتازة على النافذة، ولأنني كنتُ قد نبهتُ الشرطة أننا قد نحتاج إليهم — بالمناسبة، يا واطسون، لقد تبيَّنتُ وجودهم عند ذلك المدخل بدِقَّةٍ شديدة — فقد اتخذتُ لنفسي موقعًا رأيتُ أنه مناسب للمراقبة، ولم أتصوَّرْ قط أنه كان سيختار الموقع ذاتَه لتنفيذ هجومه. والآن، عزيزي واطسون، هل بقيَ أيُّ شيءٍ يحتاج مني أن أوضِّحه؟»
قلتُ: «نعم، إنك لمْ توضح ما الذي دفعَ الكولونيل موران لقتلِ النبيل رونالد أدير.»
«آهٍ! عزيزي واطسون، ها نحن نصل إلى تلك النقاط المتعلقة بالتخمين؛ حيث من الممكن لأكثر العقول تنظيمًا أن يقع في الخطأ؛ فقد يؤسس كلٌّ منا فرضيته الخاصة اعتمادًا على الدليل القائم، واحتمال الصحة متساوٍ في فرضيتَينا كلتَيهما.»
«لقد تبنيتَ فرضيةً، أليس كذلك؟»
«أظن أنه ليس من العسير تفسير الحقائق. لقد أظهرت شهادةُ الشهود أنَّ الكولونيل موران والشاب أدير قد فازا مناصفةً بمبلغٍ كبيرٍ من المال. إن موران قد غشَّ في اللعب بلا شك — أنا على يقينٍ من هذا — وأعتقد أنه في يوم الجريمة اكتشفَ أدير أنَّ موران كان يغُشُّ. ومن المحتمل جدًّا أن يكون قد تكلَّم معه على انفراد، وهدَّده أنه سوف يُشَهِّرُ به إذا لمْ يتخلَّ طواعيةً عن عضوية النادي ويتعهَّد بعدم ممارسة ألعاب الورق ثانيةً. فمن غير المحتمل أنَّ شابًّا مثل أدير كان ليُسارع بعمل فضيحةٍ شائنةٍ ويكشف أمرَ رجلٍ معروفٍ يكبُرُه كثيرًا في السن. لقد تصرَّفَ على الأرجح كما افترضتُ. إن إقصاءَ موران، الذي كان يتعيَّش على مكاسبه غير الشريفة من ألعاب الورق، من أنديته كان يعني الانهيار بالنسبة إليه؛ لذا فقد قتل أدير، الذي كان يحاول في ذلك الوقت أن يعرفَ كم من المال يتوجَّب عليه إعادتُه؛ لأنه لمْ يَقبلْ أن يستفيد من اللعب غير الشريف لزميله. وقد أغلقَ البابَ خشيةَ أن تُفاجئه السيدتان وتُصمِّما على معرفةِ ما كان يفعل بتلك الأسماء والعملات. ما رأيك في فرضيتي؟»
«لا أشكُّ أنك أصبتَ كبدَ الحقيقة.»
«سوف تُؤكَّد أو تُنفى في المحاكمة. وحتى ذلك الحين، وأيًّا كان ما سيحدث، فلن يزعجنا الكولونيل موران بعد الآن، وستُزيِّن بندقيةُ فون هيردير الشهيرةُ متحفَ سكوتلاند يارد، وسيكون السيد شيرلوك هولمز حرًّا مجددًا كي يكرِّس حياته للتحقيق في تلك القضايا الصغيرة المشوقة التي تفرزها بوفرة الحياةُ المعقدة في لندن.»