الفصل الثاني
الأناجيل المعتمدة
***
(١) إنجيل متَّى
(١-١) مَن هو متَّى؟
•••
من قراءة هذه الرواية يتبيَّن أن جدالًا شديدًا بين أتباع يسوع وخصومه وقع بعد صَلْبه ودفنه، لكن الكاتب سحبه إلى ما قبل الحدث لكي يُكسِب «معجزة القيامة» مصداقيةً مقنعةً بالقول إنها كانت متوقَّعةً ومتنبَّأً بها من قبل، لكنه كان كالذي نصب لغيره فخًّا لكي يقع هو فيه. ولعلَّه يمكننا تصور حوار جرى بين رجال السنهدرين والحراس كما يلي:
– لماذا سمحتُم لأتباع يسوع أن يسرقوا جثَّته؟
– كنا نائمين!
– إذا كنتم نائمين، فكيف علمتم أن جثَّته قد سُرقت؟
– لأننا وجدنا القبر فارغًا، وها نحن أولاء نشهد بالذي أردتُم أن نشهد به عندما رشوتمونا: أن أتباع يسوع قد سرقوا جثَّته.
في الفصل ٢٧ من إنجيل «متَّى»، ابتداءً من العدد ٥١ إلى ٥٤، بعد عبارة «ولفظ الروح»، نقرأ ما يلي: «وإذا ستار الهيكل قد انشقَّ شطرين من الأعلى إلى الأسفل، وزُلزلت الأرض، وتصدَّعت الصخور، وتفتَّحت القبور، فقام كثيرٌ من أجساد القدِّيسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، فدخلوا المدينة المقدَّسة وتراءوا (وفي رواية: وظهروا) لأناسٍ كثيرين.»
نفهم من هذه الفِقَر ما يلي:
- أولًا: انشقاق ستار الهيكل إلى نصفَين تصادف مع زلزلة الأرض، وتصدُّع الصخور، وتفتُّح القبور.
- ثانيًا: يقوم كثيرٌ من أجساد القدِّيسين الراقدين عندما يلفظ الروح.
- ثالثًا: يخرج الأموات من القبور بعد قيامته.
- رابعًا: يدخلون المدينة المقدَّسة، ويتراءون لأناسٍ كثيرين.
من حقِّنا أن نتساءل لماذا يظهر القدِّيسون لأناسٍ كثيرين، ولا يظهرون ﻟ «متَّى» كاتب الإنجيل (إن كان هو كاتبه فعلًا)؟
إن هذا يقطع بأنه لم يكُن هو نفسه معاينًا لهذه الأحداث.
من الواضح أن كاتب إنجيل «متَّى» مسكون بهاجس مَقدِم المسيح و«نهاية العالم» أو «يوم القيامة»، وهو، كغيره من كتاب الأناجيل، ما انفكَّ يؤكد النبوءات التي اشتمل عليها «العهد القديم»، ويُسقِطها على يسوع في محاولةٍ منه لإقناع اليهود بأنه هو المسيح المُنتظَر.
(٢) إنجيل مرقس
(٢-١) مَن هو مرقس؟
•••
يمكن تعليل العبارة الواردة في «مرقس» بأن ناسخًا جاء بعد مرقس سها عن تكملتها على وفق ما ورد في «متَّى»، خصوصًا وأن المناسبة واحدة، وهي طلب الإتيان بآية. وما يُعزِّز ما نذهب إليه أن العبارتين في «متَّى» و«مرقس» تبدأ إحداهما بنفيٍ يعقبه استثناء، والثانية بنفيٍ فقط «يُنتظر أن يليه استثناء» مماثل!
(٢-٢) إنجيل مرقس السري
فيما يتعلق بإنجيل مرقس، يبدو أن ممارسة الإضافة ليست هي وحدها التي تعرَّض لها هذا الإنجيل بالذات (وهذا لا ينفي تعرُّض الأناجيل الأخرى لمثل هذه الممارسة أيضًا)، بل هناك ممارسة حذف جزء هام كان يومًا متضمَّنًا في إنجيل مرقس. ففي عام ١٩٥٨م، عثر البروفسور مورتون سميث، من جامعة كولومبيا، في دير بالقرب من بيت المقدِس على رسالة اشتملت على قصافة مُنتزَعة من إنجيل مرقس، القصافة المُنتزَعة لم تكُن ضائعة، بل لقد أُخفيت عمدًا، بتحريض من الأسقف إكليمنضوس الإسكندري، أو بأمر صريح منه، وهو من أكثر آباء الكنيسة الأوائل موضعًا للتبجيل.
لقد أحسنتَ صُنعًا إذ أسكتَّ تعاليم الكربوقراط التي يعفُّ عن ذكرها اللسان، فهؤلاء هم النجوم الضالة، الذين حدَّثت عنهم النبوءة، الذين ضلُّوا عن الطريق الضيق الذي أمرتْ به الوصايا، وسقطوا في الهاوية التي لا قرار لها، وهي هاوية الآثام التي يدعو اللحم والجسد، فهم إذ يفتخرون بأنهم يعرفون، كما يقولون، أشياء الشيطان العميقة، لا يدرون أنهم يلقون ويتبجَّحون بالقول إنهم أحرار، لكنهم في الحقيقة عبيد شهواتهم المُذِلَّة. مثل هؤلاء يجب مقاومتهم جميعًا وبكل الوسائل، فحتى لو قالوا شيئًا صحيحًا يجب ألا يوافقهم عليه مَن يحبُّون الحق، إذ ليس كل شيء حقًّا، ولا كل ما يبدو أنه حقٌّ وفقًا لعقول البشر ينبغي تفضيله على الحقِّ الصحيح الذي يتفق مع الإيمان.
على هذا الكلام يُعقِّب مؤلِّفو «الدم المقدَّس والكأس المقدَّس» بالقول: إنه لتصريحٌ غريبٌ ينطق به أبٌ لكنيسة. في الواقع إن إكليمنضوس لا يقول شيئًا أقلَّ من: «إن اتفق لخصمك أن قال حقًّا، فعليك أن تنكره، وأن تكذب لكي تدحض قوله.» لكن ليس هذا كل شيء. في المقطع التالي تمضي رسالة إكليمنضوس تناقش إنجيل مرقس وقيام الكربوقراط بإساءة استعماله، على ما يرى الأسقف الإسكندري:
فيما يتعلق بمرقس، في أثناء إقامة بطرس في روما كتب روايةً عن أعمال الرب، لكن دون أن يعلنها جميعًا، ولا أن يشير إلى ما هو سري منها، وإنما انتقى منها ما اعتقد أنه الأبديُّ من أجل زيادة إيمان الذين يتلقَّون التعليم، لكن عندما استُشهد بطرس، قَدِم مرقس إلى الإسكندرية، جالبًا معه مذكراته الخاصة، ومذكرات بطرس التي نقل منها إلى كتابه السابق الأشياء المناسبة لكل ما يهدي إلى تحقيق التقدم نحو المعرفة (الغنوص)، بذلك ألَّف إنجيلًا أكثر روحيةً يستعمله الذين يسيرون في طريق الكمال، وهو مع ذلك لم يكشف النقاب عن الأشياء التي لا يجوز البوح بها، ولا هو دوَّن التعليم الباطني الذي علَّمه الرب، بل أشاف إلى القصص التي سبق وأنْ دوَّنت قصصًا أخرى. وهو، زيادة على ذلك، جاء بأقوال معيَّنة مما علم أن تأويلها سوف يفضي، وهو العليم بالأسرار، بالمستمعين إلى قُدس أقداس الحقيقة المستترة وراء حُجُبٍ سبعة. بذلك أعاد، على وجه الإجمال، أعاد ترتيب المسائل، لا عن حقد ولا عن غفلة، في نظري، وعندما مات ترك مؤلَّفه إلى كنيسة الإسكندرية، حيث كانت المحافظة عليه على أشدِّ ما تكون، بحيث لا يُتلى إلا على الذين يجري اطلاعهم على الأسرار العظمى، لكنْ بما أن العفاريت القذرة كانت دائمًا تعدُّ العُدَّة لدمار الجنس البشري، قام الكربوقراط، وهم الذين تعلَّموا منهم ممارسة فنون الخداع، استرقوا كاهنًا من كنيسة الإسكندرية حتى حصلوا منه على نسخة من الإنجيل السري، فأوَّلوه بما يتفق مع عقيدتهم المجدِّفة المبنية على شهوات الجسد، وأكثر من هذا لوَّثوه إذ خلطوا كلماتٍ مقدَّسةً لا شَوْب فيها بأكاذيب ليس فيها حياء.
بهذا يقرُّ إكليمنضوس إقرارًا صريحًا بوجود إنجيل سري وأصلي لمرقس، ثم يطلب من تيودورس إنكاره:
ماذا كان هذا الإنجيل السري الذي أمر إكليمنضوس تلميذه أن يتبرأ ويفسره الكربوقراط تفسيرًا فاسدًا؟
عن هذا السؤال يجيب إكليمنضوس جوابًا يتضمن نصَّ الإنجيل السري كلمةً كلمة:
لذلك، لن تردِّد في إجابتك عن الأسئلة التي سألتها، داحضًا للأكاذيب بواسطة نفس كلمات الإنجيل، فمثلًا بعد عبارة «وكانوا في الطريق ذاهبين إلى أورشليم»، وما يليها إلى قوله «بعد ثلاثة أيام سوف يقوم»، يورد الإنجيل السري المادة التالية: «ثم جاءوا إلى بيت عنيا، وكان هناك امرأةٌ مات أخوها، سجدت أمام يسوع قائلةً: «يا ابن داود ارحمني!» لكن التلاميذ وبَّخوها، مما أغضب يسوع الذي انطلق معها إلى البستان الذي يوجَد فيه القبر، ثم سُمعت صرخةٌ عاليةٌ من باب القبر. دنا يسوع من القبر، وأزاح الحجر عنه، ثم مدَّ يده، وانتشل الميت من القبر رافعًا إياه إلى أعلى. لكن الفتى، وهو ينظر إليه، أحبَّه، وراح يتوسل إليه أن يكون في صُحبته. وبعد أن خرجا من القبر دخلا منزل الفتى، وكان من الأغنياء. وبعد ستة أيامٍ أعلَمَه يسوع بما ينبغي عمله، وعند المساء جاء إليه الفتى، وقد لفَّ جسده العاري بقماشٍ من كتاب، وبات معه تلك الليلة؛ ذلك أن يسوع قد علَّمه سرَّ ملكوت الله. ومن ثَم نهض، وعاد إلى الضفة الأخرى من الأردن».
يُعقِّب على ذلك أصحاب «الدم المقدَّس والكأس المقدَّس» بالقول: لا تظهر هذه الحكاية في أيٍّ من روايات إنجيل مرقس الراهنة، لكنها في خطوطها العريضة مألوفةٌ تمامًا. هي، طبعًا، إقامة اليعازر الموصوفة في الإنجيل الرابع المنسوب إلى يوحنا، لكن في الرواية المقبوسة بعض تنويعاتٍ هامَّة؛ في المحلِّ الأول، هناك «صرخة عالية» صدرت عن القبر قبل أن يعمد يسوع إلى إزاحة الحجر، أو يأمر المدفون بالخروج، هذا يبين بوضوح أن المدفون لم يكُن ميتًا، وبذلك، وبضربةٍ واحدة، ينتفي عنصر المعجزة. في المحلِّ الثاني، يبدو أن هناك شيئًا ما حول اليعازر يحملنا على الاعتقاد أن هناك أكثر مما اشتملت عليه الروايات المقبولة عنه. بكل تأكيد، يشهد المقطع المقبوس لعلاقة خاصة بين الرجل المدفون في القبر، والرجل الذي «بعثه حيًّا»، ولعلَّ القارئ الحديث تحدِّثه نفسه أن يرى في ذلك شيئًا من المثليَّة. من الممكن أن يكون الكربوقراط — وهم يتطلعون إلى تجاوز الحواس بواسطة إشباع الحواس — قد ميَّزوا تحديدًا مثل هذه الإشارة، لكن البروفيسور سميث يخالف هذا الاحتمال؛ إذ يرى في ذلك تنسيبًا نموذجيًّا لمدرسة أسرارية موتًا وبعثًا طقسيَّيْن ورمزيَّيْن من النوع الذي كان سائدًا في الشرق الأوسط في ذلك الحين.
في الأحوال كلها، الشيء المهمُّ أن هذه القصة، والمقطع المقبوس أعلاه، لا يظهران في أيِّ ترجمة حديثة مقبولة لإنجيل مرقس. والحق أن الإشارات الوحيدة إلى اليعازر في «العهد الجديد» إنما جاءت في الإنجيل المنسوب إلى يوحنا. بذلك تتضح أسباب قبول نصيحة إكليمنضوس لتيودوروس وحده، وإنما نصيحة السُّلطات التي جاءت بعده. بكل بساطة حُذفت حادثة اليعازر برُمَّتها من إنجيل مرقس.
لئنْ كان إنجيل مرقس قد جرى تنقيحه على هذا النحو العنيف، لقد حمل أيضًا إضافاتٍ زائفة. في روايته الأصلية، ينتهي بالصَّلب والدَّفن والقبر الخاوي، ليس فيه مشهدٌ لقيامة ولا اجتماع مع التلاميذ. صحيحٌ أن هناك كتبًا مقدَّسة معيَّنة حديثة تحتوي على خاتمة لإنجيل مرقس أكثر تقليدية — خاتمة تتضمن «القيامة» — لكن فعليًّا، يتفق جميع علماء الكتاب المقدَّس الحديثين على أن هذه الخاتمة الممدودة إضافة متأخرة يرجع تاريخها إلى أواخر القرن الثاني، أُلحقت بالوثيقة الأصلية.
(٣) إنجيل لوقا
(٣-١) مَن هو لوقا؟
يتناقض لوقا مع نفسه في تعيين تاريخ صعود المسيح إلى السماء، بين الإنجيل المعروف باسمه وبين سِفر «أعمال الرُّسل» الذي يؤكد أنه هو كاتبه.
(٤) انجيل يوحنا
(٤-١) مَن هو يوحنا؟
وما يلفت في الإنجيل الرابع أيضًا غيابُ «تأسيس سرِّ القربان المقدَّس».
(٤-٢) هل كان يسوع متزوجًا؟
من رواية الإنجيل الرابع، يبدو لنا عُرس قانا حفلةً محليةً متواضعة، عُرسًا قرويًّا نموذجيًّا، يظلُّ فيها العروسان مجهولَين.
ثمة دليل آخر على أن عُرس قانا كان في واقع الأمر عُرس يسوع نفسه؛ فبعد حدوث المعجزة مباشرةً، ذاق وكيل المائدة الماء الذي صار خمرًا، ودعا العروس (= العريس)، وقال له: «جرت عادة الناس أن يقرِّبوا الخمرة الجيدة أولًا، حتى إذا أُخذ منهم الشراب قرَّبوا ما دونها في الجودة. أمَّا أنت فأخَّرت الخمرة الجيدة إلى الآن» (يوحنا ٢: ٩-١٠).
يبدو أن هذه الكلمات قد خُوطِب بها يسوع، لكن الإنجيل يقول إن العروس (= العريس) هو مَن خُوطِب بها، والنتيجة البيِّنة هي أن يسوع والعروس هما الشخص نفسه.