(٢) حالة الفِرَق والمذاهب المسيحية بعد خلقيدونية: المونوفيزية
تبيَّن معنا، فيما تقدَّم، أن الإشكالية الكبرى التي نشأت عنها المذاهب والفِرَق
المسيحية ترجع إلى تحديد ماهية العلاقة بين اللاهوت والناسوت في المسيح: هل هو
أقنوم واحد في طبيعتَين أم هو كينونة في أقنومَين؟
وبما أن الأقنوم هو ما يقوم في ذاته وبذاته مستقلًّا عن كل شيء سواه، فإن قول
النساطرة بأن المسيح ذو أقنومَين معناه اللاهوت والناسوت، اللذان اجتمعا في المسيح،
منفصلَين أحدهما عن الآخر انفصالًا تامًّا، ينتج عنه أن الذي صُلب ومات إنما هو
يسوع الإنسان لا يسوع ابن الله، وتاليًا إن الذي ولدته العذراء إنما هو أيضا يسوع
الإنسان، وإن السيدة العذراء ليست أمَّ الله، بل
أمُّ يسوع الإنسان.
في الطرف المقابل مما ذهب إليه النساطرة، قام مذهب المونوفيزية، وهم أصحاب
الطبيعة الواحدة في المسيح، وكأنه رجْعٌ معاكس على ما قال به الأوَّلون. ولعلَّ
أشدَّ غُلاة المونوفيزية أفتيخيس الذي ذهب إلى أن المسيح كان قبل التجسُّد ذا
طبيعتَين، لكنه بعد التجسُّد تلاشت الطبيعة البشرية أمام الطبيعة الإلهية، ولم يبقَ
غير هذه الأخيرة. وقد مرَّ معنا أن أفتيخيس قد كُفِّر، وحُرم.
على أن الذي ضبط المونوفيزية المعتدلة في سورية بصيغتها النهائية، كما أخذ بها
مَن عُرفوا باليعاقبة فيما بعد، هو سفيروس الأنطاكي الذي اعتلى سُدَّة بطريركية
أنطاكية ٥١٢م إلى ٥١٨م.
ويقوم مذهب الرجل على أن المسيح طبيعة واحدة أو أقنوم
واحد، وهو الكلمة الذي تجسَّد، لا ليصبح شيئًا آخر، بل ليكون موجودًا على وجهٍ
آخر.
١٢
•••
لا يمكننا القول إن الاختلافات المذهبية أو العقدية لم تكُن شعارًا لتطلعات قومية
كانت ترمي إلى الاستقلال عن هيمنة بيزنطة واللغة اليونانية على المسيحية المشرقية.
وقد اشتدَّت هذه الميول عندما تدخَّل الإمبراطور يوستيفانوس في المسائل اللاهوتية،
جاعلًا من نفسه حَكَمًا فيها، محاولًا التوفيق بين مقرَّرات مجمعَي أفسس
وخلقيدونية، لكن هذه المحاولات لم تنجح إلا في تنظيم كنيسة مونوفيزية في سورية
الغربية والفُراتية على رأسها يعقوب بن عداي؛ ومن هنا عُرف أتباعها باليعاقبة الذين
اعتمدوا السريانية لغةً لاهوتيةً وطقسيةً لكنيستهم. ومثل ذلك فعل المصريون، إذ
تمذهبوا بالمونوفيزية، واعتمدوا اللغة القبطية في طقوسهم.
١٣
(٢-١) ظهور هرطقة جديدة تتزامن مع ظهور الإسلام:
القول بالمشيئة الواحدة في المسيح
القول بالمشيئة الواحدة في المسيح إنما جاء من قِبَل بطريرك القسطنطينية
سرجيوس (٥٣١–٦٣٨م)، في محاولة منه لكسب ولاء المونوفيزية، أقباطًا ويعاقبة،
لبيزنطة التي كان يتهدَّد إمبراطوريتها العربُ من الجنوب والفُرسُ من الشرق.
وقد عُرف أتباع هذا المذهب ﺑ «المونوتيلية»، أو أصحاب المشيئة الواحدة، وكان
منهم الموارنة.
١٤ وهذا القول تؤدي إليه المونوفيزية، الطبيعة الواحدة، مثلما تؤدي
المقدِّمات إلى النتائج. لقي هذا القول مقاومةً من القدِّيس صفرونيوس، أسقف
أورشليم الذي سلَّم مفاتيح القُدْس إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب (رض).
فكتب سرجيوس إلى البابا هونوريوس (٦٢١–٦٣٨م) مبيِّنًا له ضرورة الأخذ بهذه
النظرة تجنُّبًا للفتنة التي كانت تذرُّ بقرنها في الجانب المشرقي من
الإمبراطورية. وافقه البابا على ما ذهب إليه، وتأسيسًا على هذه الموافقة، أصدر
الإمبراطور هرقل مرسومًا تضمَّن الصيغة التالية: «إنَّا نعترف بمشيئة واحدة في
ربنا يسوع المسيح الإله الحقيقي.»
١٥
وفي جواب البابا إلى سرجيوس جاء قوله: «إنَّا نعترف بمشيئة واحدة في ربنا
يسوع المسيح، لأنه واضح أن اللاهوت تولَّى ناسوته بكل ما فيه ما عدا الخطيئة.»
١٦ أيْ إن الناسوت يخضع للاهوت بمثل ما يخضع الجسد للنفس … لكن
البابوات الذين خلفوا هونوريوس ارتدُّوا عمَّا ذهب إليه؛ الأمر الذي أحدث
انشقاقًا بين بيزنطة والكنيسة الكاثوليكية بروما، انتهى إلى عقد مجمع مسكوني هو
الثالث في القسطنطينية بين ٦٨٠ و٦٨١م برعاية الإمبراطور قسطندس الرابع
(٦٦٨–٦٨٦م)، والبابا القدِّيس أغاثون (٦٧٨–٦٨١م)، وفيه تقرَّر وجوب الإيمان
«بأن في المسيح فعاليتَين طبيعيتَين، حقيقيتَين، بدون تقسيم، ولا استحالة، ولا
تفريق، ولا امتزاج، وهاتان المشيئتان الطبيعيتان الحقيقيتان، لا تضادُّ إحداهما
الأخرى» … بل «كلتا الطبيعتين في المسيح تعمل، بالاشتراك مع الأخرى، ما هو
خاصٌّ بها».
١٧