(١) التثليث في التاريخ
تميز الثقافة
الغربية بين مصطلحَين: Triade
وTrinité
رأينا أن نترجم الأول إلى ثُلاث (بضم الثاء) أو ثُلاثي، والثاني إلى ثالوث، وهذا
الأخير يختصُّ بالمسيحية، والثلاث أو الثلاثي يُراد به كل تكوين إلهي من ثلاثة آلهة
تتعبَّد له كل ديانة سوى المسيحية.
ويبدو أن التثليث قديم قِدَم التاريخ البشري، فقد كان السومريون يعبدون ثلاثة
آلهة ذكور هم
آن أو آنو (إله السماء)، وأنليل (إله الهواء)،
وأنكي (إله الماء)، ويضيفون إلى هذا الثلاثي
الإلهة ننخرساج (إلهة الأرض).١
وقد تعبَّد البابليُّون لثلاثي كوكبي وبشري في نفس الوقت، مؤلَّف من
الزهرة والشمس والقمر، ويقابله عشتار (إله الحب والخصب)، وشمش (إله
المعرفة والعدل)، ويعفسن، وهو القمر (إله القدرة والانبعاث الأبدي في جريانه
المنظم للزمان).٢
وكان المصريون يجمعون في ديانتهم الزوجَين
أوزيريس وإيزيس
وابنهما حورص.٣
ويقول روح الماء البدئي، المبدأ الإلهي، أو رأس الألوهة على حدِّ مصطلح المُعلِّم
إكهارت: «أصدرتُ عني الإلهين
شو وطفنوت، ومن كوني
واحدًا صرتُ ثلاثة؛ لقد انبثقا مني، وجاءا إلى الوجود على هذه الأرض …»
٤
وفي بعلبك، في العهد الروماني، تعبَّد السوريون إلى ثلاثي مؤلَّف من
جوبتير (المشتري)، وفينوس (الزهرة)، ومركوري (عطارد)،
ويقابله الثلاثي السوري المؤلَّف من
حَدَد وعشيرات
وشمش.٥
والهندوس تعبَّدوا أيضًا لثلاثي مؤلَّف من
براهما (الإله
المنتج أو الخالق)، وفشنو (الإله الحافظ)، وشيفا (إله التدبُّر
والتغيير)؛ أي الأوجه أو المظاهر الثلاثة لتجلي الوجود: المبدأ
والمكان والزمان.
٦
كذلك كان للصينيين ثلاثي مؤلَّف من
السماء والأرض
والإنسان، وللرومان
الثلاثي
الكابيتولي المؤلَّف من جوبتير ومنيرفا وأبولو، وتقابله الألوهيات
الإغريقية:
زيوس وآثينا وأبولو؛ أي
القدرة والحكمة والنظام والجمال.٧
مما تقدَّم نخلص إلى القول بأن الثلاثي ظاهرة عالمية لم تكَد تخلو منه أمةٌ من
الأمم؛ الأمر الذي يحملنا على تفسير هذا الإجماع، متسائلين إن كان ناتجًا عن نقل أو
تقليد أو محاكاة، كما قد يذهب إلى ذلك مؤرخ يفسر اللاحق بالسابق، أم هو ناتج عن
«رسيمة» Schéma نُقشت في أعماق الإنسان، كائنًا ما
كان عرقه أو لونه أو مكانه؟ إن هذا ما سوف نراه.
ثم إن الثلاثيات نعود لكي نجدها في العديد من النظريات الأدبية أو الفلسفية
(أفلاطونية حديثة، هيغلية … إلخ.) إنها تمثل مفهومات جدلية للوجود متحركًا.
٨
(٢) التثليث المسيحي أو الثالوث
في مواجهة ثواليث لا حصر لها مما نجده في الأنظمة الدينية والفلسفية، يتميز
الثالوث المسيحي بأنه أكثرها جرأةً في مفهومه عن الإله الواحد، الحي، الشخصي، وعن
حياته الداخلية، بدون المسِّ بوحدة الجوهر والوجود. فيه نميز ثلاثة أشخاص أو
أقانيم: الآب والابن والروح القُدُس. الثاني ينبثق من الأول، والثالث من الاثنين الأولَين،
٩ والثلاثة متساوون وغير منقسمين في طبيعتهم الواحدة، رغم أنهم في
أعمالهم وفي الارتفاع إلى الصعيد فوق الطبيعي لا يعملون إلا في وحدة، إلا أن أعمال
القدرة تُنسب إلى الآب على وجه الخصوص، وأعمال المعرفة إلى الابن أو الكلمة، وأعمال
الحبِّ إلى الروح القُدُس.
١٠
لم يظهر مصطلح «الثالوث» في الأدب المسيحي إلا في القرن الثاني، لكن الثالوث
يتكشَّف تدريجيًّا في «العهد القديم» حتى يظهر متوهجًا في «العهد الجديد»، حيث
كثيرًا ما يتردَّد الكلام على علاقات الآب والابن والروح القُدُس. ثم إن وجود هذه
الأقانيم غير مثبت نظريًّا وتعليميًّا، بل على نحو ملموس كحقيقة مسلَّمة لا تقبل النقاش.
١١
(٣) لكن، لماذا ثلاثة؟
عن هذا السؤال يجيبنا فلادمير لوسكي، صاحب «اللاهوت المستطيقي»، بالقول إنه إذا
كان المبدأ الذي يحكم الخلق هو التغير، العبور من العدم إلى الوجود، وإذا كان الخلق
حادثًا بطبيعته، فالثالوث هو الاستقرار أو الثبات المطلق.
١٢
على هذا، فإن الثالوث يمثل الاستقرار في وجه التغير، والقِدَم في وجه الحَدَث.
يقول القديس غريغوريوس النازينزي:
«الأُحاد متحرك بفضل ما فيه من ثراء، والمثْنى مُتجاوَز (بضم الميم وفتح الواو)،
لأن الألوهية فوق المادة والصورة، والثُّلاث ينغلق في الكمال، لأنه الأول الذي
يتجاوز المثْنى. بذلك لا تبقى الألوهية في المضيق، ولا تنتشر بلا حد. الأول من شأنه
أن يكون بلا عزة، والثاني ضدَّ النظام. الأول من شأنه أن يكون يهوديًّا، والثاني
كلينيًّا ومتعدد الآلهة.»
١٣
يعقِّب لوسكي على تفصيل النازينزي بالقول إننا نستشفُّ هنا سرَّ العدد ثلاثة؛
ليست الألوهية وحدة ولا كثرة، فكمالها يتجاوز الكثرة التي يرجع أصلها إلى الثنائية
(فلْنتذكر مثاني الغنوصيِّين التي لا تنتهي، أو ثنائية الأفلاطونيين)، وتعبِّر عن
نفسها في الثالوث. جملة «تعبِّر عن نفسها» غير مناسبة، لأن الألوهية لا حاجة لها
لأن تُظهر كمالها لنفسها ولا لغيرها، إنها هي الثالوث الذي لا يُستنتج من مبدأ، ولا
يفسِّره سببٌ كافٍ، لأنه ليس هناك مبادئ ولا أسباب سابقة على الثالوث.
١٤
«الثالوث — يقول النازينزي — كلمة توحِّد الأشياء الموحَّدة بطبيعتها، ولا تدع ما
لا ينفصل أن يَفْرقَه عدد فارق». يقول لوسكي تعقيبًا: ثلاثة هو العدد الذي يتجاوز
الفارق؛ الواحد والمتكثِّر يجدان نفسيهما مجتمعَين في نطاق الثالوث.
١٥
يقول النازينزي: «عندما أقول الله، فإنما أقول الآب والابن والروح القُدُس، لا
بمعنى أنني أفترض ألوهية منتشرة، لأن من شأن هذا أن يعيدنا إلى فوضى الآلهة
المزيفة، ولا بمعنى أن الألوهية تجتمع في إله واحد، لأن من شأن هذا أن يفقرها، ثم
إنني لا أريد لها التهويد بحسب الهيمنة الإلهية، ولا الهلْينة بسبب الكثرة الإلهية.»
١٦
يتابع لوسكي شارحًا مفهوم النازينزي الذي لا يسعى إلى تبرير ثالوث الأقانيم أمام
العقل البشري، بل يجعلنا نرى عدم ملاءمة عدد آخر سوى العدد ثلاثة، لكننا قد نتساءل
إذا كانت فكرة العدد تنطبق على الله دون أن نُخضع الألوهية إلى تحديد خارجي، إلى
صورةٍ هي من خواصِّ فهمنا، صورة العدد ثلاثة؟ عن هذا الافتراض يجيب القدِّيس
باسيليوس: «نحن لا نعد عندما نقول ثلاثة، ذاهبين من الواحد إلى المتعدد بإضافة عدد
إلى آخر، قائلين: واحد، اثنان، ثلاثة. أو نقول: الأول، الثاني، الثالث (لأني أنا
الله الأول، وأنا أكثر من ذلك، أشعيا ٦: ٤٤).»
١٧ لم يقُل أحدٌ حتى يومنا هذا: الإله الثاني. لكننا، ونحن نعبد إله الإله
Le Diev de Dieu، مُقرِّين بفردية الأقانيم من
غير تقسيم الطبيعة إلى كثرة، نظلُّ في الهيمنة
Monarchie. بعبارة أخرى، إن الأمر لا يتعلق هنا
بالعدد المادي الذي يفيدنا في الحساب، ولا يُطبَّق أبدًا في المجال الروحي، حيث لا
وجود لتكاثر كَمِّي. بصفة خاصة عندما يتعلق الأمر بالأقانيم الإلهية المتحدة بصورة
لا انقسام لها، التي لا يشكل اجتماعها إلا وحدة (٣ = ١)، العدد ثلاثة ليس كميةً كما
نفهم ذلك في العادة: يعبِّر عن النظام الفائق الوصف في الألوهية.
١٨
يتميز الثالوث المسيحي عن ثُلاثي أفلوطينوس مؤسِّس الأفلاطونية الحديثة، في أن
هذا الأخير ينطوي على ثلاثة أقانيم هي الواحد والعقل ونفس العالم، وهي أيضًا
كالأقانيم المسيحية، تشترك في الجوهر الواحد. لكن هذا الاشتراك الجوهري لا يرقى إلى
الثالوث المسيحي، فثلاثي أفلوطينوس يتبدَّى تسلسلًا رتبويًّا متناقضًا، ويتحقق بفضل
جريان غير منقطع للأقانيم التي يمرُّ أحدها في الآخر، وينعكس بعضها في الآخر
بالتبادل. وهذا يُظهر لنا مبلغ خطأ منهج المؤرخين الذين يبغون التعبير عن فكر آباء
الكنيسة في تفسيرهم للمصطلحات المستخدمة في الفلسفة الهلينية. الوحي يحفر فجوةً بين
الحقيقة التي يعلنها والحقائق التي قد يوجدها التأمل الفلسفي. إذا استطاع الفكر
البشري الذي ترشده فطرة الحقيقة، التي هي الإيمان الذي لم يزَل مضطربًا وغير مستقر،
إذا استطاع، خارج المسيحية، أن يصل بالتلمُّس إلى أفكار تقرِّبه من الثالوث، يظلُّ
سرُّ الله — الثالوث — بالنسبة إليه لا يقبل الاختراق. إن هذا يقتضي منه «تغييرًا
روحيًّا»، الذي يعني أيضًا ندمًا كندم أيوب الذي ألغى نفسه وجهًا لوجهٍ أمام الله:
«بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني، لذلك أرفض، وأندم
في التراب والرماد» (أيوب ٤٢: ٥-٦). إن سرَّ
الثالوث لا يُبلغ إلا بالجهل الذي يرتفع إلى ما فوق كل ما يمكن أن تتضمنه مفاهيم
الفلاسفة. ومع ذلك، فهذا الجهل ليس علمًا وحسب، إنما هو أيضًا محبة، يعود إلى
النزول صوب المفاهيم بُغيةَ إعادة صياغتها، وتغيُّر تعبيرات الحكمة الإنسانية
بأدوات حكمة الله التي هي الحمق في نظر الإغريق.
١٩
لقد اقتضى جهودًا تفُوق طاقة البشر، لكي يتصدَّى لاهوتيُّون كبار من أمثال
أثناسيوس السكندري وباسيليوس وغريغوريوس النازينزي وآخرين سواهم من أجل تنقية
(اللاهوت) من مفاهيم الفكِّ الهليني، وكسر حواجزها الضعيفة باعتماد الأبوفاتية
٢٠ المسيحية التي حولت التفكير الراسيوناتي إلى التأمل في سرِّ الثالوث.
كان الأمر يتعلق بإيجاد تمييز المصطلحات التي تعبِّر عن الوحدة والتنوع في الألوهية
بدون السابليانية ولا إلى الثلاثيانية الوثنية.
٢١
الآب غير مولود، لكن الابن مولود؛ أمَّا الروح القُدُس فمنبثقٌ من الآب (وليس من
الآب والابن كما تقول الكنيسة الكاثوليكية).
٢٢ هذا ما يُفهم من قول النازينزي: «غير مولود، مولود، منبثق … هذه هي
سمات الآب والابن وما يُسمَّى الروح القُدُس. بحيث تُبقي على التمييز بين الأقانيم
الثلاثة في الطبيعة الواحدة وجلال الألوهية. ذلك لأن الابن ليس هو الآب، بما أنه
ليس هناك سوى أبٍ واحد، لكنه هو ما يكون الآب. والروح القُدُس، رغم أنه ينبثق من
الله، ليس هو الابن، بما أنه ليس هناك سوى ابنٍ وحيد، لكنه هو ما يكون الابن. واحدٌ
هُم الثلاثة في الألوهية، والواحد هو ثلاثة الشخصيات. بهذا نتجنب الواحدية
السابليانية والثُّلاثية التي طلعت بها الهرطقة الغربية الحالية (الأريونية).»
٢٣
يعقد لوسكي، صاحب «اللاهوت المستطيقي»، مقارنةً بين الأشخاص البشرية والأقانيم
الإلهية، مستعينًا بالقدِّيس الدمشقي، فيقول: عندما نقول: «هذا من عمل موزارت» أو
«هذا من عمل رمبرانت»، نجد أنفسنا في كل مرةٍ في عالم شخص ليس له معادل في أيِّ
مكان. لكن، مع ذلك «الأشخاص أو الأقانيم البشرية معزولة»، وعلى حدِّ قول الدمشقي،
«ليس أحدهم في الآخر»، على حين أنه «في الثالوث الأقدس، على العكس … الأقانيم يكون
أحدها في الآخر». أعمال الأشخاص البشرية متمايزة، أمَّا أعمال الأشخاص الإلهية
فليست كذلك، باعتبار أن «الثلاثة ليس لهم سوى طبيعة واحدة، فليس لهم سوى إرادة
واحدة، وقدرة واحدة، وعملية واحدة. الأشخاص الإلهية — يقول القدِّيس السوري —
متَّحدُون، لا لكي يختلطوا فيما بينهم، بل لكي يندرج أحدهم في الآخر، في غير امتزاج
ولا اختلاط، وبفضل ذلك يكونون غير منفصلين ولا منقسمين في الجوهر، خلافًا للهرطقة
الأريوسية. بكلمة واحدة، إن الألوهية غير مقسمة على الأفراد، بمقدار ما يوجد في
ثلاث شموس، يحتوي كلٌّ منها الأخرى، نورٌ وحيدٌ بفعل التسارُب الجوَّاني».
«كلٌّ من الأشخاص يحتوي الواحدية، الطبيعة الواحدة، على النحو الذي يناسبه»،
والذي فيما هو متمايز عن الشخصَين الآخرَين، يستحضر في نفس الوقت الصلة غير القابلة
للانفصال التي توحِّد الثلاثة.
«اللامولودية والبنوَّة والانبثاق … هي الخواصُّ الأقنومية الوحيدة المنقسمة
بطريقة لا انقسام لها، المنقسمة، لا بالجوهر، بل بالسمة التي تخصُّ أقنوم كلٍّ
منها». يقول قدِّيس دمشق: «واحد في كل الأشياء، هُم الآب والابن والروح القُدُس،
فيما عدا اللامولودية والبنوَّة والانبثاق.»
٢٤
في عرضه لعقيدة التثليث، غالبًا ما كان الفكر الغربي ينطلق من الطبيعة الواحدة،
لكي ينظر بعد ذلك في الأشخاص الثلاثة، بينما يتبع الشرقيون الطريق المعاكس؛ من
الأشخاص الثلاثة إلى الطبيعة الواحدة. يفضِّل القدِّيس باسيليوس الطريق الأخير،
متخذًا من المحسوس نقطة انطلاق، وفقًا للفصول المقدَّسة ولصيغة المعمودية التي تبدأ
بالآب والابن والروح القُدُس. لا يخاطر الفكر أن يتيه حين يبدأ النظر في الأشخاص
الثلاثة، وينتهي إلى الطبيعة المشتركة. مع ذلك فالطريقان مشروعان، ما داما لا
يفترضان في الحالة الأولى تفوق الجوهر الواحد على الأشخاص الثلاثة، وفي الحالة
الثانية تفوق الأشخاص الثلاثة على الطبيعة المشتركة.
٢٥
•••
لكنْ قد يتساءل المرء لماذا ينطق المسيحي بأسماء أشخاص الثالوث مرتَّبةً على هذا
النحو: الآب والابن والروح القُدُس، ولا يرتبها، مثلًا، على نحو آخر، كأن يقول
الابن والروح القُدُس والآب أو أي ترتيب آخر محتمل؟
عن هذا السؤال يجيبنا القديس السوري: «للآب الوجود بذاته، ولا يستمدُّ شيئًا مما
لديه من آخر سواه. على العكس، هو الينبوع والمبدأ للكل مما له طبيعة وطريقة وجود …
وتاليًا كل ما للابن والروح ووجودهما نفسه، إنما هو مستمَدٌّ من الآب. إن لم يكُن
الآب موجودًا، فلا وجود للابن ولا للروح. وأنه لبفضل الآب كان للابن والروح كل ما
لديهما … عندما نرى في الله العلة الأولى، الهيمنة، فإنما نرى الوحدة، لكنْ عندما
ننظر فيما يكون في الألوهية، أو بالأحرى، في ماهية الألوهية نفسها، أو الشخصَين
اللذَين ينبعثان من العلة الأولى؛ أيْ أقنومَي الابن والروح، عندئذٍ نعبد الثلاثة.»
٢٦
(٤) ثالوث أم رابوع؟
من خلال الأحلام التي شهدها المرضى الذين عالجهم يونغ وجد الرابوع، لا الثالوث،
هو الرمز المستقر في أعماق الإنسان الذي يمثل الألوهية. والأحلام، وهي الطبيعة، لا
يمكن أن تنحاز إلى عقيدة، بسببٍ من عفويتها وعدم الإرادة البشرية فيها. لكن
الإنسان، تاريخيًّا، وربما كان ذلك قبل المسيحية حتى، جعل من الرابوع ثالوثًا لكي
يرمز إلى الألوهية عن تجلياتها، أو عن مخلوقاتها.
٢٧
الطبيعة تقول إن الألوهية رباعية، والكنيسة تقول ثلاثية، فما هي أسباب هذا
الاختلاف؟ يجيب يونغ أنه لا يستطيع إلا أن يلفت الانتباه إلى حقيقة هامَّة: بينما
يحتلُّ الثالوث موقعًا مركزيًّا في المسيحية، تأتي صيغة الخافية على هيئة «رابوع».
والحقيقة أن الصيغة المسيحية ليست بالصيغة المكتملة تمامًا، لأن الجانب الدغماطيقي
من مبدأ الشر غائب عن الثالوث، من حيث أن الرابوع يفضي إلى وجود يبعث على شيء من
الارتباك، لأن الرابع هو الشيطان.
٢٨
خلافًا للدغماطيقا — يقول يونغ — لا يوجد ثلاثة أوجه للألوهية، بل أربعة، لذلك
كان بالإمكان أن يُوصَم الرابوع من منطلق صحيح تقليديًّا بأنه «خدعة من الشيطان»،
وأكبر دليل على ذلك تمثُّل الوجه الرابع بالجانب المرفوض من الكون النفسي.
وما أحسب الكنيسة إلا مُحبِطة «كل محاولة جادة للوصول إلى مثل هذه النتائج، بل ما
أحسبها إلا شاجبة كل اقتراب من هذه الاختبارات، ما دامت لا تستطيع التسليم بأن
الطبيعة تجمع ما قد فرقته الكنيسة».
٢٩
(٥) محاولات تفسير
خلافًا لما جاء في سفر التكوين من كتاب «العهد القديم»، حيث نجد أن الكلمة التي
نطق بها الله، وكان بها ابتداء الخلق وختامه، وهي كلمة «ليكن» (تكوين ١: ١–٣١)،
يذهب ميخائيل نعيمة إلى أن الكلمة التي نطق بها الله تعالى، وبها خلق الخلق، هي
كلمة «أنا»، التي عبَّر بها عن ذاته، ولولا أنه عبَّر عن ذاته لبقي وكأنه غير
موجود، وحسبه تعبيرًا عن ذاته أن يقول لذاته «أنا»، فكلمة «أنا» هي الكلمة
الخلَّاقة التي بها كان كل شيء، وبغيرها لم يكُن أيُّ شيء، وهي التي كانت «في
البدء» وكانت «لدى الله»، بل كانت هي الله.
٣٠
ثم يمضي نعيمة لكي يبيِّن كيف نشأ الثالوث من الكلمة فيقول: الكلمة كيان عجيب
يقوم على ثلاث دعامات عجيبة هي: المتكلم، فالحرف، فالمعنى. فالمتكلم لا وجود له
لولا الكلمة، والكلمة لا قيمة لها لولا المعنى، إذَن:
المتكلم، فالكلمة، فالمعنى.
الله، فالكون، فمعنى الكون.
الروح، فالمادة.
فالقصد من تزاوجهما ذلك هو الثالوث الذي لا ينقسم، ولا ينفصل. أولئك هُم الآب
والابن والروح القُدُس. ولأن الروح القُدُس هو الروح الذي يكشف معنى «الكلمة» — أيْ
إنه يجعلها مفهومة — فمن الصواب كذلك أن ندعوه «روح الفهم المقدَّس».
٣١
(٦) التوحيد والتثليث بين الظاهر والباطن
العقيدة المسيحية عقيدة مُعَدَّة لنخبة روحية، وليست مُعَدَّة لعامة الناس، فهي
عقيدة أرستقراطية بامتياز، وهذا ما أوجب إنشاء الكهنوت الذي يبلغ المؤمنين الأسرار
التي انطوت عليها هذه العقيدة المعقدة. فالمسيحية هي، في الأصل، ديانة باطنية
اضطرتها ظروف معيَّنة، تاريخية أو ميتافيزيقية، لكي تعلن نفسها ديانةً ظاهريةً تدعو
العامة إلى اعتناقها. بهذا الصدد ننقل عن المستعرب السويسري، ف. شيئون، تناوله لهذا
الموضوع الدقيق:
المسيحية لا تتصف أبدًا بالصفات الطبيعية أو المعهودة التي تتصف بها ظاهرية قامت
على هذا الأساس، بل تطرح نفسها على أساس أنها ظاهرية «واقع» لا ظاهرية «مبدأ». ثم
إن هذه الصفة الباطنية، من ناحية ثانية، هي الصفة التي نجدها دائمًا في دلالات
معيَّنة ذات أهمية من الدرجة الأولى، حتى بدون أن نرجع من أجل ذلك إلى فِقَر
معيَّنة من الكتاب المقدَّس، من ذلك مثلًا عقيدة التثليث، وسرُّ الأفخارستيا، ولا
سيما استعمال النبيذ في هذا الطقس، وكذلك في مصطلحات باطنية صِرْفة من مثل «ابن
الله»، ولا سيما مصطلح «أم الله».
لئن كانت الظاهرية هي «ما لا غنى عنه لجميع الناس، وما هو في متناولهم جميعًا في
نفس الوقت وبدون ما تمييز» (كما يقول رينه غينون أو عبد الواحد يحيى)، لئن كانت
الظاهرية كذلك، يتعذَّر على المسيحية أن تكون ظاهريةً بالمعنى المألوف للكلمة، من
حيث أنها تفرض نفسها على الجميع في الواقع، بحكم تطبيقها الديني، وإن امتناع
العقائد المسيحية الظاهرية عن تناول الجميع هو ما نعبِّر عنه عندما نصفها ﺑ
«الأسرار»، وهي كلمة لا تتضمن معنًى إيجابيًّا إلا على الصعيد الباطني الذي ترتدُّ
إليه، لكننا عندما نطبقها على الصعيد الديني تبدو وكأنها تبتغي أن تبرر، أو تحجب،
عدم انطواء الدغماطيقا المسيحية على أيِّ بداهة عقلية مباشرة، إن كان لنا أن نعبِّر
كذلك. فمثلًا، «الوحدة الإلهية» بداهة مباشرة، وهي — بالتالي — قابلة للصياغة
الظاهرية أو الدغماطيقية، لأن هذه البداهة، في أبسط تعبير لها، هي في متناول كل
إنسان ذي عقل سليم. أمَّا «التثليث»، من حيث انطواؤه على وجهة نظر أكثر تمايزًا،
ومن حيث تمثيله لتطور خاص في عقيدة التوحيد في جملة تطورات أخرى محتمَلة هي أيضًا،
فغير قابل للصياغة الظاهرية بالمعنى الدقيق للكلمة، لا لشيء إلا لأن أيَّ مفهوم
ميتافيزيقي يتصف بالتمايز أو الاشتقاق هو مفهوم لا يقع في متناول الجميع. من ناحية
ثانية، ينطبق «التثليث» اضطرارًا على وجهة نظر أكثر من وجهة نظر «الوحدة»، بمقدار
ما يشكِّل «الغداء» حقيقةً أكثر نسبيةً من حقيقة «الخلق».
ما من إنسان ذي عقل سليم إلا ويستطيع أن يفهم الوحدة الإلهية، على هذه الدرجة أو
تلك، من حيث أن هذه الوحدة هي المظهر الأشمل والأبسط من الألوهية.
أمَّا «التثليث» فلا يفهمه إلا مَن يستطيع أن يفهم الألوهية، بما هي وحدة، وفي
نفس الوقت في المظاهر الأخرى المتفاوتة في درجة نسبيتها، أيْ مَن يستطيع التوغل على
نحوٍ ما في البُعد الميتافيزيقي عن طريق مساهمة روحية في العقل الإلهي، لكن هذه
إمكانية بعيدة جدًّا عن متناول جميع الناس، على الأقل في الوضع الحالي للبشرية
الأرضية، وعندما قال القدِّيس أوغسطين إن «التثليث» غير مفهوم، كان يعبِّر اضطرارًا
— بسبب عادات العالم الروماني — عن وجهة نظر عقلانية هي وجهة نظر الفرد التي لو
طبقناها على الحقائق المباينة لما أثمرت غير الجهل. في ضوء العقل المحض، ليس أبدًا
غير مفهوم إلا بلا حقيقة له، أي العدم الذي يتواحد بالمستحيل الذي يتعذَّر أن يكون
موضوعًا لأيِّ فهمٍ من أيِّ نوع، بما هو لا شيء.
٣٢
بعد هذا، يأتي ف. شيئون لكي يضع انتشار الإسلام في موقعه التاريخي والميتافيزيقي
بُغيةَ الخروج من البلبلة العقدية والتفرعات المذهبية التي سببتها المسيحية، فيقول:
نضيف أن ما اتصفت به الدغماطيقا المسيحية من صفة باطنية، وما اشتملت عليه من أسرار،
كان هو السبب العميق وراء الرجْع (= رد الفعل) الإسلامي على المسيحية. فباعتبار أن
هذه قد خلطت الحقيقة (الباطن) بالشريعة (الظاهر)، انطوت على مخاطر معيَّنة أدَّت
إلى خلل في توازن «الحقيقة» على مدى القرون، وأسهمت بصورة غير مباشرة في الخراب
الرهيب الذي عليه عالمنا اليوم، وفقًا لقول المسيح: «لا تطرحوا للكلاب ما هو قُدسي،
ولا تلقوا بدرركم قدَّام الخنازير لئلَّا تدوسها بأقدامها، وترتدَّ إليكم، وتمزقكم!»
٣٣
•••
في معرض تسويغه لاختلاف الأديان فيما بينها، بسبب انقسام البشرية الواحدة إلى
«بشريات»، وهو ما نجم عنه ابتعادها عن التقليد البدْئي، يذهب ف. شيئون إلى أن
العناية الإلهية دأبت على عدم قبول الاختلاط فيما بين صور الوحي، ويضرب على ذلك
مثالًا عدم استيعاب الإسلام لعقيدة التثليث، فيقول إن عدم الاستيعاب هذا لهُو من
طبيعة ربَّانية، لأن التعليم الذي تنطوي عليه عقيدة التثليث لهُو تعليم باطني
جوهريًّا وحصريًّا، ولا يقبل أبدًا أن يصير تعليمًا ظاهريًّا بالمعنى المخصوص
للكلمة. ولقد كان على الإسلام أن يحدَّ من انتشار هذه العقيدة، لكن هذا ليس من شأنه
أن يمنع من أن تكون هذه العقيدة ماثلةً في الإسلام نفسه.
٣٤
ولعلَّه من غير المفيد، من جهة أخرى، أن نبيَّن ها هنا أن تأليه عيسى ومريم، الذي
ينسبه القرآن بصورة غير مباشرة إلى النصارى، يفسح في المجال أمام تثليث لا يواحده
هذا الكتاب، مع ذلك، بالتثليث الذي تعلمه النصرانية، رغم أنه لا يقلُّ عنه اعتمادًا
على الوقائع، فهناك أولًا مفهوم «أم الله»، وهو تعليم غير ظاهري يتعذَّر عليه، بما
هو كذلك، أن يجد له مكانًا في المنظور الديني الإسلامي. وهناك ثانيًا «الماريانية»
التي يرفضها الإسلام، بما هي اغتصاب جزئي لحقِّ الله في العبادة. ثم هناك أخيرًا
«الوثنية المريمية» التي كان يدين بها بعض الفِرَق في «الشرق»، وكان على الإسلام أن
يحاربها حربًا تشتدُّ عنفًا كلما دَنَت قربًا من الوثنية العربية.
٣٥
يتابع ف. شيئون مشيرًا إلى أن الغنوصيِّين كانوا يفهمون الروح القُدُس على أنه
«الأم الإلهية»، لكن هذا لا يعدو كونه إكسابًا لهذا المعنى صفة الظاهرية، أو
تحريفًا له، من أجله تعرَّض للتقريع كلٌّ من النصارى الحقيقيين والهراطقة من
«عَبَدة» العذراء على حدٍّ سواء. ومن وجهة نظر أخرى، لعلَّنا نستطيع القول — وإن
وجود الهراطقة المذكورين شاهد على ذلك — إن التثليث القرآني ينطبق أساسًا على ما
آلت إليه المعتقدات المسيحية نتيجةً لتكييف غير صحيح كان لا بدَّ للعرب أن يقعوا
فيه، لأن هذه المعتقدات لم تكُن مُعَدَّةً من أجلهم.
٣٦
(٧) التثليث في الفكر الإسلامي
لم يفُت ابن عربي، وهو الذي ينظر إلى الأديان جميعًا باعتبار كلٍّ منها مجلًى من
مجالي الحقيقة الدينية الواحدة؛ أن يرى في الإسلام انطواءه على التثليث، منطلقًا من
قوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ
أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (النحل ١٦: ٤٠).
فيقول: «وهذه ذاتٌ ذاتُ إرادة وقول، فلولا هذه الذات وإرادتها، وهي نسبة التوجه
بالتخصيص لتكوين أمر ما.» ثم لولا قوله عند هذا التوجه «كُن» لذلك الشيء، ما كان
ذلك الشيء. إذَن، يقوم الخلق على ثلاثة أركان: ذات الخالق، توجه إرادته نحو الخلق،
وقوله للشيء المُراد خلقه: كُن. ثم إن هذا التثليث لا يقتصر على الخالق، بل يمتدُّ
أثره إلى الشيء المخلوق، فيقول: «ثم ظهرت الفردية الثُّلاثية أيضًا في ذلك الشيء،
وبها، من جهةٍ، صحَّ تكوينه واتصافه بالوجود، وهي شيئية (ذاته) وسماعه وامتثاله أمر
مُكوِّنه بالإيجاد. فقابل ثلاثةً بثلاثة: ذاته الثابتة في حال عدمها في موازنة ذات
موجودها، وسماعه في موازنة إرادة مُوجِده، وقبوله بالامتثال لما أمر به من التكوين
في موازنة قوله: كُن.»
٣٧
وفي «الفتوحات المكية» يقول الشيخ الأكبر: «اعلم أن الأحد لا يكون عنه شيءٌ
البتة، وأن أول الأعداد إنما هو الاثنان، ولا يكون عن الاثنين شيء أصلًا ما لم يكُن
ثالثٌ يزوجهما، ويربط بعضهما ببعض، ويكون هو الجامع لهما، فحينئذٍ يتكون عنهما ما
يتكون بحسب ما يكون هذان الاثنان عليه، إمَّا أن يكونا من الأسماء الإلهية، وإمَّا
من الأكوان المعنوية أو المحسوسة، أيَّ شيء كان، فلا بدَّ أن يكون الأمر على ما
ذكرناه، وهذا هو حكم الاسم الفرد. فالثلاثة أول الأفراد، وعن هذا الاسم ظهر ما ظهر
من أعيان الممكنات، فما وُجد ممكنٌ من واحد، وإنما وُجد من جمع، وأقلُّ الجمع
ثلاثة، وهو الفرد، فافتقر كل ممكن إلى الاسم الفرد. ثم إنه لمَّا كان الاسم الفرد
مثلث الحكم أعطى في الممكن الذي يوجد ثلاثة أمور لا بدَّ أن يفيدها، وحينئذٍ يوجده.
ولمَّا كان الغاية في المجموع الثلاثة، التي هي أول الأفراد، وهو أقل الجمع، وحصل
بها المقصود، والغني عن إضافة رابع إليها، كان غاية قول المشرك: الثلاثة، فقال إن
الله تعالى ثالث ثلاثة، ولم يزد على ذلك.»
٣٨
وفي مكان آخر من الفتوحات يبين الشيخ الأكبر أن النصارى «يرجى لهم التخلص لما في
التثليث من الفردية»: «وأمَّا أهل التثليث، فيُرجى لهم التخلص لما في التثليث من
الفردية، لأن الفرد من نعوت الواحد، فهم موحِّدون توحيدَ تركيب، فيُرجى أن تعمَّهم
الرحمة المركَّبة، ولهذا سُمُّوا كُفَّارًا، لأنهم ستروا الثاني بالثالث، فصار
الثاني بالثالث بين الواحد والثالث كالبرزخ، فربما لَحِقَ أهلُ التثليث بالموحدين
في حضرة الفردانية لا في حضرة الوحدانية. وهكذا رأيناه في الكشف المعنوي، لم نقدِر
أن نميِّز بين الموحِّدين وأهل التثليث إلا بحضرة الفردانية، فإني ما رأيت لهم
ظلًّا في الوحدانية، فعلمتُ الفَرق بين الطائفتَين.»
٣٩
وفي مكان آخر، في «ذخائر الأعلاق»، يعود ابن عربي إلى هذا الموضوع، فيقارن بين
العقيدة المسيحية في الأقانيم الثلاثة داخل وحدة الذات، وبين ما ورد في القرآن من
ثلاثة أسماء جوهرية أمَّهات يوصَف بها الله وهي: الله، الرب، الرحمن … ولكن المقصود
إله واحد. قال ابن عربي في «ذخائر الأعلاق» (ص٤٢-٤٣):
تَثَلَّثَ محبوبي، وقَدْ كانَ
واحدًا
كما صيَّروا الأقنامَ بالذَّاتِ
أَقنُما
يقول: «العدد لا يولد كثرةً في العين كما
تقول النصارى في الأقانيم الثلاثة، ثم تقول الإله واحد، كما تقول باسم الآب والابن
وروح القُدُس: إله واحد. وفي شرعنا المُنزَل علينا قوله تعالى:
قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (الإسراء: ١١٠)؛ فوحِّد.» وتتبعنا القرآن
العزيز فوجدناه يدور على ثلاثة أسماء أمَّهات إليها تُضاف القصص والأمور المذكورة
بعدها، وهي الله والربُّ والرحمن. ومعلومٌ أن المُراد إله واحد، وباقي الأسماء
أُجرِيَت مجرى النعوت لهذه الأسماء، ولا سيما الاسم: الله.
٤٠
•••
في القرن التاسع عشر كتب الصوفي الفارسي هاتف أصفهاني، يمتدح المسيحية بما هي
توكيد للوحدة الإلهية شرطَ أن تفهم عقيدتها المثلثة على معناها
الميتافيزيقي:
في الكنيسةِ قلتُ لنصرانيَّةٍ تسحر القلوب،
أنتِ يا مَن أوقعتِ قلبي في إسار حُبِّك،
أنتِ يا مَن كلُّ شَعرةٍ مني مجدوَلةٌ بجعل حزامك.
إلى متى تظلِّين وأنتِ لا تجدين الطريقَ إلى الله الواحد؟
إلى متى تخلعين على الواحدِ عارَ التثليث؟
كيف يصحُّ أنْ تُسمِّي اللهَ الواحدَ
أبًا وابنًا وروحَ قُدُس؟
افترَّ ثغرُها عن ابتسامة عذبة أراقت ذَوْب سُكَّر عن شفتَيها، وقالت:
لو عرفتَ سرَّ الوَحدةِ الإلهيَّةِ لم تَرْمِنا بوصمةِ
الكُفر!
في ثلاثِ مرايا أرسَلَ الجمالُ الأزليُّ شُعاعًا من
بَهاءِ طَلْعته …
الحريرُ لا يصيرُ ثلاثةَ أشياء،
إنْ أنتَ سمَّيتَه برنيان وإبرتسم وبارند،
وإنَّا لَكذلك، إذ ارتفعت بالقُرب منَّا ترنيمةٌ
من جرس الكنيسة تقول:
إنه واحدٌ ولا موجود سواه: لا إله إلا هو وحده.
٤١
روزبهان الشيرازي يقول في «ياسمين المؤمنين بالحب»:
«قبل أنْ تُوجَد العوالم،
قبل أنْ تَصيرَ العوالم،
كان الموجودُ الإلهيُّ حُبًّا،
هو ذاته المُحِبَّ والمحبوب.»
٤٢
قريب من هذا ما ذهب إليه صديقُنا موسى ديب الخوري في مقدمته التي عقدها على
ترجمته لكتاب هنري سيريغ المُعنوَن «آلهة الثالوث الشمسي» (الصادر عن دار أبجدية
بدمشق ١٩٩٦م)، إذ أفاد: قبل أن يكون الثالوث تعبيرًا عن تشكيلات فكرية وحلول
لاهوتية كان تعبيرًا عن الإنسان بإيقاع خارجي يتمثل في الفعل والفاعل والمفعول به.
٤٣
والثالوث المسيحي — يتابع الخوري — لم يكُن مجرد تتويج لهذه «النظرة النفسية»، بل
كان تحقيقًا لحالة تفتُّح جديدة أدَّت إلى بلورة الإيقاع الأصلي وإغنائه. وللمرة
الأولى يُفصح النموذج البدئي عن كُمُونه الحقيقي، وكشف النقاب عن سرِّ هذا الإيقاع
الذي يحكم الكون.
٤٤
•••
إن كان لنا أن نقارب موضوع التثليث، ونحن، بحمد الله تعالى، ندين بالإسلام، فإننا
نرى أن فِعل الخلْق هو ما قد يُلقي ضوءًا «عقليًّا» على ما يُعرف ﺑ «سر
الثالوث».
مبدئيًّا، إن فِعل الخلْق ينهض على ركيزتَين هما الخالق والمخلوق والرابط بينهما
هو فِعل الخلق، تمامًا كما ينهض فِعل الحبِّ على ركيزتَين هما المُحبُّ والمحبوب،
وفِعل المعرفة على العارف والمعروف.
ثم إن فِعل الخلْق ينطوي، سيكولوجيًّا أو ميتافيزيائيًّا، على صيرورة الذات
موضوعًا مع بقاء الذات ذاتًا دون أن تفقد شيئًا من قوامها، بحيث يكون الموضوع
انعكاسًا للذات في عالم المكان والزمان.
وقد يأتي اعتراضٌ بالقول إن الخلق يقتضي انفصالًا بين الخالق والمخلوق، وإلا فلا
يكون ثمة خلْقٌ بحيث يبقى المخلوق مجرد فكرة في «عقل» الخالق. ولكنْ هل المخلوق
منفصلٌ حقًّا عن الخالق، أم إنه انفصالٌ ظاهري؟ نحن نميل إلى أن المخلوق غير منفصل
عن خالقه إلا في الظاهر، أمَّا في الباطن فمُتَّصلٌ بخالقه اتصالًا يكاد يكون
عضويًّا، من غير أن تدركه الحواس، بل البصيرة. وعندما نقول: «الولد سرُّ أبيه»،
فإنما نعبِّر جزئيًّا عن هذه الحقيقة. ولعلَّ في استحداث «التحكُّم عن بُعده
Remote Control» ما يجعل ما نعنيه بالاتصال غير
المُدرَك بالحواس قريبًا من المُتناوَل.
وإذا كانت العقيدة المسيحية تميِّز بين «الولادة» و«الخلْق»، وتجعل منهما نقيضين
لا يجتمعان، وتعدُّ المسيح مولودًا غير مخلوق؛ فإننا نرى أن الاصطلاحَين كليهما
يصلُحان للتعبير عن فكرة واحدة؛ هي أن المولود متصلٌ منفصلٌ بقدْر ما يكون المخلوق
منفصلًا في اتصال.
طبعًا، نحن لا ننوي بهذه المناقشة دحْض ما تذهب إليه المسيحية في التمييز بين
الولادة والخلق، وإنما أردنا عرضًا لوجهة نظر «مراقب» بغرض تقريب مفهوم الثالوث إلى
القارئ غير المختصِّ، هذا مع العلم أن الخلق فِعل إرادة، على حين أن الولادة أو
الانبثاق فِعل «بحسب الطبيعة» على حدِّ تعبير القدِّيس أثناسيوس السكندري.
٤٥
والحقُّ أن القول بأن الثالوث «مفهوم» فيه مجافاة للحقيقة، والأولى أن نقول إنه
سر
Mystere. وإن معرفة سر الثالوث في امتلائه، كما
يقول القدِّيس مكسيموس، هي الدخول في اتحاد تام مع الله، بلوغ الكائن البشري مرتبةَ
التألُّه، أي الدخول في الحياة الإلهية، في صميم حياة الثالوث الأقدس، أن نصير
«شركاء الطبيعة الإلهية» على حدِّ قول القدِّيس بطرس (٢: ١، ٤). فاللاهوت الثالوثي
إذَن هو لاهوت الاتحاد، لاهوت مستطيقي يدعو إلى الخبرة التي تفترض سلوك طريق
تغييرات تدريجية تسلكها الطبيعة المخلوقة، اشتراكًا جوانيًّا متزايدًا من الشخص
البشري مع الله-الثالوث.
٤٦