في قلة أدب
ذات مرة جاء بأطلس مصور قال: إن خاله أرسله له من دولة الإمارات العربية، كان الأطلس مُدهشًا، به البلدان مصور ناسها وحيواناتها وسهولها وجبالها، بألوان زاهية ساحرة، أكثر ما تعجبه من البلدان هولندا وطواحينها الهوائية، قال لي وهو يُشير لبيت ريفي يقع وسط أرض خضراء تتجول في عرصاتها أبقار الفرزيان والأرانب البرية: أيعجبكِ هذا المنزل؟
قلت: إنه جميل يعجبني جدًّا.
ولا يزال إصبعه على البيت الريفي الجميل المدهش ذي البقرات الفريزيان.
– سوف نذهب أنا وأنت إلى هنالك.
قلت مندهشة: إلى أين؟
قال: هولندا … وسنبني مثل هذا المنزل.
– كيف ذلك؟
قال بثقة وجدية: لقد أخبرتُ أبي … أريد أن أقرأ الجامعة بهولندا، وعندما أتخرج سآتي لأتزوجك، آخذك معي إلى هنالك، ولن نعود إلى البلاد الكبيرة أبدًا.
قلتُ وقد أحسست برعب لم أدرك كنهه: تتزوجني … أنا؟!
قال مبتسمًا في غموض: نعم، أنت … هل ترفضين؟!
قلت: سأخبر أمي.
قال بسرعة: ليس الآن، ولكن بعد أنْ أتخرج في الجامعة، بعد عشرة أعوام إن شاء الله.
قلت في إصرار وعناد: ولكني أيضًا سأذهب وأخبرُ أُمِّي؛ لأنَّها قالت إذا تحدث معك أي شخص في مواضيع قلَّة الأدب فأخبريني أولًا بأول.
حاول جاهدًا أن يُفهمني أنَّ هذا ليس «قلة الأدب»، وأنه سيتزوجني وليس الآن، وأنه … وأنه … إلا أنني أصررت على إخبار أمي أولًا بأوَّل … فقال وهو يغلق الأطلس ويجمع بقية كتبه من على المنضدة: إذن سأذهب للداخلية ولن أحضر أبدًا إلى منزلكم طالما كنت تصرين على إبلاغ والدتك.
فنهض …
وعندما نهض تراجعت وقلت باستسلام: لن أخبرها.
– إذن اتفقنا!
– نعم …
حينها أخذ يدي في يده، شمَّها وضمها إليه بشدة فأحسست أن تيارًا سِرِّيًّا كان يسري من كفه إلى شراييني دافئًا وحلوًا.
قال: إذن سنتزوج!
قلت كالمنومة: نعم.
– هل سنذهب إلى هولندا معًا؟
– نعم.
منذ ذلك اليوم لم أستطع أن أفهم ما كان يَشْرَحُه لي من حساب ولُغة إنجليزية، فقط كنتُ أفهم لغة يده في يدي تحت الأطلس، أو بين صفحات الكتاب، وكنتُ أفهم لغة قلبه ينبض في صدري، ولغة قلبي يدق.
فتخمرت في مخيلتي فكرة أن يتزوجني، أن ينام معي في حجرة واحدة وعلى فراش واحد، كما يفعل أبي مع أمي، وأنا أعتني بشئونه، أغسل ملابسه، أكويها، أرتب كتبه، أطلسه، ومجلاته المصورة، أعد له الطعام، وعند المساء أجلس على خمرة الدخان استعدادًا للنوم معه.
إذن … أن يتزوجني، أن يصبح مثل أبي لأمي، وأخذت أتخيله في صورة أبي وأخذت أغسل ملابسه، أكويها، وأخذت أرتب كتبه وفراشه وأحتفظ بكل مستلزماته، بدءًا من صابون الحمام، انتهاء بمصروفه المدرسي الشهري.
ولا أطيق غيابه عن البيت ولو للحظة، وأغار عليه … ليس من بنات الجيران فحسب، بل من أمي أيضًا، أمَّا هو فكان يشتري لي الحلوى والبسكويت والأقلام الجميلة والألوان من مصروفه المدرسي الخاص، وفي أيام العطلات عندما يفرغ المنزل من أبي الذي يَذْهَبُ للصلاة منذ الحادية عشرة ولا يعود إلا عند الثانية ظهرًا، وأحيانًا الثالثة حيثُ يتغدى في كثير من الأحايين في منزل جدي، وأُمِّي تنتهز غياب أبي فتزور جاراتها اللائي يذهبن للعزاء والمناسبات، تأخذ أخي الصغير معها، ونبقى، محمد آدم وأنا، بالمنزل …
وحدنا.
ندخل حجرة أمي المعبَّقة ببخور الصندل، نخلع أحذيتنا ونرقد على سريرها الزَّوجي بكامل ملابسنا، ونحن نحتضن بعضنا مثل دجاجة وفرخها الوحيد … وأحيانًا يدخل كفه بين ملابسي متحسسًا جسدي وثديي الناميين، وهذا الفعل غالبًا ما يصيبني بالخدر، ويفقدني الوعي، ولو أنه كان خدرًا لذيذًا وممتعًا.
وحدث أن نمنا.
نمنا بحجرة أُمِّي ويده تقبض على ثدي ولم ندر أنَّ وقت عودة أمي قد حان، حيث إنها تأتي قبل أبي بساعة أو قليلًا من الساعة، فلم نستيقظ من خدرنا اللذيذ إلا على صرخة مدوية على رأسنا، ورأينا ونحن نفتح عيوننا بكل وسعها في لحظة رُعب واحدة، رأينا أمي بدمها ولحمها، ويداها على رأسها وعيناها جاحظتان وفمها مفتوح، كان وجهها الجميل مرعبًا ومخيفًا، قالت: ماذا تفعلان؟!
نهضنا محاولين الهرب، ولكنها قالت بحزم: لا تذهبا … ابقيا.
ثم صمتت لزمنٍ مخيف طويل قبل أن تقول لمحمد آدم: اذهب أنت إلى الديوان.
فخرج وهو يرتجف رُعبًا وهلعًا، وبقيت أمي وأنا، وحدنا.