الحدأة تُحلق عاليًا صوب الحزن
وجدناه يرتدي الجلباب الرمادي الغامق، جالسًا على فراء من جلد العجل، ذهل في بادئ الأمر عندما رأى نوار سعد، فما كان يتوقع قدومي بصحبة شخص ما، قدم لنا القهوة بلبن الماعز، ابتسم، قدِمت إليه نوار سعد، قال وفي فمه ابتسامة: بالتأكيد، لقد بحثنا عنها يوم مهرجان مداح المداح ولم نجدها.
كانت نوار سعد تحملق في وجهه بشكل مرعب، ثم تنظر إليَّ كأنها تسألني، ثم همست في أذني: إنه أشيب نحيف، هل لاحظت ذلك؟
نعم، كنت أعرف أنه أشيب نحيف.
لكنني لأوَّل مرة أدري أنَّه أشيب نحيف، لقد استيقظت فجأة، أدركتُ خطورة الموقف، فها هي نوار سعد تجد فريسة جديدة لا يُقاوم إغراؤها، ولو أنَّه من النوع المُتعب، حسب تصنيف نوار سعد للرجال.
قالت بمرح، وتفاؤل: أنا دائمًا عندما أسمع برجل ولم أره — وإن لم يوصف لي — أعتبره شخصًا نحيفًا مُثقفًا أشيب، غالبًا ما يصدق الحدس، فها هو المختار …
قلتُ وكأنني أدفع عن نفسي: إنَّه رجل صعب، يعرف جيدًا ما يريد.
قالت وفي فمها ابتسامة ماكرة: وأنا أيضًا أعرف ما أريد.
ثم واصلت في القول دون اعتبار لما أبديتُه من مُلاحظة، موجهة كلامها إلى المختار: هذا العالم رغم صغره، هذه المدينة رغم ضآلتها، يُوجد بها أشخاص ذوو أهمية بالغة، لم نرهم أو نقابلهم.
قال مُبتسمًا: وقد لا تسمعين بهم.
ثم تحدث عن مزرعة المِحراب قُرب النَّهر، وكيف أُنشأت، قبل أن تنفرد نوار سعد بدفة الحديث، وتتكلم بلباقتها المعهودة، عن الفن البوذي وأسلوب النحت الخاص بسكان التبت في لا سا وما حولها من جبال وأودية، عن إسبانيا بول كلي، جويا، سلفادور دالي، بيكاسو، ثم عن فنان أعجبت به يعمل في مُتحف مسيو دل برادو كان — ولا يزالُ — يمارس معها الحب كلما التقى بها، قالت: إنَّ اسمه هو خوان بيدرو.
قالت: مُمَارسة الحب حقٌّ مَشروع لكل من هو حري به.
قال بهدوء شديد: الحب غريزة لا يصح ابتذالها.
قالت منفعلة: نحن لا نبتذلها ولكننا نجعلها شيئًا عاديًّا …
– ولكنك تحدثتُ عنه بحماس عجيب!
قالت: إنَّه حماس طبيعي يليق بدفء الموضوع.
ثم أضافت بمكر: ألا تريان ذلك؟
فهمتُ ما تَرمي إليه، تمنيتُ لو صفعتها في وجهها، ولكني قلتُ لها بهدوء مفتعل: نحنُ لا نُمارس الحب، وأنا متزوجة كما تعرفين، أما هو فتخلص من هذه الرَّغبة منذ زمن مضى.
فضحكت نوار كما لم تضحك من قبل، ثم قالت بشبه هستيرية: هل أنتم ملائكة منزلون؟ إذن كيف تظلان على قيد الحياة؟ ولماذا؟
قال بهدوء: الحياة أكبر مما تحصر في هذا المكان الضيق.
– أنا لم أقل إنها مجرد ممارسة حب، لكن الحب أيضًا يبقى عماد الحياة وسرًّا من أسرار بقائها.
– لكن لا بد من التخلص منه لنقاء الروح.