أجيف
مرَّ عامٌ بهذه البلاد أجيف بكل ما تحاول أن تعنيه هذه الكلمة من تفسخ ونتانة، بكل ما تعنيه من موت وظلام.
سُجن حافظ واختبأت سارة حسن من البوليس بكهوف مايازوكوف المهجورة، أمَّا آدم فظل مطاردًا إلى أن تمكن من مغادرة البلاد الكبيرة إلى البلاد المجاورة.
جُمِّد العام الدراسي بعد تظاهرات عمَّت البلاد كلها بعد فوضى اغتيالات، إعدامات سرية، اختفاءات مفاجئة لمواطنين، بعد البندقية التي بقيت كشاهد القبر تُعلن عن الموتى وتذكر بالموت وبخجل تعلن عن ديمومتها، بخجل وانكسار طفيف.
الفصل خريف جاف، الرِّيح سموم حارقة تهب من جهة الشمال، محملة بالأتربة والرَّمل الأبيض الناعم، محملة بالنار.
إذن الفصل جحيم، القرى، المدن، الأطيار، هوام الأرض، الناس، الحيوانات، الغابات التي كانت، النهر، العشب الموسمي، كل شيء يتوقع هطول الأمطار، وأن يتغير اتجاه الريح أن تهب من الجنوب ولكن عبثًا، الراديو يُطَمْئِن المواطنين الذين نَفِد صبرهم: «إن الريح الخيرة آتية، المطر آتٍ، وسينجح محصول الذرة نجاحًا منقطع النظير، وسترعى الماشية وستسمن؛ لأن البرسيم والتبر سينموان في فلوات الأرض كلها، حتى الجبال ستكسوها الخضرة، وسيصبح العام عام رخاء بفضل الريح والخير الذي سيصب من الجنوب مُحَمَّلًا بالسحابات المعطاءة …» وفعلًا تهب الريح الشمالية، ريح جحيم ونار؛ فتيبس الأشجار هياكل الرماد الغبشاء الهشة التي تُقاوم الريح بالسقوط؛ الراديو يؤكد أنَّ الأمطار آتية، فقط تأخر الخريف قليلًا، في كل أنحاء العالم يتأخر الخريف، حتى في أمريكا نفسها والبلاد الكبيرة، بلادنا ليست استثناء، والمؤمن مصاب.
مجَّد المغنون نبالة الحاكم، مجده الشعراء وقالوا: إنَّه يستطيع أن يأتي بالمطر، أكلت الأغنام العظام والجلود الجافة وأفرع الأشجار الناشفة، باضت العصافير على الأرض كأنعام، نفقت الأبقار والضأن والحمير، نفق البشر.
الراديو يؤكد أن … وأن الخريف … تزايدت الأغاني الهابطة هبوطًا، وعمت البلاد الكبيرة لغة نيئة وخلق بليد. أرسل مايازوكوف خطابًا بعد سنة كاملة من سَفَرِه إلى سوريا كتبت له في الرَّد: أظنك تقصد بغابة العرديب أحطاب العرديب، عمال السكة الحديدية يُطَالبون بزيادة الأجور، ترفض الحكومة مطالبهم فيضربون.
ماتت الأغنام، تراها متكومة على قارعة الطريق وعليها جيوش الذباب عند المزابل والخيران.
وكان الأطفال يقومون بحرق الحيوانات النَّافقة، وإذا لم ينتبه لهم الكبار أكلوا منها، الرَّاديو يُؤكد أنَّ الأمطار آتية ثم تعزف الموسيقى العسكرية، أخذ الكبار يحرقون الحيوانات النافقة، نفق الفقراء بالُوا في سراويلهم، عملوا بالدعارة، سرقوا، كذبوا، جُمِّد العام الدراسي، سُرِّح المعلمون والطلاب، فلاذ الأطفال بالنَّهر الضحل يصطادون الأسماك والسلاحف.
زوجي نور الدين يُحاول السفر لدولة غنية بالبترول وغنية بالعزلة، أخذ الكبار يحرقون الحيوانات النافقة، وإذا لم يرهم الصغار أكلوا منها، اقتسم الصغار والكبار الجيف المحروقة، الراديو يؤكد أن هيئات الإغاثة العالمية في طريقها للبلاد.
الريح الحارقة الصفراء تهب من الشمال كالجحيم، أرسل مايازوكوف خطابًا: ماذا تأكلون؟
كتبت له: نحن لم نجع بعد، جاع الفقراء في الرِّيف والمدينة أيضًا، فما زلنا نستطيعُ شراء الأطعمة المُعلبة، كما أنَّ لدينا شفاطًا نسقي به مزرعتنا الصغيرة المُتداعية مما تبقى من مياه النهر، وما زال بإمكاننا شراء اللحوم والكتب، وبإمكاننا أيضًا قراءة الشعر.
نوار سعد تظهر فجأة في المحراب، قالت: إنَّها كانت بقرية والدها الذي نفقت حميرُه ونفقت كلابه، الذي مات بالتيفويد، قالت: لقد اشتقت إليكم وسأبقى معكم لأيام، وقد أذهب للبلاد المجاورة، فهذه البلاد ما عادت تصلح وطنًا لإنسان، ولا ندري ماذا بعد المجاعة؟ ولا ندري ماذا بعد هذا القحط؟!