الجارات الطيبات
تقيأت أمي في الفجر شيئًا أصفر، ورغم ذلك أخذت مقلاع البصل والسلة الكبيرة، وقالت لي ونورا: فلنذهب إلى العمل.
فقلت لها: ولكنك مريضة.
قالت: سأبلغ الصحة عندما نصل؛ آكل بصلة واحدة وأشرب عليها من ماء النهر، فضحكنا وتركنا أبي نائمًا وقربه نور وحوله كلابه.
كانت أمنا تقوم بقلع البصل من الأرض بالمقلاع، وكنت ونور ننظفه من التراب العالق بالجذور ونجمعه في كوم كبير إعدادًا لتعبئته في الجوال، وبينما نحن في قلع وتنظيف وحلم بالأجر المرتقب ومصارفه المُحتملة إذا بأذان العصر ينادي، يعني هذا عندنا الكثير الكثير؛ يعني أنَّ يوم العمل انتهى وسيأتي بعده صاحب الجرف على حماره الأبيض الكبير؛ ليحسب الإنتاجية ويُعطينا ما نستحق من الأجر، وقد يتكرَّم — دائمًا ما يفعل — بأن يسمح لنا بحمل ما يكفينا من البصل إلى البيت كرمًا. وكان — عندما أذن الأذان — قد بلغ التعب والإعياء بأمي أشده، ولكنها رغم ذلك استطاعت أن تبتسم قائلة: إذا تمَّ اليوم إذن سنستريح! وحاولت أن تنهض لتقف على رجليها ولكنها تداعت، وهوت على الأرض كومة باردة من اللحم البشري، وأخذ وجهها يتصبب عرقًا وأنفاسها تعلو وتهبط كالموج، كان مشهدًا مروعًا؛ فأخذت وأختي نورا نصرخ في هلع إلى أن أتى صاحب الجرف، فساعدنا على حملها إلى ظل شجرة سنط ضخمة، وطلب مني أن أذهب إلى بيته الذي يقع قرب النهر، وأن آتي بملح طعام وقرض وكمون أسود وحلة صغيرة، ففعلت، كانت نورا قد أشعلت بعض الأحطاب، فوضع صاحب الجرف عليه الماء إلى أن غلى، فسقاها مرة أخرى ثم ذهبنا، وفي الطريق لقينا جارًا لنا كان عائدًا من جرفه فحملها على حماره إلى المنزل، وما هي إلا لحظات حتى توافدت نساء الحارة إلى بيتنا زُرافات ووُحدانًا، وامتلأ البيت بالجارات الطيبات وغير الطيبات أيضًا، وكل من التقطت الخبر من الريح مباشرة، أو من أطيار الكلج كلج.
أخذن يسألن عن حالها ويتأسَّيْنَ على ما حدث، ويتأسفن على تعب الحياة ومرارة البحث عن الرِّزق، وهن يضعن تحت مخدتها وحدات صغيرة أو يضعن أمامها على المنضدة بعض السكر أو اللبن، وقد جاءت إحداهن بويكة وبعض اللحم المجفف وقامت بطهوه بنفسها، أمَّا جارتنا الحجة نفيسة فصنعت لنا العصيدة من دقيق بيتها وحملتها إلينا للغداء، وعندما انصرفت دسَّت تحت مخدة أمي جنيهًا، إلى اليوم أذكره ويبرق في وجهي لونه الأخضر وعليه صورة وحيد القرن، والنوباوية كاكا الكجورية حددت بكل دقة نوع المرض وعلاجه، قالت: أصابتها عين عند العمل، وكلما تعمل أكثر كلما تعرضت لهذا المرض أكثر — هكذا قال الجماعة — وعلاج ذلك: كون أسود بالقرض يُشرب بالريق صباحًا ومساءً، ويصطحبه بخور بلبان (الجاولي) وبعض التمائم التي قامت بكتابتها، قالت لأمي محذرة: عليك عدم الذهاب للعمل لسبعة أيام بلياليها، وفي اليوم الثامن لا تبقين قرب النهر بعد أذان الظهر، ثم قالت بشأن العين: إذا كانت عين رجل؛ فإنها ستخرج سريعًا، أمَّا إذا كانت عين امرأة فالمسألة تحتاج لبعض الجهد، وربما احتاجت لدم خروف أسود، ظلت أمي على فراشها لبقية اليوم إلى أن حضر والدنا عند المساء، وهو سكران وعلى كتفه نور، وعندما وجد المنزل مكتظًّا بالنِّسوة صاح: من الميِّت؟ أنتن يا نسوة لا يجمعكن إلا الشر، الموت أو المرض … تحدثن، من الميت؟ هل ماتت هي؟ قالت له امرأة عجوز: موت أنت يا سكران يا حيران، الله أكبر عليك.
قال وهو يرمق المرأة بعينه المحمرة: يا حاجة، والله لو كانت واحدة غيرك لكسرت عصاي على رأسها ولكن للأسف، وضع نور على عنقريب صغير وهي نائمة، ودخل الحجرة ليجد أمي راقدة باردة، أخذ منها الإعياء كلَّ مأخذ … فانحنى عليها لزمن طويل … حتى كاد أن يسيل رياله على وجهها وكأنه يُريد أن يتأكد من أنَّ التي ترقد على فراش الموت ليست زوجته بنت الضوء أزرق، ثم قال مخاطبًا امرأتين قربها: هل ستموت اليوم؟ فردت له إحداهن: اذهب ونم قليلًا فهي بخير ولن تموت.
وعند الغد تحسنت صحة أمي قليلًا، ولكنها لم تبرح فراشها، فأتيناها بالكمون والقرض والبخور، ثم الماء والإفطار … وهي لم تزل بالسرير.
أما أبي فكان خجلًا ومحرجًا، وقبل أن يُغادر المنزل للعمل أعطاني خمسين قرشًا قائلًا: اشتري بها دقيقًا وخضارًا.
ثم ابتلعه الطريق وكلابه.
أما نور فبقيت قرب أمي المريضة تدلك لأمي أطرافها، وتحكي لها عن المزارع التي صحبها والدها إليها، وعن مغامراتهما بالإنادي وقصص السكارى وكيف يرقصون على إيقاع «التمتم» و«السيرة» وعن أصدقاء والدها أبو كروك وفضل السيد، وصديقه بائع النيفة العجوز، عم محمد زين برجليه المقوستين كالسفروق، وقالت: إنه يمشي كالحرباء ولكنه رجل طيب، وقالت: إنه أقربهم لقلبها لأنه ما كان يبخل بآذان الخراف المشوية أو شوربة الكوارع، ثم حدثتها عن المرأة العجيبة صاحبة الإنداية بت جادو، ثم سألتني: لماذا يا نوار لا تعملي لنا إنداية؟ نبيع فيها أنا وأنت بدلًا من العمل في الشمس، وقلع الفول والبصل، فصاحبة الإنداية عندها مال كثير ويداها مملوءتان بالذهب وحتى أسنانها من الذهب. قالت نور: عندما تتحدث معي صاحبة الإنداية بت جادو كنت أتمنى أن تقع منها سن واحدة لآتيك بها، تخيلي أنَّ أسنانها كلها من الذهب، قالت: ولماذا لا تكوني مثلها؟ لماذا لا تعملي لنا إنداية؟ فقالت لها والدتي: ولكن يا نوار المريسة حرام، والسكر أيضًا حرام، ويوم القيامة ربنا سيدخل بت جادو النار. فردت نور مضطربة: كذب … كذب … كذب.
أنا شفت الفكي آدم نفسه بالإنداية يشرب في المريسة، ويأكل الكوارع بالشطة، ويبشر مع الناس في الدلوكة، ويعرض ويرقص الصقرية، وقد قال لي بالأمس إنَّ المريسة تجلب الدم وتحَسِّن الصحة.