الغريب
قالت نوار سعد في إحدى جلسات تبادل التجارب: منذ اللحظة التي دخلت بيت مايازوكوف أحسست أنَّه باستطاعتي البقاء بهذا البلد، بلادي كيف خلق مايا العزيز هذا الإحساس بالمواطنة فيَّ، وأنا التي لا أعترف بالوطنية، وهو الغريب عن الدار؟ كيف هيأ لنا الدار؟ كان مايا دائمًا ما يردد: إنَّ الإنسان هو الرب الوحيد، الرب الواحد الخالق لظرفه الموضوعي، وباستطاعة الفرد الواعي أن يُشيد من قنطور للنمل قصورًا للملوك، فقط عليه أن يعي حقيقة أنه ملك، وأنه في حاجة إلى قنطور من النمل.
وعندما كنت أؤكد له رداءة واقع البلاد الكبيرة، وأنَّه لا قيمة لإنسان بها، كان يضحك قائلًا: فقط ينقصك الانتباه، انتبهي وستجدي قنطورك الذي هو قصرك.
ولأنَّه كان مُنتبهًا، ولأنه دائمًا ما يجد قنطوره استطاع أن يخلق الظرف الموضوعي الذي يبقيه هنا، وببقائه بدأ الإحساس بالغربة فيَّ يزول تدريجيًّا، وأحسست أن حياتي بدأت تأخذ مجراها الفني وعشتُ حياة راقية — في نظري — متحضرة في واقع متخلف رديء.
مع مايازوكوف الهمُّ … همٌّ كوني، والمأساة عالمية، والفرحة لها طابع عام وممتد، والحب … أسطورة، كنتُ معه أحس أنَّ هناك من يفهمني، لا يعني إذا رفضت الطعام أنني أعاني من عسر في الهضم، أو أنَّ الطعام لا يعجبني، أو لا شهية لي. وحينما أتحَدَّثُ عن فاسيلي كاندنسكي لا يعني أنني أكره جويا ومايكل أنجلو، أو لا أهتم بالزرافة المحترقة. وحينما أتشهى شخص ما، لا يعني هذا أنني داعرة، أو امرأة لعوب، أو سيدة في شبق عابر، لا؛ ولكني أعبر عن رغبة جنسية إنسانية عميقة في الجسد.
وحينما أمشي في طريق دون هدى، وحينما أشرب كأسًا من الخمر، وحينما أبكي فجأة، وحينما أغني، أرقص، أضحك، أسخر من نفسي حينما أقول لا.
حينما أتوقف عن مواصلة المُحَاضرة وأحكي للطلاب عن خواكين كورنين وأقول لهم خواكين أعظم فلامنكو أنجبته إسبانيا، وأنه أجمل الغجر وأكثرهم بولا. ميسو دل برادو، خوان بيدرو والخاندرو كازونا، خوانًا كلية أو أمين محمد أحمد ذلك الطفل الشقي.
حينما أغني لطلابي بالأمهرة كما علمتني سابا، حينما أحس بالنعاس وحينما وحينما، دائمًا ما كان يسعني مايا العزيز، دائمًا ما يسعني مايا، لقد أصبح لي وطنًا ومنفًى أيضًا.
قالت كالمنومة دون أن تلقي انتباهًا لما قاله المختار، وقلته أنا تعليقًا على جملتها الأخيرة: إذا جئت بيته منتصف الليل وهو في فراش سيدة، كان يقول لي بكل هدوء: حسنًا يُمكنك النَّوم بحجرة المرسم، أو العودة إلى منزلك، فالطقس في الداخل غير مؤات.
سافرت معه في هذا الوطن لأمْكِنة ما كانت تحلم بها عصافير مشردة أو بجعة، عرفت من خلاله بلادي التي ولدت فيها، انتبهت من خلاله لنفسي، لذاتي المقموعة بتسلط اليومي. أقمنا في مستنقعات من البعوض والحيات، صعدنا قممًا جبلية عالية لنشارك الحدأة أحلامها، مشينا لقرى لم يُشاهد بها رجل أبيض من قبل، ولا امرأة سوداء تتحدث مع رجل أبيض؛ تجمعوا حولنا يتفرسون ويموتون من التعجب والذهول ويضحكون.
مايازوكوف صديق وجدت فيه نفسي، وطني، كان مُتَمَرِّدًا شقيًّا، وكنت لا مبالية، كان حرًّا كأغنية يمامة، غير مشروط.
وكنت حُرَّة كروح درويش.
كالريح.
إذن، كنا ريحًا وروحًا ودراويش.