في الغضب
ارتفعت درجة حرارة الجو إلى «٥٥» درجة، ونامت الأشجار البائسة، نام رماد العشب؛ لأنَّ الريح الشمالية التي كانت تُلاعبه أثناء موته ذهبت في ثبات عميق، غطت السحب الرمادية قبة السماء واشتد الحر، خرجت الثعالب العجفاء من أجحارها والثعابين تسلقت الأشجار الهرمة الجافة، واشتد الحر، تراكمت السحب وأصبحت أكثر قتامة، ثم هطل المطر.
المطر، المطر، المطر.
مطر حقيقي وغزير، كأنما ثُقبت السماء أو اندفقت مواعين الملائكة، مطر عنيف وقوي، أضأنا المصابيح وجلسنا نستمع لهزيم الرعد وخرير المياه. وكلما فاجأنا البرق انكمشنا على أنفسنا، حبسنا أنفاسنا وانتظرنا.
كان المطر مطرًا.
استيقظت الريح وأخذت تقهقه في هستيريا وهي تفرك هامات الأشجار بأصابعها الهلامية، وتدغدغ جنباتها كما يفعل الأطفال الأشقياء بالأطفال الأشقياء، قالت سارة حسن: يخيَّل إلي أن صهاريج الماء المخزون بالسماء قد اندفعت اليوم.
خمس ساعات من المطر المتواصل من البرق والصاعقة، من الرعد، ولكنا أحسسنا بفرحة عميقة تغمر دواخلنا، وتموسق ذواتنا العطشة، ولو أننا أحسسنا بالخوف، الخوف من البرق والصاعقة، والخوف من السيل والرِّياح العاتية التي تُصارع أفرع الأشجار الجافة في الخارج وتكسرها، لقد جاءنا المطر بعد عطش دام قرابة العامين وأكثر؛ لأنَّ الفصل المطير الذي سبق هذا الفصل الجاف هو الآخر كان فصلًا فاشلًا، ولم يَجُد بغير مطيرات استمرت دقائق وغادرت، ولأنَّ الفصل — الذي كاد أن يكون مطيرًا — السابق لهذا الفصل الأخير …
قالت لي — ذات جلسة — عرافة كانت جارتنا في بيت أبي، وقد اعتَدْت أنْ ألوذ بخرافاتها كُلَّما تأزمت، قالت لي ذات مرة على هامش حديث طويل عن مستقبل البلاد: هذه البلاد ستعصف بها حمم تحمل ريح السافل، وتعني بريح السافل الريح التي تهب جنوبًا، سنة، ثم سنة … ثم سنة. إلى أن يشاء الله فتهب الرياح الجنوبية الغربية محملة بالسحابات، فتبرأ جراحات الأرض، هكذا تقول الجماعة.
ثم توقف المطرُ وهدأت الرِّيح؛ فخرجنا نتمشى بين الخيران التي صحت من ثبات العطش الطويل والمجاري ذات الخرير الشجي، فقد صحت أزمنة المكان، صحت شقوق الأرض، استيقظ الزمن النائمُ في حرقة الطقس. تزحلقنا على الطين، ابتلَّت ملابسنا واتسخت أيادينا ونحنُ كالأطفال نضحك ونجري في البرك الصغيرة، أو نركب سوق الأشجار الضخمة الطافحة على مياه السيل، نجمع العصافير الصغيرة المبتلة الأرياش المصقوعة بالبرد، ندفئها بين أكفنا أو نفرك أجنحتها فتسري فيها الحياة.
وكانت سارة والمختار يغوصان بين أشواك الأشجار التي أسقطتها الريح على الأرض، ليأتيا بصغار عصافير الجنة، وود أبرق، وسرو دمامي وبعض صغار أم قيردون وحواء زريقة والهدهد، وأتولى أنا القيام بدور الممرضة والأم. قال: فلنذهب لنلقي نظرة على النهر والمزرعة.
كانت أشجار الفاكهة قد اغتسلت بالمطر، فبدا الليمون والبرتقال كأزهى ما يكون، أمَّا أحواض البصل فقد غرقت تمامًا وذابت الفواصل الترابية التي تفصلها عن بعضها البعض؛ فأصبحت حوضًا واحدًا كبيرًا غاطسًا في الماء أو بحيرة صغيرة.
قال المختار وهو يتفحص حوض البصل الغريق: الملكية تشبه الأبوة، فإحساسي بالبصل الذي يُعاني الاختناق تحت مياه المطر إحساس لا يقل حميمية عن إحساس أبٍ يرى ولده يختنق بالغاز، ولكن فلتكن هذه المأساة صلاة من الألم مرفوعة لروح الملكية التي يجب عليَّ التخلص منها ونبذها.
– إذن أنت ضد الملكية الخاصة؟ قال: نعم، ولا؛ لأنني ضد كل أشكال الملكية على المستوى الفردي كغريزة، فإننا نتحدث عن الغرائز والشهوات في إطار الذات الواحدة … فليتملك الفردُ ما شاء لكن يجبُ ألا تكون هذه الملكية عاطفة وغاية في ذاتها، فإذا فقد الحطَّاب فأسه الوحيدة فإنه لا يتحسر على فأسه التي كان يمتكلها، ولكن لأنه لا يستطيع أن يقطع الأحطاب التي عن طريقها يحصل على خبز أطفاله، فإننا نُريد أن نجرد الملكية من بُعْدِها الغرائزي ونجعلها وظيفة إجرائية فحسب. قالت سارة: ربما كان فكرك هذا نمطًا من التجريد الوجودي المثالي.
– قد تسمونه فكرًا مثاليًّا، ولكنه أكثر واقعية على مستوى الروح، وأكثر واقعية وعملية لأشخاص يؤمنون به.
قمنا بفحص الوابور الشفاط بحجرته الصغيرة المبنية من الطوب الأحمر، تفحصنا براميل الجازولين، صفائح الشحم، والزيوت التي وجدناها غاطسة في مياه بنية يعلوها الزيت.
وعدنا.