النهايات
التقيت مايازوكوف بالجامعة وكان تعبًا ومرهقًا كجواد يحمل جبلًا من الرصاص كجواد يموت، يلبس قميصًا من القطن أبيض وبرأسه «كاب شمسي» وكان قصيرًا مُمتلئًا باللحم والعصب، ومأساة باردة ولكنها في أوج النضج، قال: إنَّ ما قضاه من زمنٍ بعيدًا عن هذه البلاد الكبيرة كان زمنًا مشحونًا بالحرقة والتشوق، ولكنَّه الآن وقد عاد إلى البلاد الكبيرة أيضًا يملؤه الإحباط والتشاؤم؛ ثم حدثني عن زوجته «سلام» وقال إنه تعرف عليها عن قرب في بيت صديق له في عيد ميلاد زوجته، ثم التقاها مرة أخرى في بيته الخاص، ثم لم يفترقا منذ ذلك الوقت، قال: إنها تُشبه مداح المداح في كثير من الأوجه، يكفي أنَّها مُغنية وأنها سورية تعشق الترحال، ثم ابتسم وأضاف: إنها كانت إحدى عشيقات مداح المداح الألف امرأة، وإنها المرأة الوحيدة التي كادت أن تُنجب له طفلًا. قلتُ مندهشة: هل أجهضت الطفل؟ قال: لا لم تجهضه؛ لأنَّها لم تحبل في الواقع. فقط أحست هي برجولته، وفي أعماقها تحرك وحش لطيف اسمه الأُمومة، ولكنَّ مداح المداح نفسه هو الذي اغتاله. هل فهمتي؟ لقد كان يُضاجعها فحسب، وما كان يستطيع أن يُعطيها من وقته غير الفراش، فلقد كان مشغولًا في كل الأوقات، قلت: أنت تعرف كل هذا الماضي، فكيف تزوجتها بالرغم من علاقتها بمداح المداح صديقك؟!
قال ضاحكًا وقد كنا في الكافتريا الخاصة بكلية الفنون حينها: كما ترين لم أك مشغولًا مثل مداح المداح، ثم قال وقد جاءه النادل بالقوة: أنا بشر، وأنت بشر وهي أيضًا، كما مداح المداح، ولسنا آلات صماء وضعت لأداء شيء بعينه، الحُب والتواصل الإنساني الخفي، تحبين المختار وتتزوجين غيره، وتحبين محمد آدم و… ألا تشعرين بوخز الضمير؟ قلت: أولًا تعرفتُ على المختار بعد الزواج … والزواج ذاته لم يتم برغبتي، فلقد تزوجت وأنا في الرَّابعة عشرة من عمري من رجل ما أزال أكرهه وأتهمه بقتل شخص عزيز لدي، طفل كنت أحبه.
– هل قتله بنفسه؟
– لست أدري، ولكنه بطريقة أو بأخرى ولو كان بقلبه …
حدثني مرة أخرى عن زوجته، وقال: إنه أخبرها وهما في سوريا عن هذه البلاد وعنَّا، والنهر، والغابة، وبيته، وشجيرات الباباي، والعرديب، والكهوف الطبيعية الساحرة، والبشر ذوي الروح المرحة الحرة، وعن التسامح الديني، عن الحفلات، عرق العرديب، وكانت دائمًا ما تقول: أشتاق لكأس من العرديب، لا بد أنَّ سكرته شيطانية!
قال: إنها سيدة ذات روح مرحة قبل أن تهبط بنا الطائرة في المطار، قبل أن نعبر شوارع المدينة، النَّائمة في الوحل والقاذورات، المحصورة كجيش من الذُّباب ورائحة الفضلات، قبل أن ترى البيت وقد توحشت حديقته، وماتت أزهار النريم والورد الإنجليزي وباباياته وخرست بئر الموسيقى، وعطبت النافورة وبنى الوطواط في صالة الموسيقى، وفي الحمام، وغرف النوم أعشاشه … قبل أن ترى تمثال مداح المداح الغارق في التراب، وكمنجته المهشمة المدفونة هي الأخرى في الأرض … ومات حماسها وتشوقها، فأنت تدركين كم تبدلت البلاد كأنما تبوَّل على مآذنها وبيوتها وشوارعها وحش أسطوري مخلوق من اللعنة والتشرد … أين الناس؟ أين الطلاب والكهوف الجميلة؟ أين الله؟ فقد كنا نراه بين أزقة المدينة، في عيون أطفالها المشاغبين، وكنَّا نراه في شموخ أشجار العرديب، وفي خصوبة الرياح الجنوبية الغربية المُحَمَّلة بالماء الطيب والحنطة، ونراه أيضًا في سحر البُنَيَّات الخجولات ووضوح نوار!
أسفًا على البلاد، على شارع الحرية الذي يربط بين المطار وطريق الغابة السريع، أسفًا على الناس.