العاشق البدوي
عندما أتى به والده في ذلك المساء ليلتحق بالمدرسة المتوسطة بالمدينة، كان في الثالثة عشرة من عمره، يلبسُ كالبدو جلبابًا وصديري أزرق، شعره كث، نعله من البلاستيك، وعلى رأسه طاقية بيضاء وبيده عصاه، يبدو كأنموذج مصغر لبدوي، عيناه مُستطيلتان بريئتان كعيني خروف، تفوح منه رائحة الشياه والروب، كان قصيرًا ووسيمًا، له جسد رياضي ممشوق.
أبوه صديق أبي؛ لذا طلب منه أبي أن يبقى معنا في المنزل بدل من السكن الداخلي الخاص بالمدرسة؛ لأنَّها — كما أكد أبي لأبيه — ليست صالحة إلا لسكنى الضب والسحالي، وببقائه معنا أصبح — أو شاءت الأشياء أن يُصبح — محطة كبرى وحاسمة في حياتي، كنتُ أصغره بسنوات ثلاث، ولأنه ذكي ومُبرز في دروسه كلفته أمي بمساعدتي في الاستذكار، فكُنَّا بعد شرب شاي المغرب نأخذُ كتبنا وكراساتنا إلى حجرة المطبخ نضع بيننا منضدة صغيرة تستخدم للشاي، نضع عليها كراسات وكتب المدرسة ونستذكر، وكان طفلًا مرحًا يحفظ كثيرًا من الأحاجي وقصص الفروسية وبعض من الشعر الدارج، وأيضًا كان يعرف أسماء الطيور كلها، ومواسم ظهورها ونوع طعامها وكيف يصطاد كل صنف منها ومتى وبأي وسيلة؟ كان يعرف أسماء الحشرات والحيوانات والنجوم ومدلولاتها وفقًا للمواسم، وكان إذا رأى نجمًا ما يقولُ يجب أن يزرع القمح اليوم أو سيكون هذا الخريف رديئًا، كان يعرف كيف يحلب الأبقار والماعز، ويمتلك حاسة شم لا مثيل لها في المدينة كلها، فكنا نُغمض عينيه ثم نضع قرب أنفه جلباب أحدنا قائلين: جلباب من؟
فيقول دون تردد: إنه لأحمد … إنه جلباب الحاجة …
وأبدًا لم يخطئ إلا مرة واحدة عندما أتينا بجلبابه هو نفسه ووضعناه على أنفه فسكت مليًّا ثم قال بعد أن حرك أنفه كالكلب الذي يتحسس رياح ما، قال: هذا ليس جلباب لأحد؛ لأنَّه لا رائحة له، أهو ملاءة؟