سابا تخلي
تقيم نوار وصديقتها سابا تخلي بالحلة الجديدة منذ أن استقرت نوار بالبلاد الكبيرة، ولو أنَّه استقرار كاستقرار البجعة، وقد كانت دائمًا على سفر؛ وسابا لا يُمكن أن يطلق عليها لقب خادمة، ولا صديقة أيضًا، فهي تشغل الوظيفتين بكل جدارة، إِنَّها صديقتها، ومكمن أسرارها وخبائثها الصغيرة، وسابا ذاتها لغز محير، فضائل لا حصر لها، وتفاهات يشيب لها رأس الولدان!
فقد التقت المرأة الغريبة بالمرأة الأغرب بسجن صغير بنقطة تفتيش بالحدود الوطنية الأثيوبية عندما حُجزت نوار سعد ليوم واحد بسبب حملها لتحف أثيوبية نادرة، قيل إنها تخص الملك منليك الأول، وبغير أوراق رسمية، فأدخلت غرفة الحبس، وهي حجرة صغيرة مفروشة بالبرش، وفي ركن منها قلة ماء، ولا شيء آخر غير سيدة حبشية في مقتبل العمر جميلة في ملابس مهترئة متسخة بعض الشيء، لها عينان قلقتان كبيرتان مستديرتان كعيني ثعلب، كانت تجلس في ركن الغرفة منكمشة على نفسها وفي فمها مسواك صغير من الأراك عندما دخلت نوار الحجرة، وقبل أنْ تردَّ تحية نوار قالت بسرعة: هل معك نيالا؟
فردت عليها نوار قائلة: آسفة، فأنا لا أدخن. قالت: لي ثلاثة أيام لم أذق فيها طعمًا للسجائر مما سبب لي صداعًا دائمًا … وأردفت: أنت لست حبشية؟ أليس كذلك؟ قالت نوار: أنا من البلاد الكبيرة.
– ولكن بك ملامح أمهرا، خاصة جبهتك وشفتيك! حتى لونك الحبشي!
وجبة الإفطار مكونة من الانقيرا والدليخ فقط، طلبت نوار من الحارس أن يأتيها بخبز ولحم لأنَّها لا تأكل الدليخ، وإذا لم يتوافر اللحم فقليل من الشيرو. ولكنه رد بشكل قاطع: هنا فقط دليخ وانقيرا، ولا شيء آخر و…
قالت لي نوار سعد بالرغم من أنها كانت تتحدث معي بلغة عربية مكسرة إلا أنني استطعت أن أفهمها، قالت: لا … بل حملت معي بعض الصيني الذي قال عنه ضابط الجمارك إنه يخص الملك منليك الأول، فهو بالتالي ثروة قومية، وطلب مني التنازل عنه فرفضت، فأُدخلت في هذا المكان …
– آه يبدو أنك امرأة خطرة، كيف توصلت إلى ممتلكات الملك منليك ونحن — الأثيوبيين — لا ندري عنها شيئًا؟! لا بد أنك تنتمين إلى عصابة دولية.
– لقد اشتريتها من مكان عادي بهرر، مكان عادي ومعروف مقام على منزل قديم، قيل إنه كان سكنًا لشاعر فرنسي اسمه رامبو.
قالت نوار: ولكن لدهشتي عندما قالت لي الحبشية ذات الرداء المهترئ المتسخ المقعية في ركن من الحجرة تأكل الانقيرا بالدليخ: آرثور فرانسوا رامبو؟! هل تعنين آرثور رامبو؟!
– نعم.
– ماذا تقولين …؟ إذن … من أنت؟ هل تقرئين الشعر؟! قالت — ببساطة وبدون أن تتوقف عن الأكل إلا لشربِ قليلٍ من الماء لتطفئ به حرقان الدليخ: اسمي سابا، سابا تخلي، من هرر، لا أقرأ كثيرًا من الشعر، ولكن فقط شعر آرثور رامبو.
– هل لأنه كان تاجرًا في هرر؟
إن الدولة الشريرة ليس لديها مكان للصالحين من رجالها ونسائها غير السجون.
وبعد أن أكلت، غسلت الأطباق ووضعتها جانبًا قرب قلة المياه في أدب جم وكأنَّها تشكرها، وكنت أعرف هذا الجانب في الأحباش، فهم أكثر الشعوب أدبًا ونظافة ولا يفوقهم في الأدب — في رأيي — غير الصينيين، وأبديت لها هذه الملاحظة فابتسمت وهي تشكرني، ثم أضافت مجاملة: وأنتم أيضًا مؤدبون محترمون.
ثم دخلنا في لغة شتى ففهمت أنَّها هنا في الحبس أكثر أمنًا وطمأنينة من وجودها حرة في بلدها، وأنه قُبض عليها عندما كانت في طريقها للتسلل خارج الوطن إلى بلادنا الكبيرة، وقالت إنها لا تستطيع العيش مع أهلها لوجود مشاكل أسرية معقدة قد تودي بحياتها، وعندما عرضتْ عليها نوار سعد أن تأخذها معها لبلدها قالت: إذا طلبت منهم إطلاق سراحي سيوافقون، ولكنهم لن يتركوني أذهب وحدي.
ثم شرحت لي كيف بإمكاني الخروج من هذا المكان قائلة: يمكنك رشوة ضابط الجمارك المسئول. قلت مندهشة: هل يقبل الرشوة؟! قالت وفي فمها ابتسامة: لا أحد في أفريقيا يرفض الرشوة، إنها ليست أكثر من تسهيلات.
كانت سابا تدَّعي أن آرثور عشيق جدتها الرَّابعة «برنيش»، وأنه أنجب منها طفلين ولكنهما ماتا غرقًا في حادث مُؤلم، وجدتها أيضًا ماتت بعد أن نقل إليها آرثور رامبو مرض الزهري، وكان لهذه الجدة طفلٌ أكبرُ من رجل آخر وهو جدها الذي أصله من قبيلة التجراي، وقد مات هذا الجد بعمر يقارب المائة عام ١٩٦٠م. وتقول إن أسرتها تحتفظ بأوراق مكتوبة بخط رامبو باللغة العربية وأخرى بالفرنسية، وأيضًا بسروال من الصوف كانت قد أرسلته إليه أخته «أزبيلا» من «شارلفيل»، والغريب في الأمر أنَّ سابا تحفظ قصيدة شعر مطولة بالأمهرا تقول إنَّ رامبو نفسه هو الذي ألفها، وكانت تعرف تفاصيل عن حياة رامبو لا أعرفها عن مولده، عن تجارته باليمن وعلاقته بتجارة الرَّقيق التي كانت تنفيها سابا بشدة، وكنت بين مصدقة ومكذبة لما أسمع.