المرسم المفتوح
أكبر كهوف مايازوكوف بجبل المرسم هو الذي بُني على ارتفاع عشرة أمتار؛ على بوابته نصب الحرية الذي في شكل حدأة ضخمة لها جناحا فراشة وأظافر سيدة، وأيضًا فم امرأة، وبداخل نفس الكهف نحت حافظ «سورة الغضب»، وبعد عودته الأولى إلى سوريا أُهمل هذا الكهف كغيره من الكهوف، كغيره من منشآت المرسم المفتوح، وهذا الكهف نفسه هو الذي اختبأت به سارة عندما كان يلاحقها البوليس السياسي، وعندما عاد مايازوكوف للبلاد الكبيرة للمرة الثانية وأصيب بالإحباط وترك البلاد للأبد هُجرت الكهوف تمامًا وسكنتها الهوام والعناكب، وأصبحت موحشة ومرعبة. وعندما ذهبت نوار سعد إلى إدارة الجامعة طالبة منهم التنازل لها عن الكهوف حتى تتمكن من إعادة تأهيلها بحُرِّ مالها، لم تجد معارضة أو اعتراضًا من السلطة، ولكنها دفعت مبلغًا كبيرًا من المال كرشوة لمسئول كبير من الجامعة، ومثله لموظف حكومي، قبل أن تتمكن من استلام مكتوب رسمي له قوة القانون موقعًا من قبل هذين الموظفين مختومًا بختم الدولة.
كانت أرضية الكهف عبارة عن صخرة كبيرة جيرية قديمة جدًّا، أكدت نوار سعد أنَّ عمر هذه الصخرة يقدر بملايين السنين. احتجنا في حفر القبر إلى معاول ومطارق وأيضًا نفير من أصدقاء حافظ وأسرته، وحتى أبوه نفسه شارك في نحت الصخرة الجيرية، وما كانت تستطيع المقاومة كثيرًا أمام خبرة نوار سعد وإصرار آدم وسارة. وبالرغم من كبر عدد الأفراد المشتركين في الحفر إلا أن العملية كانت في غاية السرية؛ لأننا كنا متأكدين أنه إذا علمت السلطات بما نريد أن نفعل بهذا الكهف لما سمحت لنا إطلاقًا بالاقتراب منه، واحتاج الأمر منا لمال كثير ووساطات. كنَّا نعد الكهف متحفًا لمنحوتات حافظ ومايا. كنَّا نعده مستقرًّا أخيرًا لرفات حافظ الذي أتينا به من الصحراء.
أما بقية الكهف فقد نظفت واستأنست ووضعت لها بوابات من الحديد وأقفال صلدة، فقد كانت تريدها نوار سعد لأغراض لم تفصح عنها. ولكني سمعتها ذات مرة تقول: سيأتي يوم يجيء فيه إلى هنا من يبحث عن آثار مايازوكوف؛ فإنه ليس أقل أهمية من آرثور رامبو، تمامًا كما يبحث الفرنسيون الآن عن بقايا وذكريات آرثور رامبو بين عدن وهرر … سيجيء من يبحث عن مايا العزيز.
كنا بمقهى الجامعة، الجامعة المُغلقة منذ عدة أشهر، لكن طلبة الدراسات العليا بالمكتبة الكبيرة يلخصون الأبحاث أو يؤلفون. جلسنا على المقهى نجتر الذكريات في انتظار نوار سعد، تحدثنا عن مرض المختار الذي قال عنه أمين: إنه يحيرني.
ثم انزلق الحديث إلى جثة حافظ التي وجدناها تحتَ رِمال الصحراء كاملة كأنها محنطة بحنوط مسحور، ولو أننا جاملنا والديه بموافقتهم الرأي في تفسير ذلك بقولهم: نحن من أسرة الأشراف، منحدرين من سلالة من الصالحين.
إلا أننا وجدنا أنفسنا مختلفين اليوم في التفسير، فآدم يؤكد أن هنالك أسبابًا علمية واضحة وراء ذلك، أنا كنت أومن بأنَّ كل ما يحدث في هذا الكون له سبب، ولكن ليس بالضرورة سببًا علميًّا. أَمَّا أمين فقال: أنا سأقتنع بالتفسير الذي تقوله نوار سعد؛ فابتسمت سارة قائلة: لماذا نوار سعد بالذات؟ هل لأنها خبيرة في التربة والآثار؟ فانفجرنا ضاحكين مما جعل أمين ينظر إلينا بذهول.
وفي تمام العاشرة بالضبط حضرت نوار سعد كما وعدت، وكانت جميلة ورشيقة، وفي غاية الأناقة، وهذا ما يشعل أمين بالغيظ والحب أيضًا، وعندما استفتيناها في شأن جثة حافظ، قالت: هنالك نوع من التربة يُسمى بالتربة الحافظة، وهي تتكون من مركبات كيميائية تحفظ العضويات بداخلها من عمليات التحلل، أو بالأحرى تجعل عملية التحلل بطيئة جدًّا.
كنا قد وجدنا القبر بعد تعب حقيقي، ولولا جهاز نوار سعد وخبرتها لضاعت مجهوداتنا عبثًا؛ وجدنا الجثتين في جوالين من الخيش، كانت جثة حافظ بكامل هيئتها ما عدا أثر طلق ناري في الجمجمة، أمَّا الجثة الأخرى فكانت ليست سوى كومة من اللحم الآدمي، حتى عظامه كانت مُهشمة. قالت سارة عندما رأته في غضب: هذا توحش. هل طحنوه بعجلات قاطرة؟!
ولكن تعبير أمين رغم بشاعته كان الأقرب، عندما سأل قائلًا: هل مضغه أحدهم ثم قام ببصقه في هذا الجوال؟!
المهم، أعدناه وجواله إلى قبره مرة أخرى بعد أن صلينا عليه صلاة الجنازة، ووضعنا معلمًا للقبر حتى إذا حدث وأن تغير النظام السياسي دلَّنا إليه، فقد يعرفه أهله.