مُقَدِّمَة
يذكر الكثيرون منا أن الأسعار كانت مرتفعة أثناء الحرب الماضية، وأنه حين عُقدت الهدنة زاد ارتفاعُها، حتى وصل إلى حدٍّ غير معقول، ومما نرويه من الأمثلة على ذلك أن قنطار القطن السكلاريدس بلغ في بورصة الكونتراتات ١٩٦ ريالًا، وإردب القمح بِيعَ بأكثر من سبعة جنيهات، وأن الفدان من الأرض المتوسطةِ الخُصوبةِ دُفع فيه ٥٠٠ جنيه ثمنًا، ولكن حدث بعد ذلك نزول في الأسعار، وتعاقبت على مصر وجميعِ بلاد العالم أزماتٌ متكررة، حتى كانت سنة ١٩٣١ المشئومة التي بيع فيها قنطار السكلاريدس بجنيهين، ولم يزد ثمن الفدان من الأرض الجيدة عن ٨٠ جنيهًا إذا وجد راغبًا في شرائه، ولا زالت آثار تلك السنة السيئة عالقة بأذهاننا، بل لا زالت أملاك بعضنا إلى الآن موضع التسويات العقارية.
وها نحن في الحرب الحالية نرى الأسعار قد ارتفعت، وأنها تسير في غلاءٍ مُطرد، رغم ما بذلتْه الحكومة من جهود. غلاءٌ يشكوه الناس جميعًا، وخصوصًا ذَوُو الإيرادات الثابتة، وبات الناس يتساءلون: هل سيحدث بعد الحرب الحالية ما حدث بعد الحرب الماضية؟ وما هي أسباب الغلاء والأزمات؟ وما هي نتائجها؟ وقد أخذت الحكومات تستعد من الآن؛ حتى لا تتكرر أخطاء الماضي، فقد كان من الماضي دروسٌ يجب الانتفاعُ بها، ونسمع أن حكومتنا ومعاهدنا العلمية تدرس الآن مشكلات ما بعد الحرب، وأن الخبراء جادُّون في بحث المشروعات، وأن مؤتمراتٍ تُعقد بين وقت وآخر لبحث شئون النقد والتجارة قصد الوصول إلى اتفاق بين الدول، فلا تتحارب اقتصاديًّا كما فعلت بعد الحرب الماضية، ولا تتعرض للأزمات التي تأتي عادةً عقب الحروب.
أما الغلاء فسببه بوجهٍ عام معروف؛ كثرة ما في أيدي الناس من نقود، وقلة ما عندهم من بضائع، حتى لَيقول لك رجلٌ من العامة إذا سألته عن أسباب الغلاء: إن النقود كثيرة لا يعرف الناس ماذا يصنعون بها، وإنهم لَيفضلون أن يشتروا السلع ولو كانت غالية. أما الرجل الذي نال قسطًا من الثقافة فيقول لك: إن البلاد فيها تضخُّم أحدثتْه الحرب، وهذا التضخم هو الذي سبَّب لنا الغلاء، فهو يضيف التضخم إلى الحرب؛ لأنه لا يعرف إلا تضخم الحروب، وقد انطبعت في ذهنه صورةٌ منها في الحربين، الماضية والحاضرة، وهو أيضًا لا يعرف نتائج ذلك التضخم إلا حين تقع عليه فيتألم منها ويطالب الحكومة ببذل العلاج، وهو لا يدرك أنه كانت من نتائج هذا التضخم كوارثُ أضرت بالأمم قديمًا وحديثًا، وأخذت العالم في طريقها فغيرت من قواعد بنائه الاقتصادي.