قصة المسخ
سرنا أنا والمسخ في هدوء نحو كوخه، الذي بدا مبنى بدائيًّا. دخلنا وجلسنا إلى جوار نار مشتعلة، فجعلت ألسنة اللهب وجه المسخ الشاحب يتوهج بضوء غريب. وبدأ المسخ قصته من بداية حياته؛ من تلك اللحظة المصيرية المشئومة التي تركته فيها.
قال: «من الصعب عليّ أن أتذكر الأيام الأولى من حياتي؛ فجميعها تبدو كتلة ضبابية واحدة هائلة. كنت أرى وأشعر وأسمع وأشم في وقت واحد، وكانت كل حواسي مشوشة تمامًا.»
قاطعته لأسأله: «هل كانت كل حواسك تعمل في نفس الوقت؟ قطعًا كان هذا مشوشًا.»
– «كان هذا في البداية، لكنني تعلمت بعدئذ أن أميز بينها. وكان الضوء يتعب عينيّ، فكنت أضطر أن أغمضهما وقتًا طويلًا. وبعد أن غادرت شقتك شققت طريقي نحو الغابة بالقرب من إنجولشتات. استلقيت بجانب نبع مياه ورحت في النوم. وبعد ساعات استيقظت على ألم في معدتي واحتقان في زوري. واكتشفت أنني أستطيع أن أشرب مياه النبع وكانت رائعة. وعندئذ أكلت بعضًا من ثمر التوت والجذور التي وجدتها في الغابة. معدتي ليست كمعدتك يا فرانكنشتاين، فمعدتي تستطيع أن تهضم الأطعمة الخشنة.»
قام المسخ بعيدًا عن النيران لمّا ارتفعت درجة حرارة الغرفة. ولم أكن أعرف فيما أفكر أو حتى ماذا أقول؛ لذا أنصت إليه فحسب.
– «عندما استيقظت كان الظلام يغشى الأرض وكان الجو باردًا. لم تكن الملابس التي ارتديتها دافئة بما يتناسب مع حالة الجو. كنت تعيسًا للغاية، وكانت ذراعاي وساقاي تؤلمني، وكثير من الأفكار تدور في رأسي — ولم أفهم أي فكرة منها — لذا جلست وبكيت إذ لم أكن أعرف ماذا أفعل غير ذلك.
أضاء القمر السماء، وشعرت بتحسن. ونهضت ووجدت عباءة قديمة كان قد ألقاها أحدهم تحت إحدى الأشجار. وفي الوقت الذي كانت جميع حواسي تعمل فيه معًا كان الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بتحسن هو رؤية القمر الذي كان يهدئني.»
سألته: «كم من الوقت أمضيت في الغابة؟»
– «أيامًا كثيرة؛ لم يكن لي مكان آخر أذهب إليه. مكثت هناك إلى أن استطعت أن أهدئ حواسي وأميز بعضها من بعض.»
وتنحنح المسخ قبل أن يردف: «وفي يوم من الأيام، لمّا كان الجو قارس البرودة، سرت لمسافة طويلة. كانت مجموعة من المسافرين قد تركت نيرانًا مشتعلة، وعندما جلست إلى جانب النيران ذُهلت من الشعور بالحرارة، فوضعت يدي في وسطها مباشرة! وكم أدهشني الألم الذي شعرت به!»
رفع يديه لأرى آثار الحرق، ثم قال: «تفحصت النيران عن كثب ووجدت أنها مكونة من الخشب، لذا نهضت وجمعت المزيد من الخشب حتى تستمر في الاشتعال. في تلك الليلة نمت هناك وشعرت بالدفء للمرة الأولى في حياتي. كان هذا اكتشافًا رائعًا.»
هطلت الأمطار بغزارة على الكوخ الصغير، إذ كنت أسمع صوت هطولها الشديد على السقف.
وتابع المسخ: «أمضيت الكثير من الوقت في الغابة، وكنت أقتات على التوت والمكسرات والجذور، بل تعلمت أن أسويها على النيران فكان مذاقها أحلى. ولكن بعدما تغير الجو من الخريف إلى الشتاء ندر الطعام، فأدركت أنني لا بد أن أترك الغابة.
وصلت إلى كوخ صغير بدا دافئًا وجافًّا، وأردت حقًّا أن أدخله، إذ كان الجليد يغطي الأرض والجو قارس البرودة. كان الباب مفتوحًا لذا دخلت ورأيت رجلًا كبيرًا جالسًا بجوار النيران يعد إفطاره. وحين دخلت التفت الرجل ثم صرخ بصوت عالٍ، حتى إن صوته آلم أذنيّ. وثب الرجل ثم ركض فرارًا مني، تمامًا مثلما فعلت أنت بعدما تنفست أول أنفاسي.»
كنت أشعر بالمسخ ينظر إليّ، لكنني لم أرفع عينيّ. وتابع المسخ: «أعترف بأنني أكلت إفطار الرجل. كان رائعًا، وشبعت للغاية حتى إنني رُحت مباشرة في سبات عميق على الأرض هناك.
أدركت أنني لا أستطيع المكوث هناك بعدما رأيت ردة فعل الرجل نحوي. وللمرة الأولى في حياتي سرت صوب المدينة في النهار. صُدم الناس وأصابهم الذعر، وراحوا يصرخون ويهربون عند رؤيتي، بل ضربني البعض بالهراوات ورموني بالحجارة لأنهم كانوا خائفين، فما كان مني إلا أن هربت واختبأت.
أي حياة تلك يا فرانكنشتاين؟» أجبت بهز رأسي لكنني لم أنبس ببنت شفة.
وتابع المسخ: «ركضت مبتعدًا عن ذلك المكان بأقصى سرعة. ركضت طوال طريق خروجي من المدينة. ركضت إلى أن وصلت كوخًا قديمًا مقامًا بجانب بيت صغير. كنت أدرك حينها أنني لا يجب أن أدخل إلى البيت لكي لا يرتعد مني الناس بالداخل ويحاولوا أن يؤذوني. زحفت إلى داخل الكوخ واختبأت هناك. لم يكن الكوخ رائعًا، لكنه كان آمنًا.
وكان هناك ثقب صغير في جدار الكوخ، ووجدت أنني أستطيع أن أشاهد الأسرة التي تعيش في البيت الصغير. رأيت فتاة صغيرة — سرعان ما عرفت بعد ذلك أن اسمها أجاثا — تحمل دلوًا مملوءًا بشيء ما إلى المنزل. التقاها أخوها عند باب البيت وأخذ الدلو منها كي لا تحمله أكثر من ذلك. وفي المرة التالية رأيت أخاها، الذي عرفت أن اسمه فيليكس، يحمل آلة ما ويسير نحو الغابة، ثم عاد محملًا بالحطب اللازم لإشعال النيران.
أحببت هذه الأسرة الصغيرة. لقد بدوا حزانى، لكنهم كانوا مجدين في العمل. كان والدهما ضريرًا، وعادة ما كان يجلس بجانب النيران يعزف على ناي خشبي، وكانت الموسيقى رائعة.
تعلمت الكثير منهم، وقضيت ساعات وساعات أشاهدهم. تعلمت الكلام من الإنصات إليهم، وتعلمت القراءة من خلال سماعهم وهم يروون القصص بعضهم لبعض. شاهدت الفتى والفتاة وهما يحسنان معاملة أبيهما، وشعرت أنه هكذا ينبغي أن تكون الأسرة، وتمنيت هذا لنفسي.
لقد كانوا فقراء للغاية لكنهم سعداء.
بدأت أساعدهم قدر استطاعتي، فامتنعت عن تناول طعامهم وعدت أتناول جذور النباتات والتوت. وفي الليل كنت آخذ أدوات فيليكس من الورشة كي أقطع كومات وكومات من الحطب من أجلهم. وكانوا دائمًا ما يندهشون لدى رؤية كومة جديدة من الحطب على عتبة بابهم كل صباح!
عاشوا حياة بسيطة هادئة. كانوا فقراء، لكنهم بدوا راضين. وتُقْتُ أن أتحدث إلى الرجل الطيب كي أناقش معه كتب فيليكس، وأقضي الوقت في مساعدة أجاثا في الحديقة. لم أبتغ شيئًا أكثر من أن أصير جزءًا من عائلتهم. أعلم أنك لم تردني أن أصير جزءًا من عائلتك، إذ نبذتني بعدما أعطيتني الحياة بلحظات. لكن إذا استطعت أن أجد مكانًا آخر لأنتمي إليه فسيعوضني هذا عن الألم الذي شعرت به بعدما تركتني.
وفي يوم من الأيام — وأنا في الغابة أقتات لنفسي طعامًا — انحنيت لأشرب الماء فرأيت صورتي على صفحة الماء. يا إلهي! لقد كنت مسخًا؛ مسخًا مرعبًا قبيحًا. تمنيت أن تنظر الأسرة إلى قلبي يومًا ما وترى حقيقتي، ولا تنظر إلى وجهي المخيف فحسب.
انقضى عام تقريبًا، ورأيت أنه حان الوقت الآن كي أجري محاولة وأقابل هذه الأسرة التي أردت باستماتة أن أنضم إليها. وفي صباح أحد الأيام رأيت أجاثا وفيليكس يتركان والدهما وحده كي يتمشيا في الغابة. أمسك الرجل بقيثارته وعزف لبعض الوقت. يا لها من موسيقى عذبة! لقد ألهمتني. زحفت من مخبئي وسرت نحو الباب الأمامي وقرعته.
وسمعت الرجل يدعوني للدخول.
سأل الرجل: «من أنت؟»
أخبرته أنني مسافر وسألته أن أستدفئ بجانب النيران. جلسنا وتسامرنا وقتًا طويلًا، وأخبرته كيف وصلت إلى هنا، وكيف كنت أعيش في الغابة، وكيف كنت مسخًا ينفر منه الجميع. حقق الرجل كل أحلامي عندما قال لي إنني أملك قلبًا طيبًا نقيًّا على ما يبدو. كانت تلك لحظة الحقيقة.»
اغرورقت عينا المسخ بالدموع، وهو يتابع حديثه: «أردت من أعماق فؤادي أن أخبره بالقصة بأكملها. وفعلت هذا، وأخبرته أنه أنا من كان يقطع لهم الحطب، ومن كان يساعدهم على مدار الأشهر القليلة الماضية. ذُهل الرجل الكبير، ولكن قبل أن يتمكن من قول أي شيء كانت أسرته قد رجعت إلى البيت.
صُدم فيليكس وأجاثا لدى رؤيتي وعلى الفور توقعا الأسوأ. صرخ الاثنان في رعب وجذبني الصبي بعيدًا عن والده وألقى بي خارج المنزل، وغُشي على أجاثا. أعرف أنه كان بمقدوري أن أؤذي فيليكس لأنني أضخم منه بكثير، لكنني لم أستطع أن أحمل نفسي على أذيته.
ركضت من هناك بأقصى سرعتي، وانكسر قلبي.
عرفت حينها أنني لن أستطيع أبدًا أن أكون جزءًا من أي عائلة، وأدركت أنه لن يقبلني أي شخص في العالم بسبب شكلي القبيح. لا يهم أنني أستطيع القراءة أو الكتابة، ولا يهم أنني أستطيع التفكير أو التحدث عن الفلسفة أو موضوعات عظيمة أخرى؛ سيظل الناس يخشونني دائمًا. وفي تلك اللحظة امتلأ قلبي كرهًا لك يا فرانكنشتاين لأنك جئت بي إلى عالم لن يقبلني أبدًا.»