حكاية فيكتور فرانكنشتاين كما يرويها هو
تنحدر عائلتي من جنيف. كدح أبي في العمل بشدة في شبابه. لقد أضنى نفسه في العمل بحق حتى إنه لم يفكر في أي شيء بخلاف واجبه نحو وطنه. حتى الحب بدا أقل أهمية في نظره، ولم يتزوج إلى أن تقدم به العمر.
تتجلى طبيعة صلاح أبي الحقيقية في قصة زواجه من أمي؛ فقد كان لأبي صديق عزيز اسمه بوفورت فقد كل ما يملك ومر بظروف عصيبة. علم الرجل أن حياته قد انهارت، وكان معه من المال ما يكفي فقط لسداد ديونه قبل أن يرحل هو وابنته إلى لوسرن. ولم يرد بوفورت أن يرى أصدقاءه بعدما حدث له؛ إذ كان رجلًا أبيًّا لم يشأ أن يعرف أحد ما حلّ به.
وطوال عشر سنوات كاملة ظل أبي يبحث عن صديقه ظنًّا منه أنه في مقدوره أن يجعله يعود إلى بلدته، وأراد أن يساعده في الوقوف على قدميه مرة أخرى.
ولمّا عثر عليه أبي أخيرًا كانت حاله أسوأ كثيرًا مما يمكن أن يخطر ببال أبي. كان بوفورت في حالة إعياء شديد، واضطرت ابنته كارولين أن تترك عملها كي تتفرغ لرعايته، وكان كل ما بحوزتهما معًا بضع سنتات لا غير. وعلى الرغم من الحياة القاسية التي عانتها كارولين، فإنها احتفظت برقة وطيبة فؤادها اللتين رآهما والدي فوقع في غرامها.
تدهورت صحة بوفورت ومات في غضون أشهر قلائل، واغتمت كارولين للغاية؛ إذ لم تكن فقيرة فحسب، وإنما صارت الآن أيضًا وحيدة تمامًا في العالم. وفي يوم جنازة والدها بكت بحرقة شديدة. وماذا تسطيع أن تفعل غير ذلك؟ وقعت كارولين بجانب النعش وبكت، لقد كمدها موت والدها، لكنها كانت أيضًا تتساءل عن مصيرها الآن؟!
رفعها والدي برفق، وأخبرها أنه سيعيدها إلى جنيف ويعتني بها. وبعد مرور عامين تزوجا.
وعلى الرغم من فارق السن بينهما، فإنهما نعما بحياة زوجية سعيدة، إذ كان أحدهما يكنّ الحب والاحترام للآخر، وترك والدي عمله كي يقضي المزيد من الوقت برفقتها، فالسنوات الطويلة التي قضتها أمي في رعاية والدها أضعفت صحتها. ولكي تتحسن صحتها انتقلا إلى إيطاليا حيث المناخ أكثر دفئًا. وولدت في نابولي، وذهبت معهما في كل رحلاتهما، وأحباني حبًّا جمًّا.
ولمّا كنت في الخامسة من العمر زرنا بحيرة كومو. وكان من عادة أمي أن تقدم المساعدات للعائلات الفقيرة أثناء رحلاتنا، إذ كانت تود أن ترد الجميل إلى العالم بأن تساعد الآخرين تمامًا كما ساعدها أبي. وخلال إقامتنا عند بحيرة كومو صادفت أمي رجلًا وزوجته يعتنيان بأسرتهما الكبيرة، من بين أبنائهما فتاة جميلة صافية البشرة شقراء الشعر ذات عينين زرقاوين جميلتين كانت مميزة عن باقي أشقائها. كانت الفتاة شديدة الجمال فأحبتها أمي في الحال.
زارت أمي هذه الأسرة لأيام عديدة وأمضت الكثير من الوقت تساعد الأم المسكينة وعائلتها الكبيرة، وأحضرت لهم الطعام والملابس، وأمضت أوقاتًا طيبة مع الأطفال. وإبان إقامة أمي معهم راقبت الفتاة الجميلة عن كثب فوجدتها حلوة الطبع، طيبة الخلق، لها ابتسامة عذبة.
وبعد ظهر أحد الأيام جلست أمي والمرأة تتسامران والأطفال يلهون ويضحكون ويركضون أمامهما.
أخبرت المرأة أمي أن الفتاة الجميلة ليست ابنتها، ولكنها انضمت إلى العائلة بعدما مات والداها وأصبحت يتيمة، ومع أنها انحدرت من أسرة ثرية فإنها لا تملك أي مال الآن. كاد قلب أمي ينفطر في هذه اللحظة؛ إذ كانت قصة الفتاة تشبه قصتها تمام الشبه حتى إنها سألت المرأة هل يمكن أن تأتي الفتاة لتعيش معنا. وافقت المرأة، وهكذا انضمت إليزابيث لافينزا الجميلة إلى أسرتنا.
أحببت إليزابيث منذ أن رأتها عيناي، فقد كانت فتاة مشرقة وفاتنة صارت هي كل عالمي، فلم نتشاجر قط أو حتى يسيء أحدنا للآخر. كنا مختلفين أيما اختلاف، فما كان من هذا الاختلاف إلا أن عزز أكثر حب أحدنا للآخر. أحبت إليزابيث الشعر والأشياء الجميلة: الأزهار البرية، وشروق الشمس، والفراشات. أما أنا فقد أحببت العلوم، وعالم الطبيعة، والمفكرين العظماء.
كان العالم في نظري سرًّا كبيرًا أردت أن أسبر غوره. أحبت إليزابيث منظر الأشياء، أما أنا فقد أردت أن أكتشف كيف تعمل الأشياء. وتعاونّا معًا في كل دراستنا، فكنا نقضي الساعات نجول في الحقول ونسبح في البحيرات ونقرأ طوال ساعات الليل.
وبعد مولد أخي إيرنست قرر والداي العودة إلى الوطن للأبد، فاستقررنا في منزل بجنيف وابتعنا منزلًا صغيرًا في بيليريف، على الساحل الشرقي من بحيرة جنيف. وعشنا في الريف أكثر مما عشنا في المدينة، إذ كان الريف مكانًا رائعًا لنترعرع فيه.
أمضينا أنا وإليزابيث كل لحظة معًا، وعادة ما كان ينضم إلينا صديقنا هنري كليرفال، الذي كان ودودًا محبًّا للهو والمرح، وكان ثلاثتنا مختلفين اختلاف الليل والنهار، ومع ذلك أحببنا بعضنا بعضًا. نعم ثلاثتنا بطفولة سعيدة سعادة بالغة، وكانا هما أعز أصدقائي، وكنت على يقين من أننا سنظل على الدوام مقربين بعضنا من بعض.
كنت صبيًّا رزينًا دائم التفكير. وأردت أن أتعلم كل شيء وأي شيء، وقد استهوتني أسرار السماء والأرض إلى ما لا نهاية، فكان لا يشغلني شيء سوى العالم من حولي: كيف يسير؟ ولم نحن هنا؟ وكيف جئنا كلنا إلى هذا العالم؟ وما الذي يبعث الحياة في شيء ما؟ ومتى أثارت دراستي اضطرابي — وهو ما كان يحدث كثيرًا — كانت إليزابيث تهدئ من روعي. وعندما كنت أصب جمّ تركيزي على موضوع واحد كان هنري يُضحكني.
ولما كبرت تعمقت في دراستي أكثر فأكثر، وأذهلتني قوة العلوم الحديثة، فكنت أقرأ طوال الوقت، وسودت الدفاتر بأفكاري. وباتت كلمات العلماء هي حياتي. وكلما استذكرت تعاظمت رغبتي في معرفة المزيد، فقرأت المزيد والمزيد. لكن كلما قرأت أكثر ازداد انزعاجي؛ إذ لم يجب ولا عالم واحد عن أسئلتي قط، ولم يخبرني ولا كتاب واحد بما أردت أن أعرفه بالضبط. كانت الأفكار تتزاحم برأسي طوال الليل عادة. وكان أصدقائي وأفراد عائلتي لطفاء، فتغاضوا عن أمزجتي المتقلبة، وكانوا يدعمونني مع أنني كنت أمضي أوقاتًا طويلة منكبًّا على قراءة كتب قديمة تعلوها الأتربة.
وظلت الطبيعة مثار تساؤل وغموض لي. بحثت عن سر الحياة. في حقيقة الأمر أردت أن أصنع حياة، لكنني علمت أنه ليس في مقدوري فعل هذا. ولم يكن الوقت والمال يعنيان لي الكثير. الشيء الوحيد الذي كان يهمني هو الاهتداء إلى اكتشاف عظيم. لعلي أستطيع إنقاذ البشرية من الأمراض. وربما أمكنني منع الموت العنيف. ولعلي أستطيع في نهاية المطاف الإجابة عن تلك الأسئلة الغامضة.
وفيما كنا نقيم في بيتنا الصيفي الصغير، في الصيف الذي بلغت فيه الخامسة عشرة من العمر، إذ بعاصفة عنيفة هوجاء تهب دون سابق إنذار تقريبًا، والرعد يهزم عاليًا في السماء، والسماء تتقد بوميض البرق. وقفت عند الباب الخلفي وحدقت في السحب أتابع العاصفة. وفجأة قصف الرعد بقوة في كل الأرجاء! وبعد لحظة ضربت صاعقة برق شجرة بلوط قديمة أمامي مباشرة، فقسمت قوة الصاعقة الشجرة إلى نصفين ثم اضطرمت النيران فيها.
وعندما خرجت في الصباح التالي لأتفقد الشجرة، كان كل ما وجدته هو جذل محترق وقطع خشب متناثرة في كل مكان.
ومن ثم ركزت بشدة على الكهرباء، إذ أردت أن أعرف كيف اجتمعت كل هذه القوة في صاعقة برق؛ فبدأت بالأساسيات ودرست الرياضيات. علمت أن المبادئ الأساسية تحوي الخيط الذي سيمكنني من بناء مجدي الشخصي. وسرعان ما انشغلت بمنطق الأعداد. لعلي لو علمت حينذاك ما الذي سيحل بي في السنوات اللاحقة، لامتنعت عن الدراسة، لكن القدر دبر الأمور بطريقته، وحدثت العاصفة لسبب ما.