مأساة تحل بالأسرة
مرت السنون وكبرنا. وسرعان ما آن أوان سفري للالتحاق بالجامعة. وقبل رحيلي إلى ألمانيا مباشرة مرضت إليزابيث بشدة بالحمى القرمزية، واستبد بنا جميعًا القلق من أجلها، وما زاد الأمر سوءًا أن الطبيب أخبرنا أن نبتعد عنها خشية أن تنتقل العدوى إلى أي أحد آخر.
تولى الطبيب الاعتناء جيدًا بإليزابيث. وبعد مرور أسبوع من مرضها جاء إلى أمي بوجه حزين وأخبرها بأن حالة إليزابيث تدهورت، فلم تحتمل أمي الابتعاد عنها أكثر من هذا، فهرعت إليها واعتنت بها حتى استردت صحتها. لكن سرعان ما تحول هذا الحب إلى مأساة، ومرضت أمي أيضًا.
تمكنت الحمى القرمزية من أمي ولم تفارقها، وساءت حالتها أكثر فأكثر. وقبل موتها مباشرة طلبت أمي أن تراني أنا وإليزابيث. جلسنا إلى جانبيها في سكون كل منا يمسك بإحدى يديها. ومع أن وجهها كان شاحبًا فقد ظلت جميلة. شخصت إلينا في محبة بعينيها الشفوقتين، وابتسمت وهي تخبرنا بأنها تريدنا زوجين، وكانت تعلم أننا كنا صغيرين على أن نتزوج على الفور، لذا جعلتنا نقطع لها وعدًا بأن نتزوج عندما نكبر. لم نندهش أنا وإليزابيث من طلبها؛ إذ كنا نعلم دائمًا في أعماق قلبينا أننا سنتزوج في نهاية المطاف. ووعدناها برضا تام بأننا سنتزوج حالما أنتهي من دراستي.
عندئذ طلبت أمي من إليزابيث أن تعتني بأسرتنا بعد رحيلها، وأرادتها أن تربي إيرنست وأخي الأصغر ويليام الذي كان رضيعًا بعد، فوعدتها إليزابيث بأنها ستشملهما بأحسن رعاية.
وبعدما ودعتْ أبي وداعًا مليئًا بالحب، رقدت أمي رقاد الموت في هدوء. بكيناها بكاءً مرًّا، وافتقدنا وجودها كل يوم. لكن الحقيقة المرة هي أن عجلة الحياة لا تتوقف؛ فبعد مرور وقت قليل أخبرني أبي برغبته في أن أذهب إلى الكلية، وأنه يتفهم أنني أفتقد أمي وأنني أريد أن أمكث لمؤازرة أسرتي، لكنه أخبرني أنه لا ينبغي أن تتوقف حياتي بسبب حزني؛ ففي النهاية تعليمي أهم من حزني.
لم أشأ أن أترك أسرتي في خضم حسرتها الشديدة على موت أمي المفاجئ، لكن إليزابيث حدثتني على انفراد في أحد الأيام ونصحتني بالذهاب.
قالت إليزابيث في هدوء: «فيكتور، كلما عجلت بإنهاء دراستك استطعنا أن نتزوج سريعًا. كانت أمنية والدتك عند موتها أن ترانا سعيدين. لا بد أن ترحل إلى ألمانيا. لو كانت والدتك على قيد الحياة لكان هذا ما ستريده.»
علمت في قرارة نفسي أن إليزابيث على حق. وقد كانت محقة بشأن الكثير من الأمور. وأصبحت إليزابيث الصخرة التي نعتمد عليها كلنا؛ إذ كانت قوية واعتنت بأبي وأخوي عناية خاصة، وأغدقت علينا الحب من قلبها العطوف الرقيق، فكان حبي لها يزيد مع انقضاء كل يوم. أحببتها حبًّا عميقًا. لقد كانت إنسانة معطاءة. ولمّا علمتُ أن أسرتي في رعايتها سَهُلَ عليّ الرحيل كثيرًا.
وفي الليلة التي سبقت يوم رحيلي إلى ألمانيا جلسنا أنا وهنري وإليزابيث في المطبخ نحتسي مشروب الشيكولاته الساخنة ونتسامر. تذكرنا قصصًا من طفولتنا، وتحدثنا عن أحلامنا، ولم يرد أحد منا أن ينام، لذا سهرنا طوال الليل. واحتسينا طوال الليل بلا انقطاع قدحًا تلو الآخر من ذلك المشروب الحلو الدافئ. وعندما أشرقت الشمس في الصباح التالي لم يرد أحدنا أن يفارق الآخر.
وبعد ساعتين كانت حقائبي جاهزة وموضوعة في العربة. وأخيرًا حان وقت الرحيل. عانقت أبي عناقًا طويلًا، وطلبت من إليزابيث أن تعدني بأن تكتب إليّ بلا انقطاع. وحبس إيرنست دموعه وأمسك بالرضيع ويليام بقوة، وصافحني هنري بكل قوته. لقد ودعوني وداعًا حارًّا رائعًا.
دلفت داخل العربة وقلت لهم: «لا تقلقوا جميعًا! سأراكم عما قريب!»
بهذه الكلمات بدأت الرحلة الطويلة إلى ألمانيا. استلقيت في المقعد ونظرت من نافذة العربة إلى منزلي الذي أخذ يتضاءل شيئًا فشيئًا في الفضاء. ولأول مرة في حياتي صرت وحيدًا تمامًا.