فرانكنشتاين يعود إلى وطنه
عندما عدت إلى المنزل وجدت خطابًا من أبي في انتظاري. فتحته في سعادة ووجدت أنه يحتوي على أخبار سيئة. قرأت كلمات أبي ببطء: «ليست هناك طريقة سهلة أخبرك بها هذا، مات أخوك ويليام.»
اغرورقت عيناي بالدموع، ومضيت في قراءة الخطاب: خرجت أسرتي للتمشية كعادتهم بعد تناول العشاء، وكان المساء دافئًا وهادئًا لذا قرروا المكوث خارج المنزل لوقت أطول من المعتاد. سار أبي وإليزابيث وراء ويليام وإيرنست، وبدلًا من أن يلحقا بهما قررا الجلوس وانتظار الصبيين إلى حين عودتهما. وعندما عاد إيرنست أخبرهما أن ويليام ركض كي يختبئ وهما يلعبان معًا، لكنه لم يستطع العثور عليه في أي مكان.
ارتعد أبي وإليزابيث، وبدءوا جميعًا في البحث عنه في الحال. أمضوا ساعات وساعات لكنهم لم يتمكنوا من العثور عليه، فاستدعوا الشرطة وتجمع فريق للبحث، وقضوا الليل كله يبحثون عن ويليام. بحثوا في كل مكان وكل ركن يمكن أن يختبئ فيه طفل صغير لكن دون طائل. لم ينبس أحد من فريق البحث ببنت شفة، لكنهم جميعًا خافوا أن يكون قد وقع مكروه لويليام المسكين. وكانت ليلة مفجعة لإليزابيث.
في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي عثر أبي على أخي، وقد وقع أسوأ ما كان يخشاه: كان ميتًا. حزن أبي والجميع حزنًا جمًّا.
وكتب أبي في الخطاب: «ارجع يا فيكتور، فأنت الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يساند إليزابيث في هذا الوقت العصيب.»
كان وقع الخبر على إليزابيث أصعب من وقعه على أي فرد في الأسرة، فقد ظنت أن الخطأ خطؤها؛ فهي التي أعطت ويليام في هذا الصباح قلادة ذهبية تخص والدتنا، وظنت أنه لا بد أن القلادة هي التي تسببت في الحادث السيئ، فقطعًا التقى به لص وحاول أن يأخذ القلادة. لو لم تعطه إياها لكان لا زال على قيد الحياة.
وضعت الخطاب على الطاولة وأجهشت في البكاء.
قال هنري: «فيكتور، ما الخطب؟ هل وقع مكروه؟»
لم أستطع أن أتكلم، لذا أعطيته الخطاب، فصاح هنري: «يا إلهي! وماذا ستفعل؟»
أجبته: «لا بد أن أرجع إلى بلدي في الحال؛ فأسرتي في أمس الحاجة إليّ، ويجب أن أكون معهم.»
حزمت حقيبتي في عجالة، ولم يكن هناك وقت للتنظيم فألقيت الأشياء بداخلها في كل الاتجاهات في محاولة ألا أفكر في أمر أخي المسكين. ساعدني هنري، وطلب من مديرة المنزل أن تعبئ لي غداءً، وقد فعلت هذا برضا. ورتبنا معًا كتبي وأوراقي وملابسي من أجل رحلة العودة إلى جنيف.
كان هنري ينوي أن يستمر في الإقامة بشقتي في إنجولشتات، فلا بد أن يكمل دراسته، ولم أكن أمانع في هذا. غير أنني أغلقت معملي جيدًا وأخذت المفتاح معي إذ لم أشأ أن يدخله هنري أثناء غيابي.
سرنا ببطء، وقلوبنا تدمي، إلى العربة. عانقني هنري بقوة وودعني وداعًا مليئًا بالشجن وقال: «أرسل تحياتي إلى أسرتك يا فيكتور، وأخبرهم أنني في غاية الحزن لما حدث.»
– «سوف أخبرهم يا هنري. أنت صديق مخلص. سأفتقدك بشدة.»
ولم يكن هناك شيء آخر يُقال، لذا صعدت إلى العربة، وصاح السائق في الحصانين وابتعدنا. التفتُّ لأطل عبر النافذة على هنري الذي كان لا يزال يقف في مكانه يلوح بعدما ابتعدت العربة، وانهمرت الدموع على وجهي. انتحبت على أخي العزيز الطيب، وفكرت في أمي. شعرت بالأسف على نفسي، وعلى خذلاني لأسرتي. كان لا بد أن أكون سندًا لهم أثناء هذا الوقت العصيب. كل ما تمنيته هو ألا يكون قد فات الأوان.
كانت العربة دافئة ومريحة، لكن رحلتي التي دامت ثلاثة أيام كانت مليئة بالألم؛ فقد مرت ست سنوات منذ أن رأيت وطني. وعندما رأيت قمة الجبل الأبيض أجهشت بالبكاء؛ فها هو وطني، وطني الحبيب! وحل الظلام عندما اقتربنا من الوطن، وبوصولنا إلي جنيف كانت المدينة قد أغلقت أبوابها، فاستدار السائق واتجه بي إلى مدينة سيشرون الصغيرة التي تبعد نحو ميل حيث قضيت الليل.
عندما ترجلت من العربة وتمطيت نظرت لأعلى ورأيت السماء صافية وتزخر بالكثير من النجوم. راق لي الجو من حولي. كانت ساقاي متعبتين للغاية من طول السفر، فأدركت أنني لن أستطيع النوم أبدًا، فقررت أن أزور البقعة التي عثر أبي فيها على ويليام.
ولمّا كانت أبواب المدينة مغلقة، كان لا بد أن أعبر بحيرة جنيف بالقارب. ومن حسن حظي أنني استطعت أن أستعير قاربًا من النُّزل الذي كنت أقيم فيه. وأثناء رحلتي القصيرة انقلب الجو سريعًا للأسوأ فأومض البرق في السماء التي كانت صافية منذ دقائق فحسب. وبدأت الأمطار تهطل، فجدفت بالقارب بكل ما أوتيت من قوة كي أصل إلى البر. تلبدت السماء بالغيوم، فصعب عليّ أن أرى طريقي. وقصف الرعد فوق رأسي وأنا أتقدم بسرعة نحو البر.
رسوت على الشاطئ وسحبت القارب بعيدًا عن المياه وربطته ثم ركضت نحو الغابة. وكانت عندي فكرة مبدئية من خطاب أبي حول مكان وقوع الجريمة، لذا سرت بهذا الاتجاه. صحت بقوة: «أوه، ويليام! أيها الصبي الحبيب المسكين.» وفيما فارقت هذه الكلمات شفتي رأيت شخصًا يركض بعيدًا من وراء الأشجار. وقفت كالصنم في مكاني. أيعقل هذا؟ أجل! لقد كان المسخ؛ ذاك الكائن المخيف الذي بعثتُ فيه الحياة. وفي الحال أدركت أنه هو من اقترف الجريمة. هو وحده من اقتنص حياة ويليام؛ هذا المسخ اللعين!
بدأت أسناني تصطك بعضها ببعض، وشعرت بوهن في ساقيّ، فاتكأت على إحدى الأشجار وحاولت أن أتنفس بعمق. رأيت المسخ وهو يركض بسرعة مبتعدًا. وبدأت أطارده على الرغم من الوهن الشديد الذي أصاب ساقيّ. أصابت أغصان صغيرة ساقي، وكدت أتعثر فوق عدد من الصخور. ركضت بأقصى سرعة ممكنة لديّ. قفز المسخ فوق أشجار متساقطة ثم جثم تحت الأفرع. حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أمسك به لكن دون طائل، فقد بلغ حافة الغابة الصغيرة ثم اختفى.
جلست بجانب إحدى الأشجار فيما استمرت الأمطار في الهطول، فكانت ملابسي تتشرب بالماء أكثر فأكثر، لكنني لم أستطع الحراك. تُرى ماذا يريد المسخ؟ وهل كانت هذه جريمته الأولى؟ ما عدد الأشخاص الآخرين الذين آذاهم؟
قضيت ليلتي مبللًا وأشعر بالبرد القارص في الهواء الطلق. وعندما طلع النهار شققت طريقي عائدًا للنُّزل وأرجعت القارب. قررت أن أسير بقية الطريق إلى المنزل، فقد يساعدني هذا الوقت على التفكير، وتولى سائق العربة نقل حقائبي إلى المنزل. وتسارعت الأفكار في ذهني: كيف أفسر لوالدي ما حدث؟ كيف أخبره أنني صنعت إنسانًا، مسخًا، من أعضاء مختلفة؟ كيف أخبره أن هذا المسخ قتل ويليام وأنه مختبئ في مكان ما في الجبل الأبيض؟ سأبدو مجنونًا. لا، لا بد أن أحتفظ بسري لنفسي في الوقت الحالي. ليس أمامي خيار آخر.
وأنا أسير في الطريق نحو منزلنا لاحظت أنه لم تحدث سوى تغيرات طفيفة للغاية، ولم يبدُ أن المنزل تغير، وكان هذا يبعث على الراحة. وفي هدوء فتحت الباب الأمامي ودلفت للداخل، فوجدت أخي إيرنست مستيقظًا بالفعل وجالسًا في غرفة المعيشة.
ابتسم ابتسامة واهنة وقال: «مرحبًا بعودتك يا فيكتور! يؤسفني أن عودتك جاءت وسط كل هذا الحزن. وحينما فتحت ذراعيّ كاد إيرنست يسقط سقوطًا فيهما وأجهش بالبكاء. كنت متألمًا أيضًا. لو لم أجبر نفسي على العمل بهذه الجدية، لما حدث هذا أبدًا. أنا المسئول مسئولية تامة عن وقوع هذا الخطأ. لقد دمرت هذه الأسرة الجميلة بيديّ، وعملي هو السبب في الحزن الذي تشعر به عائلتي الآن.
سألته: «كيف حال أبي وإليزابيث؟»
مسح إيرنست عينيه وحاول أن يقف بثبات وقال: «حزينان، لكن لمّا قُبض على الجاني الآن …»
قاطعته: «قبض عليه؟ ماذا تقصد؟ لقد رأيته طليقًا الليلة الماضية.»
ارتبك أخي وقال: «لا، إنها جاستين، مربية ويليام. لقد وُجه إليها الاتهام وهي في السجن الآن. قبضت الشرطة عليها الليلة الماضية؟»
ارتبكت وقلت في دهشة: «جاستين؟! إنها فتاة طيبة؟ لا، إنها ليست مذنبة. لا بد أن هناك خطأ ما.»
جلس إيرنست على الأريكة وشرح ما حدث: «بعدما رجع أبي بالأخبار السيئة مرضت جاستين، ولازمتها الحمى لبضعة أيام، فاستدعى أبي الطبيب الذي لم يجد بها أي علة. وبينما إحدى الخادمات تأخذ ملابس جاستين لتنظيفها، إذ وقعت قلادة أمنا من جيب تنورتها. تكتمت الخادمة الأمر عن الأسرة لكنها ذهبت إلى الشرطة مباشرة.»
واسترسل أخي: «وعندما جاءت الشرطة لتستجوبها، لم يكن من جاستين إلا أن بكت. كانت مرتبكة أيما ارتباك ومنزعجة للغاية حتى إن الشرطة قررت أنها لا بد أن تكون هي الجانية.»
وبينما نتحدث دخل أبي، وقد بدا خائر القوى ومتعبًا، لكنه ابتسم ابتسامة دافئة عندما رآني.
قال أبي: «بني، كم أنا سعيد لعودتك إلى بيتك.» وعانقته بقوة.
هتف إيرنست: «أبي! يعرف فيكتور من قتل ويليام …»
قال أبي: «وا أسفاه، ونحن أيضًا نعرف، وليتني ما كنت أعرف. من المؤسف أن تعرف أن شخصًا عاملناه كفرد من أفراد الأسرة يفعل شيئًا بهذه البشاعة.»
قلت: «لكن جاستين بريئة يا أبي.» كنت أتوق إلى أن أخبره كل شيء بشأن المسخ وكيف فشلت تجربتي فشلًا ذريعًا، لكنني لم أستطع، فسيغضب مني لا ريب.
قال أبي: «حسنًا، أتمنى أن تكون على حق. ستبدأ محاكمتها اليوم.»
التفت لأرى إليزابيث قادمة نحو الغرفة. لم يغير الزمن من ملامحها، فعلى الرغم من حزنها الواضح، فقد تحولت من فتاة صغيرة لطيفة إلى امرأة جميلة. ولما رأيتها اضطرمت نيران الحب الذي أكنه لها في قلبي.
تعانقنا، وكما أبي وأخي، قالت لي هي أيضًا إنها سعيدة بعودتي إلى البيت. أخبرها إيرنست سريعًا عن حديثنا.
التفتت إليزابيث إليّ وقالت: «فيكتور، لا بد أن ننقذ جاستين. لا أصدق أنها هي التي ارتكبت الجريمة، ولن أصدق هذا!» ثم جلست على الأريكة، وأخرجت منديلها من جيبها ومسحت دموعها.
ثم أردفت إليزابيث: «إنها فتاة طيبة، وقد أحبت ويليام كما لو كان أخاها، ويستحيل أن تكون قد آذته. لا أستطيع أن أتخيل موقف الشرطة!»
أجهشت إليزابيث في البكاء مرة أخرى، فوضعتُ يدي على كتفها وقلت: «إليزابيث اهدئي. جاستين بريئة، ليس هناك ما نخشاه. ولن تُسجن.» وبداخلي قطعت وعدًا بأن أفعل كل ما بوسعي كي أعوض عن كل ما ارتكبته من أخطاء وأصلح الموقف الذي جعلت أسرتي تمر به؛ فهم لا يستحقون أن يعانوا بسبب أخطائي الكثيرة.
قلت لإليزابيث: «لا تقلقي، سيكون كل شيء على ما يرام.» ثم ابتسمت لها ابتسامة دافئة وأمسكت بيدها وقلت: «أعدك بهذا.»
أضاف أبي: «لا بد أن نثق أن نظامنا القانوني سيفعل الشيء الصحيح. حتمًا ستظهر الحقيقة.»
وبتلك الكلمات الأخيرة اتجهت أنا وأسرتي إلى غرفة الطعام لتناول الإفطار حيث ساد الصمت. كنت أعلم في قرارة نفسي أنهم يفكرون في ويليام المسكين، وكم كانت ستحزن أمي لو أنها على قيد الحياة. لكن ذهني كان يعاود التفكير في فكرة واحدة مرعبة: أين المسخ الآن؟