مقدمة الطبعة الثانية والعشرين
رسالة مفتوحة إلى فراس السواح
وردتني هذه الرسالة على موقع مجلة «ألف» منذ سنوات، وقد وجدتها مناسبةً لتكون مقدمةً لهذه الطبعة يكتبها القُرَّاء.
«من الطبيعي أن يشعر المؤلِّف بالرضا عن نجاح كتابه، لكن الرضا قد تحوَّل عندي بعد مدة إلى عجب وحيرة؛ فلقد قيل عقب صدوره بأن «مغامرة العقل الأولى» قد سدَّ فراغًا في المكتبة العربية، وهذا سبب نجاحه. ولكن لماذا بقي حيًّا كل هذه السنين رغم موجة الكتب المؤلَّفة والمترجمة التي استثارها صدوره؟ وما هي الحاجة التي بقي الكتاب يسدها حتى الآن؟ أَصْدقكم القول لست أدري.» من مقدمة الباحث والمفكِّر السوري فراس السواح للطبعة الحادية عشرة لكتاب مغامرة العقل الأولى.
عندما وُلدت مغامرتك الأولى يا سيدي لم أكن قد وُلدتُ بعد. وعندما راودك هذا التساؤل كنت طفلًا في الحضانة يلعب مع زملائه، ويحاول معهم فكَّ ألغاز هذا الكون بعقله الضامر. لكن اليوم، لا أُخفيك القول إنه راودني عين التساؤل الذي دار في ذاتك: ما الفراغ الذي سدَّه هذا الكتاب في نفسي؟
يا سيدي، إن كتابك قد سئم مني، أصبحت أرى الملل في عيون غلافه الذابلة، وكأن العقل الذي مدَّ جناحَيه استعدادًا للمغامرة يحاول الآن الهرب من أحضاني. أصبحت أسمع عويل صفحاته وتوسُّلاتها، راجيةً الرحمة مني والراحة. ها أنا أكتب هذه الكلمات وقد انتهيت من قراءتي الرابعة عشرة لهذا الكتاب. هذا وقد حطَّ بصري صدفةً على مغامرتك في إحدى المكتبات منذ ما يُقارب العام فقط. منذ تلك اللحظة أصبح فراس السواح بعيوني نبيًّا، كتبه أحاديث صحيحة، ومغامرته الأولى إنجيلًا أعود له كلما تعطَّشَت نفسي لملاقاة روحها.
ففي المرة الأولى التي خضت فيها المغامرة معك أُصِبت بالذهول. بدأت قراءة ذلك الكتاب عند منتصف الليل تقريبًا، لكني لم أدعه حتى ظهر اليوم التالي بعد أن انتهيت من قراءة جميع أسفاره بنَهَمٍ عظيم، وانتابني شعور بالضياع، لا يمكن لكلماتي أن تصفه. لكني أصبحت أشبه بنبي يجوب الشوارع منذرًا الناس باقتراب يوم الدين، وكلما رأيت شخصًا كلَّمته عن الكتاب ودعوته لقراءته، واستعرضت له بعض ما اكتسبت منه.
لكني في كل مرة أقرأ فيها هذا الكتاب أُذهل وكأنها المرة الأولى. كما لو أن مغامرة العقل الأولى هو الأفعى التي سرقت من جلجامش زهرة تجدُّد الشباب. فعند كل سطر من سطوره، أتوقَّف فأرى فيه روح شاب مكبوتةً تريد التعبير عن ذاتها، تريد البوح بآلامها، تريد قول ما تعجز كتب العالم على استيعابه إذا دُوِّن. فكل سطر من سطوره هو بحث شامل لقضية ما، فصرت أقضي ساعات تصوُّف مع ذلك الكتاب، محاوِلًا إزاحة السطور لقراءة ما تُخفي خلفها، والغوص في أعماقها لأتعرَّف على أصولها سعيًا لاكتشاف سر ذلك الكتاب، وما له دون سائر كتب المكتبات، ودون سائر كتب مؤلِّفه. حتى حللت ذلك اللغز.
إن مغامرتك الأولى يا سيدي هي صرخة استغاثة، أتت لتُعبِّر عن نفوس شباب أمة، حوَّلتها عصور من الانحطاط إلى مقبرة للعقول. فمغامرة العقل الأولى يا سيدي هي أكبر وأشمل من مجرَّد بحثٍ في الأسطورة، وفراس السواح في مغامرته الأولى لم يكن ذلك المفكِّر المتميِّز والباحث في أصول الأديان، بل كان جلجامش الذي يتحدَّى الصعاب ويخوض المغامرات في سبيل تحقيق ما عجز عنه واستسلم أمامه أبناء أمته.
فكتاب مغامرة العقل الأولى هو بعثُ للعقول الميتة. ولولا عصور الجهل والانحطاط التي مرَّت على أمتي لَمَا كانت مغامرة العقل الأولى تعبيرًا عن آلام النفوس التي فقدت حقيقتها. ولولا مغامرة العقل الأولى لَمَا كان فراس السواح أقنومًا من أقانيم الحكمة، وقدوةً لشباب سوريا الذين بُعثت جذوة النار في عقولهم. وستبقى مغامرة العقل الأولى خالدة، يخوضها معك في كل زمان ومكان أنكيدو جديد.
يا سيدي!
لقد دخلتَ كجلجامش أرض الأحياء: «وخلَّدت لنفسك هناك ذكرًا.
على ذروة الأماكن التي تُرفع فيها الأسماء قد رفعتَ اسمك.
وعلى ذروة الأماكن التي لم تُرفع فيها الأسماء رفعت مغامرتك الأولى».