ازدهرت الثقافة السومرية في الجزء الأسفل من حوض دجلة والفرات وحول الشواطئ العليا
للخليج العربي، منذ أواسط الألف الرابع قبل الميلاد. ورغم مرور فترة لا بأس بها على
اكتشاف الحضارة السومرية، فإن أصول الشعب السومري ما زالت قضيةً يكتنفها الغموض. على
أن
أكثر النظريات قوةً اليوم هي النظرية التي تقول بقدوم السومريين من أواسط آسيا. ولقد
أثبتت الدراسات اليوم أن أرض سومر لم تكن خاليةً من السكان قبل قدوم السومريين، بل كانت
مسكونةً بأقوام ساميين، ذوي لغة وثقافة سامية، لا نعرف عنها الكثير، ولا نعرف ماذا أعطت
للغُزاة الآسيويين. ولكن الشيء الأكيد هو أن الثقافة السومرية قد نضجت من احتكاك هذَين
الشعبَين وتفاعلهما مع بعضهما البعض في تلك الحقبة المبكِّرة من تاريخ الإنسانية.
ولقد كان للثقافة السومرية تأثير كبير على ثقافة الشرق الأدنى القديم؛ فهي التي أعطت
المنطقة الخط المسماري الذي غدا واسطة الكتابة لدى جميع شعوب المنطقة. وهي التي طوَّرت
منذ الأزمنة السحيقة مبادئ دينية وروحية، ظلَّت سائدةً فترةً طويلةً من الزمن، حتى وصلت
تأثيراتها إلى الثقافة الإغريقية في الفترات المتأخِّرة جِدًّا. وهي التي وضعت أُولى
الملاحم الشعرية، وأُولى التراتيل الدينية والقصائد الدنيوية، وأُولى التشريعات والقوانين
والتنظيمات المدنية والسياسية. وباختصار: فالتاريخ يبدأ من سومر.
لم تصلنا عن السومريين أسطورة متكاملة في الخلق والتكوين وأصول الأشياء، وإن كان
العلماء لا يستبعدون العثور على مثل هذه الأسطورة، سواء في الألواح الفخارية المبعثرة
في معظم متاحف العالم، أو في باطن أرض سومر حيث ما زلنا نتوقَّع مزيدًا من الكشف عن
التاريخ المطمور. إلا أن النصوص المتفرِّقة التي تمَّ العثور عليها، والمتعلقة بأمور
الخلق
والتكوين، تكاد تُعطي صورةً واضحةً عن أفكار السومريين بهذا الشأن. وإن دراسةً متعمقةً
لتلك
النصوص وربطها ببعضها في سلسلة منطقية، لتدلُّنا على أن الأسطورة ليست بالسذاجة التي
تبدو
عليها في نظر القارئ العادي. وإن الرموز الأسطورية التي استخدمها الإنسان القديم ليست
إلا وسيلة إيصال وقالَب تعبير. إنها لغة متميِّزة، تحاول من خلال مفرداتها وتعابيرها
ومصطلحاتها إيصال حقائق مُعيَّنة، وهي منهج له من المشروعية ما لبقية المناهج التي ابتكرها
فكر الإنسان لاحقًا، إذا أخذنا بعين الاعتبار العملية التطوُّرية البطيئة والصاعدة التي
سار بها عقل الإنسان منذ فجر التاريخ.
تتطابق هذه النظرات في بعض جوانبها مع النظريات العلمية الحديثة؛ فولادة القمر من
الهواء لا تبعد كثيرًا عن النظريات القائلة بتشكُّل الأجرام السماوية من السحب الغازية.
أمَّا صدور الأشياء عن المياه الأولى فلا يبتعد عن الاكتشافات العلمية الحديثة المتعلِّقة
بنشأة الحياة وتطوُّرها ابتداءً من البحر. وأُريد هنا أن ألفت النظر إلى نقطة هامة لفهم
الفكر الأسطوري وتطوُّره. فالفكر القديم ابتدأ ماديًّا حسيًّا، وبعيدًا عن التجريد. وفكرة
القوة المبدِعة المنفصلة عن الكون الفاعلة فيه عن بعد، لم تكن موجودةً في ذهن خالق
الأسطورة؛ فعمليات الخلق ليست فعلًا صادرًا عن الآلهة منفصلًا عنها، بمقدار ما كانت
تبديًا لحركتها وتفاعلها مع بعضها. ففي البدء كانت المياه الأولى، أزليةً غير مخلوقة
ولا منبجسة عن العدم. وجبل السماء والأرض لم يُخلق بفعل قوة خارجية مجرَّدة متعالية،
بل
جاء نتيجة إخصاب ذاتي للأم الأولى التي ولدته من رحمها، كما تلد أمهات البشر والحيوان،
وكما يتكاثر النبات. وكذلك الأمر بالنسبة للقمر والشمس وغيرهما.
والآن لنأتِ إلى استعراض أهم النصوص التي وصلت إلينا، والتي تُلقي الضوء على أفكار
السومريين في موضوع البدء والتكوين.
(١) فصل السماء عن الأرض
في مطلع أسطورةٍ تحكي عن خلق الإنسان، نعثر على إشارة لجبل السماء والأرض.
في جبل السماء والأرض
أنجب آن أتباعه الأنوناكي.
١
وهذا الجبل لم يكن أزليًّا، بل مخلوقًا؛ فمن لوح آخر مخصَّص لتعداد أسماء
الأنوناكي، آلهة سومر، نعرف أن الإلهة نمو وهي المياه البدئية، قد أنجبت السماء
والأرض، اللتَين انفصلتا عن بعضهما. ويشير مطلع أسطورة أخرى عرضًا إلى هذا الانفصال،
فيقول:
بعد أن أُبعدت السماء عن الأرض
وفُصلت الأرض عن السماء
وتمَّ خلق الإنسان
وأخذ آن السماء
وانفرد إنليل بالأرض
أخذ الإله كور الإلهة إريشكيجال غنيمة.
٢
والإله كور في الميثولوجيا السومرية، هو رب العالم الأسفل، عالم الموتى الذي تمضي
إليه الأرواح. أمَّا إريشكيجال فقد كانت إلهةً أرضية، تزوَّجها كور بعد أن اختطفها إلى
عالمه الأسفل لتغدو إلهة ذلك العالم، وسيدته المطلقة، تمامًا كالإلهة بيرسيفوني في
الميثولوجيا الإغريقية، التي اختطفها إله العالم السفلي هاديس من أمها إلهة الخصب
ديمتر، فصارت ربةً للعالم الأسفل وزوجةً لسيد عالم الموتى. وممَّا يثبت الرابطة بين
الأسطورتَين أن اسم كور الذي بقي في اللغة السومرية دلالةً على العالم الأسفل حتى
الفترات المتأخِّرة، وزوال ذكرى الإله القديم وأسطورته، هو أيضًا اسم ربة العالم
الأسفل الإغريقية، التي تُشير إليها الأساطير أحيانًا باسم بيرسيفوني، وأحيانًا أخرى
باسم كور.
وفي مطلع أسطورة ثالثة نعرف مزيدًا من المعلومات عن فصل السماء عن الأرض، والإله
الذي قام بتلك العملية الجبارة:
إن الإله الذي أخرج كل شيء نافع
الإله الذي لا مُبدِّل لكلماته
إنليل الذي أنبت الحب والمرعى
أبعد السماء عن الأرض
تثبت لنا هذه الأساطير السومرية تقاليد بقيت سائدةً في الفكر الأسطوري لحضارات
المنطقة والحضارات الأخرى المجاورة. ففكرة الميلاد المائي تتكرَّر فيما بعد في
الأساطير البابلية التي تحكي عن ولادة الكون من المياه الأولى «تعامة» المقابلة لنمو
السومرية.
٤ وفي الأسطورة السورية نجد يم المياه الأولى، وقد انتصر عليها الإله
بعل وشرع بعد انتصاره بتنظيم العالم.
٥ وفي الأسطورة المصرية كان رع أول إله يخرج من المياه الأولى، وهو الذي
أنجب فيما بعدُ بقية الآلهة.
٦ وفي الأسطورة الإغريقية نجد أوقيانوس هو المياه الأولى، والإله البدئي
الذي نشأ عنه الكون.
٧ وفي التوراة العبرانية أيضًا نجد المياه الأولى وروح الرب فوقها قبل
التكوين: «وكانت الأرض خربةً وخالية، وروح الرب يرف فوق وجه الماء» التكوين ١. كما
أثبت لنا القرآن الكريم وهو نهاية الوحي الذي ابتدأ بسيدنا آدم وجود المياه البدئية
إذ قال:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وقال:
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.
٨
وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بفكرة لقاح السماء والأرض المتحدتَين، والفصل بينهما فيما
بعد. ففي الأسطورة المصرية نجد جيب إله الأرض المذكَّر، ونوت إلهة السماء المؤنثة
في حالة اتحاد، وقد تزوَّجا بعضهما سرًّا دون إذنٍ من الإله رع. فلما علم كبير
الآلهة بذلك أرسل إله الهواء شو الذي أبعدهما عن بعض عنوة. ومنذ ذلك الوقت
والإله «شو» يطأ بقدمَيه جيب الصريع، ويرفع بذراعَيه القويتَين السماء نوت. وفي
الأسطورة الإغريقية نجد جيا الأرض، الأم الأولى، التي كانت أوَّل إله يخرج من
العماء البدئي، تلد نظيرها أورانوس إله السماء الذي يُغطِّيها من كل الجوانب، وتتحد
به لتلد بقية الآلهة، ثم يتم التفريق بينهما عنوة. وفي الأسطورة البابلية يقوم
الإله مردوخ بشطر جسد الإلهة تعامة، المياه الأولى، إلى نصفَين، فيرفع الأول سماءً،
ويبسط الثاني أرضًا. وفي الأسطورة التوراتية يقوم إله العبرانيين يهوه أيضًا
بفصل المياه الأولى إلى شطرَين، رفع الأول إلى السماء، وبسط الثاني الذي تجمع ماؤه في
جانب، وبرزت منه اليابسة في جانب آخر.
أخيرًا أثبت لنا القرآن الكريم واقعة فصل السماء عن الأرض بقوله:
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا.
٩
وقد قام المؤلِّفون العرب فيما بعدُ بتفصيل نظرية الميلاد وفصل السماء عن الأرض،
مستخدمين الأفكار الأسطورية القديمة نفسها. فنقرأ في كتائب عرائس المجالس، لأبي
إسحاق الثعلبي المتوفَّى سنة ٤٢٧ هجرية:
١٠ «لمَّا أراد الله تعالى أن يخلق السموات والأرض، خلق جوهرةً خضراء حجمها
أضعاف طباق السموات والأرض، ثم نظر إليها نظرة هيبة فصارت ماء، ثم نظر إلى الماء
فغلى وارتفع منه دخان وزبد وبخار … وخلق الله من ذلك الدخان السماء، ومن ذلك الزبد
الأرض.» كما نقرأ للطبري المتوفَّى سنة ٣١٠ﻫ في كتاب تاريخ الرسل والملوك:
١١ «إن الله تعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل
الماء. فلمَّا أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانًا فارتفع فوق الماء، فسما عليه
فسمَّاه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين.» كما
يحدِّثنا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي في الجزء الأول من الفتوحات المكية عن خلق
العالم فيقول:
١٢ «فخلق الماء سبحانه، بردةً جامدةً كالجوهرة في الاستدارة والبياض، وأودع
فيها بالقوة ذات الأجسام وذوات الأعراض. ثم خلق العرش واستوى عليه اسم الرحمن …
فنظر بعين الجلال إلى تلك الجوهرة فذابت حياءً، وتحلَّلت أجزاؤها فسال الماء، وكان
عرشه على ذلك الماء قبل وجود الأرض والسماء … وليس في الوجود إذاك إلا حقائق
المستوى عليه، والمستوي، والاستواء. فأرسل النفس فتموَّج الماء وأزبد … وترك زبده
بالساحل الذي أنتجه … فأنشأ سبحانه في ذلك الزبد الأرض … ثم أنشأ الدخان من نار
احتكاك الأرض عند فتقها، ففتق فيه السموات العلى …»
وفي أساطير كثيرة من الشعوب البدائية المعاصرة لنا نجد تكرارًا لأسطورة فصل
السماء عن الأرض؛ ففي نيوزيلاندا وتاهيتي وجزر كوك، يروي السكان الأسطورة الآتية:
١٣ بعد أن اتحدَّت السماء بالأرض أنجبتا عددًا من الآلهة الصغار الذين كانوا
يعيشون في ضيق وظلمة لشدة الْتصاق السماء بالأرض، فقرَّروا التمرُّد على هذا الوضع
بزعامة الإله الجريء تاني الذي رفع السماء بقوة ذراعَيه حتى استقرَّت مكانها، ثم قال
لتبقَ السماء بعيدةً عَنَّا، أمَّا الأرض فلتبقَ قريبةً هنا أُمًّا رءومًا.
ولعل النظريات العلمية الحديثة في نشأة الكون لا تبتعد كثيرًا عن هذه الأفكار
عندما تفترض أن انفجارًا بدئيًّا قد حدث في الأزمنة السحيقة، نشأ عنه تبعثر الأجرام
في الفراغ وابتعادها عن نقطة الانفجار. فالأرض والحالة هذه كوكب قد انفصل عن مكان
ما هناك في السماء.
ولقد قامت مدرسة التحليل النفسي بتفسير نظرية الميلاد المائي على أنها انعكاس
لذكرى كامنة في لا شعور الإنسان عن حالة الجنين في رحم الأم، حيث كان مُحاطًا بالماء
من جميع الجهات، وانبثاقه، من ثم، عن ذلك الوسط إلى العالم الجاف الخارجي. كما
أن المدرسة تستخدم أساطير فصل السماء عن الأرض لتوكيد وجهة نظرها في سيطرة عقدة
أوديب، التي تشغل حيِّزًا كبيرًا من نظرية سيجموند فرويد، فالرغبة المكبوتة في لا شعور
الطفل، والمتعلِّقة بإبعاد الأب والاستئثار بالأم، تجد متنفَّسًا لها في عالم الأسطورة،
حيث يقوم البطل بإبعاد السماء والبقاء في الأرض. يُضاف إلى ذلك أن بعض الأساطير لا
تكتفي بالإبعاد، بل تتعدَّاه إلى قيام الابن بفعلٍ عنيف ضد الوظيفة الجنسية للأب، تلك
الوظيفة التي تُعطيه امتيازًا عند الأم. فالإله كرونوس في الأسطورة الإغريقية
١٤ يقوم بتحريضٍ من أمه بإخصاء أبيه أورانوس إله السماء، ورمي أعضائه
التناسلية في البحر. ومن لقاء مياه أورانوس المخصبة بمياه المحيط، تولَّد أفروديت من
زبد البحر، وتضع قدمها على اليابسة عند شواطئ قبرص.
(٢) تنظيم الكون
بعد أن فصل إنليل بين السماء والأرض، وأعطاهما شكلهما الذي نعرفه اليوم، انصرف
إلى خلق بقية عناصر الكون. وهنا أيضًا يأتي الخلق نتيجة الحركة المادية والفعَّالية
الحياتية للآلهة، لا نتيجة الكلمة الخالقة والأمر الإلهي. فظهور القمر والشمس إلى
الوجود، وبعض الآلهة الأخرى، يأتي نتيجة الفعَّالية الجنسية للإله إنليل الذي ضاجع
الإلهة ننليل فولدت له القمر. والقمر بدوره أنجب الشمس بفعل جنسي آخر. تُحدِّثنا
أسطورة سومرية عن سلسلة الخلق هذه في نص شعري جميل مؤلَّف من مائة واثنَين وخمسين
سطرًا، معظمها في حالةٍ سليمة تسمح بقراءةٍ واضحة للألواح الموزَّعة عليها:
١٥
تبدأ الأسطورة بمقدمةٍ وصفية لمدينة نيبور التي وُجدت قبل ظهور الإنسان، وكانت
تسكنها الآلهة:
انظر (إلى نيبور) عماد السماء والأرض (هي) […]
انظر إلى نيبور المدينة […]
ترى أسوارها العالية، مدينة […]
ترى نهرها الرقراق إيد سالا.
ترى رصيفها كاركورانا، حيث ترسو السفن.
ترى بولال نبعها الصافي.
ترى أدنو نبردو، جدولها العذب.
هناك إنليل فتاها الغض،
هناك ننليل فتاتها الشابة،
هناك ننبار شيكونو سيدتها العجوز.
بعد هذه المقدمة تبدأ القصة، فنجد سيدة نيبور العجوز وهي تحدِّث ابنتها ننليل في
كيفية استمالة الإله إنليل:
في تلك الأيام قامت الأم بإرشاد ابنتها،
قامت ننبار شيكونو بنصح ابنتها:
«عند النهر الصافي يا فتاتي، عند النهر الصافي اغتسلي.
وعلى ضفة نهر الننبردو، أي ننليل، تمشي.
ذو العينَين البرَّاقتَين، السيد ذو العينَين البرَّاقتَين،
الجبل العظيم، إنليل الأب، ذو العينَين البرَّاقتَين سيراك.
الراعي، سيد المصائر، ذو العينَين البرَّاقتَين سيراك.
حيث […] وحيث يُقبِّلك.»
نفَّذت ننليل مشورة أمها. وأبصرها إنليل فحاول غوايتها ولكنها تمنَّعت، فتحايل
عليها وحملها بمعونة وزيره نسكو إلى قارب، وهناك اغتصبها وتركها حُبلى بالإله
القمر. إلا أن الآلهة تغضب لفعلة إنليل، ويقرِّر المجمع نفيه إلى العالم الأسفل.
يرضخ إنليل لمشيئة الآلهة ويبدأ رحلته نحو العالم الأسفل، ولكن ننليل التي تمكَّن
منها حب الإله الشاب تلحق به وتدركه عند بوابة الجحيم. ولكن إنليل يطلب من حارس
البوابة، ولسبب لا ندريه، تضليل «ننليل»، ويتخذ هو نفسه هيئة الحارس ويقبع في
انتظارها. وعندما تصل وتسأله عن حبيبها، يُجيبها وهو في هيئة الحارس مُضلِّلًا، ثم
يجامعها ويتركها حُبلى بنرجال إله العالم الأسفل.
إنليل […] غادر المدينة.
نونا منير غادر المدينة.
انطلق إنليل، والفتاة اقتفت أثره.
انطلق نونا منير والفتاة اقتفت أثره.
قال إنليل لحارس البوابة:
«يا حارس البوابة، يا صاحب القفل،
يا رجل المزلاج، يا صاحب القفل المقدس،
ننليل الملكة آتية،
ننليل الملكة آتية،
فإن توجَّهَت لك بالسؤال عني،
لا تكشف لها عن مكان وجودي.»
اقتربت ننليل من حارس البوابة قائلة:
«يا حارس البوابة، يا صاحب القفل،
يا رجل المزلاج، يا صاحب القفل المقدَّس،
إنليل مليكك أين مضى؟»
فأجابها إنليل عن حارس البوابة:
«لقد أمرني إنليل سيد كل البلاد.»
(يلي ذلك أربعة أسطر تحتوي مضمون الأمر إلا أن معناها غامض، ثم الحوار
الآتي):
– إن إنليل، حقًّا، مليكك، ولكني أيضًا مليكتك.
– إذا كنت حقًّا مليكتي، فدعيني ألمس […]
– إن ماء مليكك في داخلي نانا
١٦ إنه في داخلي.
– ليذهب ماء مليكي إلى السماء، ليذهب نانا إلى السماء،
واتركي مائي يمضي إلى الأرض.
إنليل في هيئة حارس البوابة اضطجع،
فقبَّلها وجامعها،
وسكب في داخلها ماء ميسلاميتا.
مشى إنليل وننليل اقتفت أثره،
نونا منير مشى والفتاة اقتفت أثره،
قال إنليل لصاحب نهر العالم الأسفل:
«يا صاحب نهر العالم الأسفل،
ننليل الملكة آتية،
ننليل الملكة آتية،
فإن توجَّهت لك بالسؤال عني،
لا تكشف لها مكان وجودي.»
اقتربت ننليل من صاحب النهر قائلة:
«يا صاحب نهر العالم الأسفل،
إنليل مليكك، أين مضى؟»
فأجابها إنليل عن صاحب النهر:
«لقد أمرني إنليل سيد كل البلاد.»
يتكرَّر ثانيةً المضمون غير المفهوم للأمر، ثم يليه الحوار الآتي، بين إنليل في هيئة
صاحب النهر، والفتاة ننليل:
– إن إنليل حقًّا مليكك، ولكني أيضًا مليكتك.
– إذا كنت حقًّا مليكتي، فدعيني ألمس …
– إن ماء مليكك في داخلي، الماء الملتمع في جوفي ماء نانا الملتمع في
جوفي.
– ليذهب ماء مليكي إلى السماء، واتركي مائي يمضي إلى الأرض.»
إنليل في هيئة ملَّاح النهر اضطجع،
فقبَّلها وجامعها،
وسكب في جوفها ماء ننازو.
١٧
وتُتابع الأسطورة على المنوال نفسه، فتصف مولد إله رابع من الإلهة السفلى هو الإله
إليجيبيل، وهنا يتخذ إنليل هيئة ملَّاح العالم السفلي الذي ينقل بقاربه عبر
النهر.
وتنتهي الأسطورة بترتيل حمدٍ لإنليل:
إنليل هو السيد والملك،
إنليل لا مبدِّل لكلماته.
الحمد لأمنا ننليل،
الحمد لأبينا إنليل.
والجدير بالذكر أن الأساطير اليونانية اللاحقة قد نسخت بعد ألفَي سنة، حرفيًّا وصف
العالم الأسفل السومري، فنجد بوابات العالم الأسفل، ونهره، وملاحه، وملكه
ومليكته.
ولعل ممَّا يلفت النظر في هذه الأسطورة ظهور القمر للوجود قبل الشمس، وكونه فيما
بعد أبًا للشمس. ويرجع ذلك، في اعتقادي، إلى أسبقية عبادة القمر على عبادة الشمس في
المجتمعات البدائية السابقة لظهور الحضارات، مجتمعات الثقافة التي قدَّست القمر
واعتبرته رمزًا للأم الكبرى إلهة المجتمع الأمومي، وقدَّمته على الشمس التي كانت
رمزًا للذكر، والتي قدَّستها المجتمعات الأبوية بعد ذلك باعتبارها رمزًا للإله الذكر،
إله السماء الأعلى. ومن ناحية أخرى فإن فكرة الإله الابن الذي يتفوَّق على أبيه،
ويأخذ سلطاتِه، هي فكرة شائعة في ميثولوجيا المنطقة وميثولوجيا الشعوب الأخرى.
فإنليل نفسه قد صار الإله الأول في مجمع آلهة سومر، ومردوخ فيما بعدُ تفوَّق على أبيه،
وصار سيد آلهة بابل. وعند الكنعانيين نجد الإله الأكبر إيل وقد تخلَّى عن مكانه
للإله بعل الذي تفوَّق على أبيه داجون. وفي المعتقد المسيحي نجد الإله الابن وقد غدا
أكثر أهميةً لخلاص الإنسان من الإله الأب.
(٣) إنكي ينظِّم العالم
لم يكن الخلق مهمةً تولَّاها إله واحد في سومر؛ فها هو الإله إنكي يتابع ما بدأه
إنليل، ويضع اللمسات الأخيرة على صورة الكون، فتخرج حيةً نضرة. وإنكي هو إله الماء
العذب عند السومريين وإله الحكمة أيضًا. ومَن غير إله الماء العذب يستطيع أن يبعث
الحياة في كون جامد لا حركة فيه؟ ومَن غير إله الحكمة يستطيع أن يدفع الحياة نحو
غايتها، ويحدِّد أغراضها ومراميها؟
حول هذا الموضوع وصلتنا أسطورة سومرية، تتحدَّث عن نشاط الإله إنكي الخاص بتنظيم
العالم، وتيسير أسباب الحياة والحضارة. ولكن الجزء الأول من النص، وهو الجزء
الأساسي، مُشوَّه بشكل لا نستطيع معه أن نتبيَّن معنًى واضحًا. وعندما يصبح اللوح الفخاري
قابلًا للقراءة، نلتقي بالإله إنكي وقد وصل في تطوافه الكوني إلى بلاد سومر، فيتوقَّف
هناك ويُعيِّن لتلك البلاد مصائرها:
١٨
سومر، يا أعظم بلدان العالم،
أيها المغمور بالنور الدائم، والشرائع المطاعة،
أقدارك عظيمة لا تتبدَّل،
وقلبك واسع عميق، لا يُسبر له غور،
و[…] كالسماء، لا يمكن مسُّها.
الملك الذي تُنجبه، مُزَيَّن أبدًا بحُلِي دائمة.
السيد الذي تُنجبه، على رأسه تاج لا يميل.
سيدك، سيد مُعظَّم، يجلس مع آن في العرش السماوي.
مليكك، هو الجبل العظيم، الأب إنليل.
وكمثل […] هو أب لكل البلاد.
أمَّا الأنوناكي، الآلهة العظيمة،
ففي وسطك قد أقامت مساكنها
وفي غاباتك الواسعة تتناول طعامها.
سومر، لتتضاعف إصطبلاتك وتتكاثر أبقارك،
لتتضاعف زرائبك، وبالآلاف فلتتكاثر أغنامك،
لتكن […] باقية.
ألَا فلترفع […] الراسخة يدها إلى السماء،
ألَا فليقرِّر الأنوناكي، في وسطك، المصائر.
(بعد ذلك يمضي إلى مدينة أور، وكانت عاصمة سومر في ذلك الوقت المبكِّر من تاريخه،
فيقرِّر لها مصائرها):
إلى أور أتى
إنكي، سيد الأعماق، أتى ليقرِّر مصائرها:
أيتها المدينة الموفورة، يا مدينة الماء الثر، والثِّيران القوية،
يا مصدر رزق البلاد، أيتها الخضراء، يا متباعدة الركبتَين أبدًا،
١٩
يا غابة الظل الوارف […]،
أقدارك الكاملة، هو الذي قدَّرها،
إنليل، الجبل العظيم، قد نطق اسمك المقدس،
إنليل، الجبل العظيم، قد نطق اسمك المقدس في الآفاق،
أيتها المدينة التي رسم مصائرها إنكي،
أي أور، أيها الهيكل المقدس، لترفعي هامتك نحو السماء.
ثم يذهب إنكي إلى بلاد ملوخا فيباركها أيضًا، وإلى دجلة والفرات فيملؤهما بماء نقي
ويخلق فيهما السمك، وعلى شاطئَيهما ينثر القصب، ثم يوكل بهما الإله إنبيلولو. ثم
يلتفت إلى البحر فينظِّم شئونه ويوكل به إلهةً اسمها سيرارا.
٢٠ ثم إلى الرياح فيتسلَّم قيادها ويوكلها إلى الإله أشكور، صاحب القفل
الفضي، الذي ينظِّم من خلاله الأمطار، ثم إلى شئون الزراعة، وما يتصل بها من أدوات،
حيث يخلق النير والمحراث، ويوكل الإله إنكمدو بالقنوات والسواقي. وفي المدن يهتم
بالعمران فيقيم للآجر إلهًا خاصًّا، ويحفر الأساسات وينشئ الجدران، ويعين الإله
شداما للإشراف على أعمال البناء. ثم يملأ السهول بالأعشاب والمراعي، وينثر فيها
القطعان، ويعيِّن لأمورها الإله سوموقان. ثم الحظائر يملؤها بالمنتجات الحيوانية،
ويُعيِّن عليها الإله الراعي دوموزي.
وإلى هنا ينتهي النص المفهوم، حيث يعود اللوح للتشوُّه مرةً أخرى.
(٤) خلق الإنسان
بعد أن أخذ الكون شكله، واستقرَّت السماء في موضعها، وكذلك الأرض. بعد أن انتظمت
دورة النهار والليل، وحركة الفصول. بعد أن أخرجت الأرض زرعها وشجرها وتفجَّرت
ينابيعها. بعد أن ظهرت الحيوانات بأنواعها وامتلأت البحار بأسماكها، بعد ذلك صار
المسرح مهيَّئًا لظهور الإنسان.
والأسطورة السومرية المتعلِّقة بخلق الإنسان، هي أول أسطورة خطَّتها يد الإنسان عن
هذا الموضوع. وعلى منوالها جرت أساطير المنطقة، والمناطق المجاورة التي استمدَّت منها
عناصرها الأساسية، وخصوصًا فكرة تكوين الإنسان من طين، وفكرة تصوير الإنسان على
صورة الآلهة.
أمَّا لماذا خُلق الإنسان؟ فإن الأسطورة السومرية لا تتردَّد في الإجابة على هذا
السؤال ولا توارِب؛ فالإنسان خُلق عبدًا للآلهة، يقدِّم لها طعامها وشرابها، ويزرع
أرضها ويرعى قطعانها. خُلق الإنسان لحمل عبء العمل ورفعه عن كاهل الآلهة؛ فمنذ البدء
كان الآلهة يقومون بكل الأعمال التي تُقيم أودهم وتحفظ حياتهم. ولكنهم تعبوا من ذلك
فراحوا يشتكَّون لإنكي الحكيم ليجد لهم مخرجًا. ولكنه، وهو المضطجع بعيدًا في
الأغوار المائية، لم يسمع شكاتهم. فمضَوا إلى أمه الإلهة نمو، المياه البدئية التي
أنجبت الجيل الأول من الآلهة؛ لتكون واسطتهم إليه، فمضت إليه قائلة:
٢١
«أي بني، انهض من مضجعك، انهض من […]
واصنع أمرًا حكيمًا،
اجعل للآلهة خدمًا، يصنعون [لهم معاشهم].»
فتأمَّل إنكي مليًّا في الأمر، ثم دعا الصُّنَّاع الإلهيين المهرة وقال لأمه
نمو:
«إن الكائنات التي ارتأيت خلقها، ستظهر للوجود،
ولسوف نعلِّق عليها صورة الآلهة.
٢٢
امزجي حَفنة طين، من فوق مياه الأعماق،
وسيقوم الصُّنَّاع الإلهيون المهرة بتكثيف الطين (وعجنه)،
ثم كوِّني أنت له أعضاءه،
وستعمل معك ننماخ
٢٣ يدًا بيد،
وتقف إلى جانبك، عند التكوين، ربات الولادة.
ولسوف تُقدِّرين للمولود الجديد، يا أماه، مصيره،
وتعلِّق ننماخ عليه صورة الآلهة
[…] في هيئة الإنسان […]».
بعد ذلك يتشوَّه اللوح الفخاري حامل النص، ثم نجد أنفسنا، بعد وضوح الكتابة، مع
إنكي يحتفل بإنجازه المبدع في وليمةٍ يدعو إليها الآلهة.
وفي أسطورة سومرية أخرى تحكي عن خلق الماشية والحبوب، نجد روايةً أخرى لقصة خلق الإنسان:
٢٤
كالبشر، عندما خُلقوا أول مرة.
لم يعرف الأنوناكي أكل الخبز،
لا ولم يعرفوا لبس الثياب،
بل أكلوا النباتات بأفواههم،
وشربوا الماء من الينابيع والجداول.
في تلك الأيام، وفي حجرة الخلق،
في دلكوج بيت الآلهة، خُلق لهار وأشنان.
٢٥
وممَّا أنتج لهار وأشنان،
أكل الأنوناكي ولم يكتفوا،
ومن حظائرهما المقدَّسة شربوا اللبن،
شربوا ولكنهم لم يرتووا؛
لذا ومن أجل العناية بطيبات حظائرهما
تمَّ خلق الإنسان.
تسرَّبت العناصر الرئيسية لهذه الأسطورة إلى معظم أساطير الشعوب المجاورة؛ ففي
الأساطير البابلية اللاحقة يتم خلق الإنسان من الطين، ويُفرض عليه حمل عبء العمل.
وفي سفر التكوين العبراني نجد إله اليهود يهوه يقوم بخلق الإنسان من طين بعد
انتهائه من خلق العالم، ويجعله على شاكلته: «وجبل الإله آدم ترابًا من الأرض، ونفخ
في أنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسًا حية».
٢٦ ورغم أن الهدف الذي يُقدِّمه النص التوراتي لخلق الإنسان هو
السيطرة على «سمك البحر، وطير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع
الدابات التي تدب على الأرض»،
٢٧ إلا أنه يعود فيفرض عليه عبء العمل، تمامًا كالنص السومري: «لأنك سمعت
لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا لا تأكل منها. ملعونة الأرض
بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك … بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض
التي أُخذت منها؛ لأنك من التراب وإلى التراب تعود.»
٢٨ وفي الأساطير المصرية نجد تردادًا للفكرة نفسها، وكذلك الأمر في
الأساطير الإغريقية،
٢٩ التي تعزو لبرومثيوس خلق الإنسان. فقد قام هذا الأخير بخلق الإنسان من
تراب وماء، وعندما استوى الإنسان قائمًا نفخت الإلهة أثينا فيه الروح، ثم راح
برومثيوس بعد ذلك يزوِّد الإنسان بالوسائل التي تعينه على البقاء والاستمرار، فسرق له
النار الإلهية من السماء، ضد رغبة كبير الآلهة زيوس، وأفشى له سرها وكيفية توليدها
واستخدامها، فنال بذلك غضب زيوس وعقابه.
فإذا تركنا أساطير الشعوب المتحضِّرة نجد أن فكرة الخلق من طين ترد في أساطير
الشعوب البدائية. تقول أسطورة أفريقية:
٣٠ إن الإله الخالق أخذ حَفنةً من طين شكَّلها على هيئة إنسان، ثم تركها في
بركة مليئة بماء البحر مدة سبعة أيام، وفي اليوم الثامن رفعها فكانت بشرًا سويًّا.
وفي أسطورة من الفلبين،
٣١ يقوم الإله الخالق بجلب حَفنةٍ من الطين على هيئة إنسان ويضعها في الفرن،
ولكنه يسهو عنها فتسود، وهذا هو أصل الإنسان الأسود، ثم يضع أخرى ويُخرجها قبل
أوانها، فهذا هو أصل الإنسان الأبيض. وفي المرة الثالثة يأخذ الطين كفايته من النار
فيخرج الإنسان الفلبيني، ذو اللون البرونزي. وفي أسطورة هندية أمريكية نجد أيضًا
التكوين الطيني ونفخة الحياة التي تهب الشكل الجامد روحه وحركته.
هذا ولا يُزوِّدنا العلم الحديث بنظرية أو حقيقة، تُثبت علاقة جسم الإنسان بتراب
الأرض، ولكنه يقول لنا إن العناصر المكوِّنة لجسم الإنسان هي نفس العناصر الموجودة في
التراب.
وأخيرًا يثبت القرآن الكريم خلق الإنسان من تراب في أكثر من موضع:
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ
مِّن نَّارٍ.
٣٢قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ
أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
٣٣
(٥) استراحة الخالق
بعد الانتهاء من عناء الخلق يخلد إنكي للراحة والسكينة، ويشرع في بناء بيت له في
الأعماق المائية. وتحدِّثنا أسطورة سومرية عن بناء بيت الرب، الذي يبدو هنا إلهًا
للأعماق المائية بشكل عام، أكثر منه إلهًا للمياه العذبة الباطنية؛ فالأسطورة ترسم
إنكي في صورة تذكِّرنا بالإله بوسيدون إله البحار عند الإغريق، أو نبتون عند الرومان.
تقول الأسطورة:
٣٤
بعد أن تفرَّقت مياه التكوين،
وعمَّت البركة أقطار السماء،
وغطَّى الزرع والعشب وجه الأرض.
إنكي، إله الغمر، إنكي، الملك.
إنكي، الرب الذي يقرِّر المصائر،
بنى بيته من فضة ولازورد،
فضة ولازورد كأنها النور الخاطف،
حيث استقرَّ هناك في الأعماق.
وبعد أن انتهى من بناء بيته كان لا بد له، ككل الآلهة العظام، من مدينة أيضًا،
فرفع من أعماق البحر مدينة أريدو،
٣٥ وغطَّاها شجرًا وخضرةً ونباتًا، وملأ مياهها سمكًا، ثم قرَّر السفر إلى
أبيه إنليل ليحصل على بركته، فارتفع من الأعماق المائية في مشهد مهيب مُروِّع:
عندما ارتفع إنكي، ارتفعت معه كل الأسماك،
واضطرب الغمر واصطخب،
زال عن البحر وجه المرح،
وساد الرعب في الأعماق،
واستبدَّ الهلع بالأنهار العالية،
ورفعت ريح الجنوب الفرات على مدٍّ من الأمواج.
وعندما يصل إنكي في مركبته إلى نيبور مدينة إنليل، يُقيم مأدبةً للآلهة، يقدِّم لهم
فيها الطعام والخمر. وفي نهايته يقف إنليل فيثني على ما فعله إنكي من بناء للبيت
ويمنحه بركاته ورضاه.
ويبدو أن بناء البيت للإله هو أمر ضروري بعد ارتفاع شأنه وعلوِّ مقامه، وبعد البيت
يأتي بناء مدينةٍ للإله أيضًا؛ فهذا مردوخ إله بابل، يبني له الآلهة بيتًا يناطح
برجه المدرَّج عَنان السماء، بعد انتهائه من فعل الخلق. وحول الهيكل المقدِّس يبني
الآلهة أيضًا مدينة بابل. وها هو بعل، إله سوريا، يُطالب ببناء بيت له بعد أن تغلَّب
على المياه الأولى ممثَّلةً بالإله يم، وعلى قوى الشر والقحط الممثَّلة بالإله موت،
فيكون له ما أراد. ويقلِّده في ذلك إله اليهود الذي يُطالب ببناء بيت له بعد أن تعب من
التجوال في خيمة مع بني إسرائيل. نقرأ في سفر صموئيل الثاني من العهد القديم ٧: ٣:
«وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلًا: اذهب وقل لعبدي داود، هكذا قال
الرب، أأنت تبني لي بيتًا لسكناي؟ لأنني لم أسكن في بيت منذ أصعدت بني إسرائيل من
مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة.»
وهكذا نغادر التكوين السومري بعد أن وضعت لنا تلك الأساطير القليلة، الناقصة
والمبعثرة، الإطارَ العام لتصوُّرٍ أسطوري سيستمر ويتطوَّر وينضج في بقية أساطير المنطقة.
كما وسنلتقي مع من تعرَّفنا عليهم من الآلهة، في أماكن أخرى لشعوب أخرى؛ فإن إله
السماء السومري سيغدو آنو إله السماء البابلي، وإيل إله السماء السوري، وإنكي إله
الماء العذب سيغدو إيا إله الماء العذب البابلي. وننماخ الأم-الأرض، ستظهر باسمها
نفسه أو باسم ننخرساج أو باسم ننتو أو مامي. ونمو المياه الأولى سنجدها في شخصية
تعامة المياه الأولى عند البابليين ويم، عند الفينيقيين (الكنعانيين). وسنلتقي أيضًا
بإريشكيجال إلهة العالم الأسفل وقد حافظت على اسمها ووظائفها.
لقد استولت الحضارة السومرية على الفاتحين ثقافيًّا، بعد أن دانت لهم
عسكريًّا.