التكوين البابلي
أقام الأكاديون الساميون إلى جانب جيرانهم السومريين ردحًا طويلًا، وما لبثوا أن استوعبوهم، وبسطوا سلطانهم السياسي والثقافي على بلاد الرافدَين، في إمبراطورية بلغت أوجها في عهد الملك الكبير حمورابي. وإذا كان السومريون قد وضعوا بذرة الثقافة في وادي الرافدَين، فإن الأكاديين هم الذين استنبتوها لتعطي أُكلها، وتهب العالم حضارةً تُعَد، إلى جانب الحضارة السورية والمصرية، من أقدم وأهم الحضارات الإنسانية. ولم يكن تعاقب الشعوب السامية الأخرى على الهيمنة السياسية في وادي الرافدَين (كالكلدانيين، والآشوريين) إلا تنويعًا على أرضية واحدة مشتركة. وسأقوم في هذا الكتاب بالإشارة للثقافة الرافدية باسم الثقافة البابلية، دون أن يعني ذلك تخصيصًا أو تحديدًا معيَّنًا.
تتوضَّح أفكار البابليين في الخلق والتكوين، بشكلها الأكمل، في ملحمة التكوين البابلية المعروفة باسم «الإينوما إيليش». وتُعتبر هذه الملحمة، إلى جانب ملحمة جلجامش، من أقدم وأجمل الملاحم في العالم القديم؛ فتاريخ كتابتها يعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد؛ أي قبل ألف وخمسمائة سنة تقريبًا من كتابة إلياذة هوميروس، وتدوين أسفار التوراة العبرانية. وقد لقيَت كثيرًا من الاهتمام والدراسة من قِبَل علماء المسماريات والأنثروبولوجيا والميثولوجيا والثيولوجيا.
فإلى جانب الشكل الشعري الجميل الذي صيغت فيه الملحمة، والذي يُعطينا نموذجًا لأدب إنساني متطوِّر، فإنها تقدِّم لنا وثيقةً هامةً عن معتقدات البابليين، ونشأة آلهتهم ووظائفها وعلاقاتها. كما أنها تقدِّم لدارسي الديانات المقارنة، مادةً غنية، بسبب المشابهات الواضحة مع الإصحاحَين الأول والثاني من كتاب التوراة.
وُجدت الملحمة مُوزَّعةً على سبعة ألواح فخارية، أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر الملك آشور بانيبال، ومكتبته التي احتوت على مئات الألواح في شتى الموضوعات الأدبية والدينية والقانونية وما إليها. وقد جرى الكشف عن ألواح الملحمة تباعًا، منذ نهاية القرن الماضي، وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين، حيث اكتملت وصارت واضحةً وميسرةً للترجمة والدراسة.
واسم الملحمة مأخوذ، كما هي عادة السومريين والبابليين، من الكلمات الافتتاحية للنص؛ فإينوما إيليش تعني: عندما في الأعالي. فعندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثَّلةً في ثلاثة آلهة؛ أبسو وتعامة وممو. فأبسو هو الماء العذب، وتعامة زوجته كانت الماء المالح، أمَّا ممو فيعتقد البعض بأنه الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى، ولكني أؤيد الرأي القائل بأنه الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها. هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون، وهي العماء الأول الذي انبثقت منه فيما بعد بقية الآلهة والموجودات، وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السكون والصمت المطلق، ممتزجةً ببعضها البعض في حالة شواشية لا تمايز فيها ولا تشكُّل. ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فوُلد لأبسو وتعامة إلهان جديدان هما لخمو ولخامو، وهذان بدورهما أنجبا أنشار وكيشار اللذَين فاقا أبوَيهما قوةً ومنعة. وبعد سنوات مديدة وُلد لأنشار وكيشار ابن أسمياه آنو، وهو الذي صار فيما بعدُ إلهًا للسماء. وآنو بدوره أنجب إنكي أو إيا، وهو إله الحكمة والفطنة، والذي غدا فيما بعدُ إله المياه العذبة الباطنية. ولقد بلغ إيا حدًّا من القوة والهيبة جعله يسود حتى على آبائه.
وهكذا امتلأت أعماق الإلهة تعامة بالآلهة الجديدة المليئة بالشباب والحيوية، والتي كانت في فعَّالية دائمة وحركة دائبة، ممَّا غيَّر الحالة السابقة وأحدث وضعًا جديدًا لم تألفه آلهة السكون البدئية، التي عكَّرت صفوها الحركة وأقلقت سكونها الأزلي. حاولَت الآلهة البدئية السيطرة على الموقف واستيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثًا، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء للعنف. فقام أبسو بوضع خطةٍ لإبادة النسل الجديد والعودة للنوم مرةً أخرى. وباشر بتنفيذ خطته رغم معارضة تعامة التي ما زالت تُكِن بعض عواطف الأمومة.
لدى سماعهم بمخططات أبسو خاف الآلهة الشباب واضطربوا، ولم يُخلِّصهم من حيرتهم سوى أشدهم وأعقلهم، الإله إيا، الذي ضرب حلقةً سحريةً حول رفاقه، تحميهم من بطش آبائهم، ثم صنع تعويذةً سحريةً ألقاها على أبسو فنام، ثم قام إيا بنزع العمامة الملكية عن رأس أبسو ووضعها على رأسه رمزًا لسلطانه الجديد. كما نزع عن أبسو أيضًا اللقب الإلهي وأسبغه على نفسه، ثم ذبحه وبنى فوقه مسكنًا لنفسه. كما انقضَّ على ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لأبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجرُّه وراءه أينما ذهب. ومنذ ذلك الوقت صار إيا إلهًا للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار، ويتحكَّم به بمقدار، وهو الذي يُعطي الأنهار والجداول والبحيرات ماءها العذب. وهو الذي يفجِّر الأرض عيونًا من مسكنه الباطني. ومنذ ذلك الوقت أيضًا يُشاهَد ممو فوق مياه الأنهار والبحيرات لأن إيا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد.
بعد هذه الأحداث الجسام وُلد الإله مردوخ، أعظم آلهة بابل، الذي أنقذهم مرةً أخرى من بطش الآلهة القديمة ورفع نفسه سيِّدًا للمجمع المقدَّس. وكيف لا وهو ابن إيا (إنكي) الذي فاق أباه قوةً وحكمةً وبطشًا. وكما كان الإنقاذ الأول على يد الأب إنكي، كذلك كان الإنقاذ الثاني على يد الابن الشاب مردوخ. فتعامة، التي تركت زوجها أبسو لمصيره المحزن دون أن تُهرع لمساعدته وهو يُذبح على يد الآلهة الصغيرة، تجد نفسها الآن مقتنعةً بضرورة السير على الطريق نفسه لأن الآلهة الصغيرة لم تُغيِّر مسلكها، بل زادها انتصارها ثقةً وتصميمًا على أسلوبها في الحياة. وهنا اجتمعت الآلهة القديمة إلى تعامة وحرَّضتها على حرب أولئك المتمرِّدين على التقاليد الكونية فوافقت، وشرعت بتجهيز جيش عَرِم قوامه أحد عشر نوعًا من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصوصًا لساعة الصدام، أفاعٍ وزواحف وتنانين هائلة وحشرات عملاقة جعلت عليها الإله كينغو قائدًا، بعد أن اختارته زوجًا لها، وعلَّقت على صدره ألواح الأقدار.
علم الفريق الآخر بما تُخطِّط له تعامة وصحبُها، فاجتمعوا خائفين قلقين، وأرسلوا إليهم الإله إيا الذي أنقذهم في المرة الأولى، عسى ينقذهم في المرة الثانية. ولكن إيا عاد مذعورًا ممَّا رأى، فأرسلوا آنو الذي مضى وعاد في حالةِ هلع شديد. أُسقط في يد الجميع وأطرقوا حائرين، كلٌّ يفكِّر في مصيره الأسود القريب. وهنا خطرَ لكبيرهم أنشار خاطر جعل أساريره تتهلَّل إذ تذكَّر مردوخ، الفتى القوي العتي، فأرسل في طلبه حالًا. وعندما مثل بين يدَيه وعلم بسبب دعوته، أعلن عن استعداده للقاء تعامة وجيشها بشرط الموافقة على إعطائه امتيازات وسلطات استثنائية، فكان له ما أراد. وجلسوا جميعًا حول مائدة الشراب وقد اطمأنَّت قلوبهم لقيادة الإله الشاب.
أعطى الآلهة مردوخ قوةَ تقرير المصائر بدلًا من أنشار، وأعطَوه قوة الكلمة الخالقة. ولكي يمتحنوا قوةَ كلمته الخالقة أتَوا بثوب وضعوه في وسطهم وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب، فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ، ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى. هنا تأكَّد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون. فأقاموا له عرشًا يليق بألوهيته، وأعلوه سيِّدًا عليهم جميعًا، ثم أسلموه الطريق إلى تعامة. وقبل أن يمضي صنع لنفسه قوسًا وجعبةً وسهامًا وهراوة، كما صنع شبكةً هائلةً أمر الرياح الأربع أن تمسكها من أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق، وأرسل البرق أمامه يشق له الطريق. دفع أمامه الأعاصير العاتية وأطلق طوفان المياه. وانقضَّ طائرًا بعربته الإلهية، وهي العاصفة الرهيبة التي لا تُصد، منطلقًا نحو تعامة والآلهة تتدافع من حوله تشهد مشهدًا عجبًا.
عندما الْتقى الجمعان طلب مردوخ قتالًا منفردًا مع تعامة فوافقت عليه، ودخل الاثنان حالًا في صراع مميت. وبعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته ورماها فوق تعامة محمولةً على الرياح، وعندما فتحت فمها لالْتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانتفخت وامتنع عليها الحراك. وهنا أطلق الرب من سهامه واحدًا تغلغل في حشاها وشطر قلبها، وعندما تهاوت على الأرض أجهز على حياتها، ثم الْتفت إلى زوجها وقائد جيشها كينغو فرماه في الأصفاد، وسلبه ألواح الأقدار وعلَّقها على صدره. وهنا تمزَّق جيش تعامة شر مُمزَّق، وفرَّ معظمه يطلب النجاة لنفسه، ولكن مردوخ طاردهم، فقُتل من قُتل وأُسر من أُسر.
بعد الانتهاء من عملية الخلق يجتمع الإله مردوخ بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيِّدًا للكون. بنَوا مدينةً هي بابل، ورفعوا له في وسطها معبدًا تُناطِح ذِروته السحاب، هو معبد الإيزاجيلا، وفي الاحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين.
هذه هي الخطوط العريضة للملحمة البابلية الكبيرة، عرضتُها في عجالة لا تُغني عن النص الشعري الكامل الذي يُعتبر مع ملحمة جلجامش أجمل نصَّين من نصوص الأدب السامي، ومن أجمل نتاجات الأدب القديم. وسأُقدِّم فيما يأتي ترجمةً كاملةً لألواح الملحمة السبعة.
(١) الإينوما إيليش
(١-١) اللوح الأول
حاشية رقم ١
حاشية رقم ٢
(١-٢) اللوح الثاني
(ثلاثة أسطر مُشوَّهة، إلا أننا نستدل من السياق العام على أن إيا قد قدَّم المعاذير عن عدم استطاعته تنفيذ المهمة.)
•••
حاشية رقم ١
حاشية رقم ٢
(١-٣) اللوح الثالث
(تكرار للمقطع السابق نفسه الذي يصف استعدادات تعامة، وذلك من السطر ٧٣ إلى السطر ١٢٤.)
(١-٤) اللوح الرابع
•••
حاشية
(١-٥) اللوح الخامس
(يلي ذلك واحد وعشرون سطرًا مشوَّهةً بشكل لا يسمح بترجمتها. يبدأ النص بالوضوح ابتداءً من السطر الخامس والأربعين.)
(يلي ذلك ستة عشر سطرًا غير قابلة للترجمة بسبب تشوُّه اللوح، وتصف هذه الأسطر جلوس مردوخ على العرش بكامل عدته. وعندما يبدأ النص بالوضوح نجد أمه وأباه يتوجَّهان بالحديث إلى الآلهة.)
حاشية٣١
(١-٦) اللوح السادس
(يلي ذلك اثنا عشر سطرًا في كل منها نقص يحجب المعنى.)
(١-٧) اللوح السابع
(٢) وقفة عند النص
يقف الدارس حائرًا أمام هذا النص الذي أعتبره شخصيًّا أعظم نص أسطوري أنتجه الإنسان القديم. والحيرة تأتي من غنى النص وفيضه بالرموز النفسية والاجتماعية والتاريخية، وتعدُّد بواعث إنتاجه، وتراكم خبرات إنسانية شتى في تكوينه. فالملحمة قد تركَّبت من عدة أساطير سومرية بنَت عليها العبقرية السامية ذلك الهيكل الشامخ، الذي يُعطي خلاصةً عن علم وفكر وفلسفة وفن الشعب الرافدي العريق، في مجالات هامة عدة. من هنا لا نستطيع إعطاء تفسير واحد للملحمة، فنبخسها بذلك حقها؛ فالملحمة لم توضع لغرض واحد، ولم تنشأ عن باعث واحد. ففي النص مستويات عدة متداخلة ومتآلفة، وعلى الدارس والمفسِّر، إن أراد الموضوعية والشمول، أن يفرِّق بين تلك المستويات مميِّزًا بعضها عن بعض، حذر الوقوع في أحادية النظرة.
(٢-١) الملحمة باعتبارها مغامرةً فكريةً فذة
بعد ذلك تتتابع تفسيرات نشوء الكون في الملحمة. فمن الأطروحة ينبعث طباقها، ومن تناقضهما يظهر التركيب. فالقوى السكونية المتمثِّلة في الثالوث البدئي تنتج في صميمها القوى الحركية المتمثِّلة في الآلهة الجديدة، ومن صراعهما يظهر إلى الوجود الكون بكل مظاهره. الماء العذب موجود في بطن الأرض لأن إيا قد قهر أبسو وبنى مسكنه فوقه تاركًا إياه حبيسًا في الأعماق، والضباب يتشكَّل فوق الماء لأن إيا قد خرم أنف ممو بحبل يجرُّه به أينما ذهب، والسماء والأرض تكوَّنتا من جسد الإلهة تعامة التي شطرها مردوخ إلى شطرَين، والإنسان خُلق من دماء الإله كينغو وأُعطي الحياة ليكدح على الأرض ويقدِّم للآلهة طعامها، وبابل ظهرت للوجود لأن الآلهة بنَوها لزعيمهم مردوخ … إلخ.
(٢-٢) الملحمة باعتبارها تاريخًا
يُعتبر انتقال البشرية من مرحلة الثقافة الأمومية إلى مرحلة الثقافة الأبوية من أهم الانقلابات التاريخية الكبيرة. ورغم أن الإينوما إيليش قد كُتبت في فترة متأخِّرة عن ذلك الانقلاب، إلا أنها تنطوي على ذكريات حية وغضة، عن تلك الحقبة الفاصلة؛ فالحالة السكونية للآلهة البدئية هي تمثيل واضح لسكونية المجتمع الأمومي وابتعاده عن التغيُّرات السريعة والحثيثة التي ميَّزت المجتمع الأبوي فيما بعد. أمَّا الحالة الدينامية للآلهة الشابة بزعامة إيا أوَّلًا ومردوخ فيما بعد فهي تمثيل واضح لحركية المجتمع الأبوي وإشارة لبدء الحضارة التي نعرفها الآن. إن الصراع بين المعسكر الذي تقوده تعامة، والمعسكر الذي يقوده مردوخ، لم يكن إلا تمثيلًا للصراع بين ثقافتَين متمايزتَين؛ ثقافة مركزها المرأة، وأخرى مركزها المجتمع، وتكريسًا للثقافة الأبوية الطالعة.
(٢-٣) الملحمة باعتبارها نتاجًا نفسانيًّا
(٢-٤) الملحمة باعتبارها تأسيسًا اجتماعيًّا وسياسيًّا
(٢-٥) الملحمة باعتبارها تأسيسًا لعقيدة جديدة
تتوافق كتابة الملحمة مع سيادة بابل على وادي الرافدَين والمناطق المتحضِّرة الجديدة. والسيادة العسكرية تتبعها سيادة ثقافية تثبِّتها وتمد في عمرها، فكانت الملحمة وسيلةً لنشر الديانة البابلية وتثبيتًا لعبادة إلهها مردوخ، الذي ساد الآلهة جميعًا وتفوَّق على آبائه وأقرانه. وقد خصَّص الجزء الأكبر من الملحمة لسيرة مردوخ ووصف مولده ونشأته وصعوده إلى السلطان وصراعه مع القوى الشريرة، وأعمال الخلق التي استحقَّ بها سلطانًا أبديًّا على الآلهة والبشر والأكوان. وتُقرِّبنا أسماؤه الخمسون كثيرًا من المفاهيم التوحيدية اللاحقة، وكأن الآلهة السابقة اجتمعت في واحد، وكأنها تجليات له، وصور من صوره.
(٢-٦) الملحمة باعتبارها تسويغًا وترسيخًا لطقس قديم
(٢-٧) الملحمة باعتبارها فنًّا رفيعًا
تُعتبر الإينوما إيليش من أجمل النصوص الأدبية القديمة، وهي إلى جانب ملحمة جلجامش وملحمتَي هوميروس وبعض أسفار التوراة، أبدع ما أنتج إنسان الحضارات القديمة من أدب. فإلى جانب الصياغة الشعرية الجميلة، تتمتَّع الملحمة بحبكة روائية فذة، وهي في مجموعها أشبه بسيمفونية موسيقية مؤلَّفة من أربع حركات. الحركة الأولى عذبة وهادئة، لا نكاد نسمع فيها سوى أصوات مديدة خافتة، حيث الأمواه البدئية تتمازج في حلم أزلي لذيذ. الحركة الثانية حوار بين النغم الخافت والنغم الصاخب، حيث يعلو الصوت حينًا، ويعم الصمت حينًا آخر، وتنتهي بنغم نشيط يمثِّل انتصار إيا على أبسو وتراجع الآلهة البدئية تراجعًا مؤقتًا. الحركة الثالثة قوية تتصارع فيها الألحان الصاخبة وتملؤها أصوات الظواهر الطبيعية من رياح وعواصف وصواعق، ويرتفع منها زئير المخلوقات العجيبة، ثم تنتهي بشكل عنيف وصاعق يمثِّل مصرع تعامة. الحركة الرابعة تبدأ مُرتَّبةً منظمة، وتنتهي بنشيد فرح وصلاة لمردوخ.
إن التصوير البديع لبعض مشاهد الملحمة يجعلها أشبه بشريط حي تكاد تسمع فيه الأصوات وترى فيه الأشكال وتشم روائح الأشياء، وخصوصًا عندما يأتي النص لوصف تحرُّك مردوخ للقاء تعامة والصراع الذي دار بينهما. فها هو في عدته الكاملة يتقدَّمه البرق وتتبعه الرياح الأربع ترفع أطراف شبكته الهائلة، ومن ورائه تعصف الرياح الشيطانية السبع التي أعدَّها ليعصف بها أعماق تعامة. ومن تحته طوفان المطر الهادر يطير فوقه في مركبته العاصفة يجرُّها طاقم من أربعة أفراس إلهية، أسنانها حادة وفي أنيابها السم. اكتسى بدرع مهيب من الزرد، واعتمَّ بهالة تُشيع الرعب والذعر، يتأرجح قوسه على كتفه، وترفع الهراوة في يده والشعلة اللاهبة تندفع من جسده. أمَّا مشهد الْتحام الإلهَين وانتهاؤه بسقوط تعامة في شبكة مردوخ ودفعه للرياح الصاخبة في فمها الفاغر وشطره، من ثم، قلَبَها بسهمه، فمن المشاهد التي تبقى حيةً في ذاكرة قارئها أبدًا.
(٣) نصوص بابلية أخرى في التكوين
إلى جانب ملحمة التكوين الأساسية، قدَّمت لنا الأسطورة البابلية نصوصًا أخرى تدور حول الموضوع نفسه، إلا أن معظم هذه النصوص ناقص بسبب الحالة التي وصلتنا عليها الألواح الفخارية التي احتوتها، إضافةً إلى أن النصوص نفسها لا ترقى إلى مستوى الإينوما إيليش من الناحية الجمالية.
(٣-١) نص سيبار
تمَّ العثور على هذا النص في خرائب مدينة سيبار، ويعود تاريخه إلى الدولة البابلية الجديدة في القرن السادس قبل الميلاد. ويُعتبر هذا النص من أهم تلك النصوص المتفرِّقة التي تقدِّم لنا تنويعات مختلفةً لحكاية الخلق والتكوين. وقد كُتب النص ليكون مقدمةً لتعويذة سحرية بقصد تطهير المعبد؛ فقد اعتقد الفكر الأسطوري القديم أن العودة لذكر تفاصيل الخلق وبدايات الأشياء، من شأنها دومًا إعطاء التعويذة قوة؛ وذلك باستحضارها الزمن الغض، عندما كانت قوة الخلق تتخلَّل الوجود البكر.
إلى هنا ويتشوَّه اللوح الآجري، وعندما يبدأ النص بالوضوح نجد أن الأسطورة قد انتهت، وأننا قد صرنا في قلب التعويذة السحرية التي كان النص مقدمةً لها.
(٣-٢) آدم وحواء
هناك تفسيران ممكنان لتعبير «مخلوقات المدينة»؛ التفسير الأول أن مخلوقات المدينة هم البشر، وأن في النص تقديمًا وتأخيرًا على عادة الأسلوب الأسطوري في التعبير، وعلى ما جرى عليه التوراة من ذكر روايتَين متداخلتَين عن خلق الإنسان، الأولى تُشير إلى خلق البشر دفعةً واحدة، والثانية تأتي على ذكر الزوجَين الأولَّين، وهي تلي الأولى في الترتيب. ولكني أميل للقول بأن المقصود بمخلوقات المدينة هم الآلهة؛ لأن المدن قد بُنيت في الأصل ليسكنها الآلهة كما هو شأن بابل.
(٣-٣) في الطين حيث يتحد الإنسان بالإله
الخالق في هذا النص هو إلهة الأمومة مامي، أو كما تُدعى أيضًا ننماخ أو ننخرساج أو ننتو. وهي الأم الكبرى، وهي أيضًا الأرض والتربة الخصبة. يعادلها عند الكنعانيين عشيرة، وعند الإغريق جيا، وفي كريت رحيا، وفي آسيا الصغرى سيبيل؛ فكل الثقافات القديمة عبدت إلهةً أنثى كبيرة، هي الأرض، الأم التي كانت مركزًا للحياة الروحية. ورغم صعود الآلهة الذكور، ودفعهم الأم الكبرى إلى الوراء في الثقافات الأبوية، إلا قوة وتأثير هذه الآلهة بقي قائمًا في أعتى أشكال المجتمعات الذكرية. وفي بلاد الرافدَين تقاسمت وظائف الأم الكبرى الموروثة عن العصور السالفة إلهتان هما ننتو (مامي، ننماخ، ننخرساج) وعشتار. فبقيت ننتو الأم-الأرض، وصارت عشتار الحب وروح الخصوبة الكونية. يشكِّل النص الذي بين أيدينا (١) مقدمةً لتعويذة سحرية تُتلى لتسهيل ولادة الحوامل وتخفيف آلامهن. وكما هو الأمر فإن التعويذة تبدأ بتلاوة جوانب من حكاية التكوين لاستمداد القوة والفعَّالية:
(الجزء الأعلى من اللوح مكسور.)
(٣-٤) آدم وحواء بدون طين
•••
(خمسة أسطر مشوهة)
(٣-٥) السوس ووجع الأسنان
(٣-٦) نصان باللغة اليونانية
«لا يقول البابليون بمبدأ واحد للكون، بل بمبدأين؛ الأول تاوت، والثاني أباسون. فتاوت هي زوجة أباسون، وكانت تُدعى بأم الآلهة. وقد وُلد لهذَين الإلهَين مولود واحد هو موميز، الذي نعتقد أنه يمثِّل العالم العقلي. وعنهم نشأ جيل ثان: داشي وداشوش. وعن هذَين نشأ جيل ثالث: كيساري وأرسوس. وهذان وُلد لهما ثلاثة هم: آنوس وإيلينوس وأوس. ومن أوس وداوكي وُلد بيل الذي يقولون إنه من صنع الكون.»
إن التشابه لَمدهش حقًّا بين هذه الرواية وبين الإينوما إيليش، حتى لكأنهما مقطع مقتبس عنها مباشرة؛ فتاوت هي تعامة، وأباسون هو أبسو، ومومز هو ممو، وداشي وداشوش هما لخمو ولخامو، وكيساري وأرسوس هما أنشار وكيشار، وآنوس هو آنو، وإيلينوس هو إنليل، وأوس هو إيا، وداوكي هي زوجته دومكينا، أمَّا بيل فهو الاسم التبادلي لمردوخ والذي دُعي به دومًا.
رغم من اختلاف هذه النصوص عن بعضها واختلافها عن الإينوما إيليش في ترتيب عمليات الخلق، إلا أن عناصرها جميعًا واحدة: الماء البدئي، الحالة السكونية الأزلية، ظهور القوى العقلية الفعَّالة المتمثِّلة بالإله أو الآلهة الشابة، صراع كوني حاسم، إحلال النظام الشامل، خلق السماء والأرض، خلق الكواكب والنجوم، خلق الإنسان والحيوان والحياة النباتية. كما تتفق معظم هذه النصوص على خلق الإنسان من طين، وعلى خلق زوجَين بدئيَّين، عنهما تسلسل الجنس البشري. هذا وتعود كل هذه العناصر للظهور في الرواية التوراتية ممَّا سيجري بحثه في التكوين التوراتي. وتذكَّرنا جملة: ولكن الأرض كانت خربةً وخالية، الواردة في نص بيروسوس بما ورد في سفر التكوين، العهد القديم، و«كانت الأرض خربةً وخالية …» إلخ.
[ألن تستخلفوا فيها أحدًا] فيجلب لنا طعام يومنا.