التكوين الكنعاني
حتى الربع الأول من هذا القرن بقيت معلوماتنا عن الميثولوجيا الكنعانية والأدب الكنعاني محدودةً جِدًّا، ومعتمدةً على مصادر مشكوك في صحتها وصدقها. وهذا الشك راجع إمَّا إلى كون هذه المصادر معاديةً للكنعانيين، كما هو الأمر في كتاب التوراة الذي نقل لنا كثيرًا من أسماء الآلهة الكنعانية، وذكر لنا كثيرًا من طقوسهم. أو لكون المصادر متأخِّرةً تاريخيًّا، ومتأثرةً بأساليب التفكير الأجنبية، كما هو حال المؤلِّفين الذين كتبوا باللغة اليونانية في الفترة اللاحقة، مثل فيلو الجبيلي، الذي نقل لنا كثيرًا من آراء ومعتقدات الفينيقيين، ولكن من خلال عقل مشبع بالثقافة اليونانية وأساليبها الفلسفية.
إلا أن اكتشاف مدينة أوغاريت على الساحل السوري، جعلنا نقف على أرض أكثر صلابةً لأن الألواح الفخارية التي تمَّ العثور عليها في أنقاض معبد بعل هناك، قد وصلتنا بالثقافة الكنعانية مباشرةً دون وسيط أو ناقل. وبعد حل رموز الكتابة الأوغاريتية ثبت بالدليل القاطع أن الكتابة المسمارية التي نُقشت على تلك الألواح هي كتابة أبجدية، وتنتمي لعائلة اللغات السامية.
والأوغاريتية شديدة القرب للغة العربية. ولعل إيراد بعض المقاطع من اللغة الأوغاريتية مكتوبة بالحروف العربية، ومقارنتها بترجمتها العربية، يعطينا فكرةً عن هذا القرب ونوعه. وإليكم مقطعًا من ملحمة كرت: يعرب بحدره ويبكي (أي: يدخل خدره ويبكي). بتن رجم ويدمع (أي: يَثني الكلام ويدمع). تنكتن أدمعته (أي: ودموعه تنكت). كم شقلم أرصه (أي: كما المثاقيل على الأرض). تمنح مصت مطته (أي: تُبلِّل غطاء سريره). إيل يرد بظهرته (أي: ويرد إيل بظهوره). أب آدم ويقرب (أي: ويقترب أبو البشر). يسأل كرت (أي: يسأل كرت). يدمع نعمن غلم إيل؟ (أي: أيدمع الجميل غلام إيل؟) عل لظهر مجدل (أي: أعل ظهر القلعة). ركب شكم صمت (أي: اركب شكائم الجدار). سأيدك شم (أي: ارفع يدك نحو السماء). دبح لثور ابك إيل (أي: واذبح للثور أبيك إيل).
يظهر على رأس قائمة الآلهة الأوغاريتية الإله إيل كبير الآلهة ورب السماء، يعتلي عرشه في السماء السابعة. وقد شاعت عبادة هذا الإله لدى جميع الشعوب السورية. فنجد في الحواضر الفينيقية، والآرامية في الألف الثالث قبل الميلاد، كما نجده في مدينة تدمر وغيرها من الحواضر السورية في العصور الكلاسيكية المتأخرة. وقد عبده العبرانيون في مطلع تاريخهم أيضًا، وكان إله أجدادهم الأولين كما يحدِّثنا بذلك كتاب التوراة في سفره الأول. كما نجد الإله بعل أو حدد وهو رب المطر والسحاب والصاعقة، وكان الإله الأقرب لقلوب العباد لعلاقته المباشرة بمعاشهم؛ فهو سيد الدورة الزراعية التي يعتمد عليها البشر في حياتهم. وإلى جانب بعل نجد نقيضه الإله موت إله الجفاف والحرارة والعالم الأسفل، وهو في صراع دائم مع بعل.
ومن الآلهة المؤنثة عبد الكنعانيون عشيرة الأم الكبرى وزوجة إيل، وكانت تُدعى أيضًا إيلات نسبةً إلى إيل، من ألقابها سيدة البحر، وما زال اسمها حتى الآن يُطلَق على الخليج المعروف في البحر الأحمر باسم خليج إيلات. كما عبدوا عناة حبيبة الإله بعل وروح الخصوبة الكونية، وكانت تُلقَّب بالعذراء، وهنالك عستارت، وهي إلهة أخرى للخصب تقاسمت مع عناة وظائف إلهة الخصب البابلية عشتار. إلى جانب هذه الآلهة الرئيسية نجد آلهةً تأتي في المرتبة الثانية مثل الإله يم وهو البحر الأول، وشبش إلهة الشمس، وهي أنثى على عكس إله الشمس البابلي شمش، وداجون إله القمح وأبو الإله بعل.
تتجه الأسطورة الأوغاريتية لتفسير الطبيعة بطريقة تروي توق الإنسان الكنعاني المستمر لدوام الخصب في الأرض والحيوان والإنسان، ودوام دورة الطبيعة. وقد صيغت الأسطورة في قالب حركي مليء بالفعل، وانطلاقًا من ذهنية بعيدة عن التجريد. فنجد الآلهة التي تمثِّل تشخيصًا لظواهر الطبيعة، وقد انهمكت في القيام بأفعال حركية، بها ترتبط دورة الطبيعة. فعندما يقوم بعل، وهو إله الحياة والخصب، بمنازلة موت إله الموت والجفاف؛ فإن أهمية هذا الصراع ونتائجه لا تقتصر على الإلهَين المتصارعَين، بل تشمل الظواهر الكونية كلها.
تقع الألواح الفخارية التي قدمتنا للأسطورة الكنعانية في ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى تضم الأساطير المتعلقة بالإله بعل، وعلاقته مع بقية آلهة المجتمع الفينيقي. والمجموعة الثانية تضم ملحمة «كرت» ملك حبور. والمجموعة الثالثة تضم ملحمة الأمير «أقهات»، وتحتوي قصته كسابقتها على فيض من العناصر الأسطورية. وقد عُثر على هذه الألواح جميعًا في أنقاض معبد بعل وهي في حالة يُرثى لها من التشوُّه والتلف؛ ممَّا جعل مهمة الباحثين على غاية من الصعوبة. يُضاف إلى ذلك الصعوبات والمشكلات التي ما زالت تثيرها اللغة الأوغاريتية إلى يومنا هذا؛ فحتى الآن ما زال هناك كثير من النصوص الغامضة والعصية على التفسير.
(١) بعل ويم، السيطرة على المياه الأولى
عندما يصبح اللوح الفخاري واضحًا للقراءة، نجد الإله يم وقد بدأ النزاع مع بعل؛ فهو يتلو على رسولَيه كتابًا موجَّهًا لمجمع الآلهة، يطلب فيه تسليم بعل ليصبح عبدًا له، ويبدو أن بعل قد تحاشى الصدام مع يم في البداية ولجأ إلى مجمع الآلهة. ولكن المجمع نفسه لا يستطيع أن يحمي بعل من سطوة يم الذي كان يتمتَّع بقوة فائقة وسلطة واسعة:
وعندما يصل الإلهان الرسولان يتوجَّهان مباشرةً للمجمع بالرسالة، دون أن يُقدِّما فروض الطاعة والاحترام لأحد، ويقرآن مطالب يم:
فيثور بعل، ويقفز إلى سلاحه لقتل الرسولَين، إلا أن الإلهتَين عناة وعستارت تحولان دون بغيته؛ لأن العرف يقضي بصيانة حياة الرسل:
إلا أن حديث الإلهتَين يضيع مع تشوُّه اللوح الفخاري الذي يستمر إلى نهاية النص. أمَّا بقية القصة فنعثر عليها في لوح آخر ناله التشوُّه ما نال اللوح الأول. تُحدِّثنا المقاطع الواضحة في اللوح عن تعاون الإلهَين الحرفيَّين كوثر وحاسيس مع الإله بعل، إذ يصنعان له سلاحَين ماضيَين يستخدمهما ضد يم، حيث يقوم السلاح الأول بشل حركة يم ويتكفَّل الثاني بالقضاء عليه. وبعد الانتهاء من صنع السلاحَين يتقدَّم الإلهان لبعل بنبوءتهما:
(ثم يتقدَّم كوثر بالسلاح ويعطي له اسمه):
(وهنا يندفع حاسيس ويضع بين يدَي بعل السلاح الثاني ويعطيه اسمه):
(وهنا تضطرب الآلهة لهذا الحدث وينقسمون بين راضٍ وساخط. وتتوجَّه عستارت بالقول إلى بعل):
وإلى هذَين اللوحَين يمكن أن نلحق لوحًا ثالثًا، ربما كان استمرارًا لترتيبنا المفترض للألواح، حيث نجد عناة وقد دعت الآلهة إلى وليمة فاخرة، ربما احتفالًا بانتصار بعل المؤزَّر على المياه وتوطيده مُلكه. وتقابل هذه الوليمة، في افتراضي، الوليمة التي أُقيمت لمردوخ البابلي بعد انتصاره على المياه. يأتي الآلهة جميعًا إلى مأدبة عناة، حيث يقدَّم اللحم والخمر، وينشد المنشدون وتصدح الموسيقى. وبعد ذلك يمضي بعل إلى مقره في جبل صفون:
أسماء بنات بعل مثال آخر على قرب الأوغاريتية للعربية، فبدرية اسم ما زال شائعًا في سوريا والنسبة هنا للبدر وهو القمر الكامل. وطلية منا هي الطل أو الندى، وأرصية هي الأرض والتربة الخصبة.
(٢) بعل يبني بيتًا له
بانتصار بعل على المياه تنتصر قوى النظام والحضارة على قوى الفوضى والعماء. ونستطيع أن نفترض أن بعل بعد انتصاره ذاك قد قام بتنظيم الكون ووضع أُسس الحضارة. ولكن بعل بعد انتصاره يَلزمه بيت لسكناه، كما هو شأن الآلهة الكبرى. وهنا يحدِّثنا نص آخر عن سعي بعل لبناء مثل هذا البيت، تمامًا كما حصل مردوخ على بيته بعد انتصاره. وفي هذا النص نجد بعل يطلب المعونة من حبيبته عناة في الحصول على بيته:
(وعندما اقتربت من مقر أبيها، وصله صوتها مهدِّدًا متوعِّدًا، فلجأ إلى غرفته الثامنة التي تقع خلف غرف أخرى سبع):
(وبعد أن تَعرض عناة قضيتها على إيل تتطوَّع زوجة إيل وأولادها لتأييد دعوى عناة):
وعندما ينزل إيل عند رغبة عناة، يجري إرسال مبعوث الإلهة عشيرة وهو قادش — أمرار إلى إله الصناعة والحرف كوثر — حاسيس حاملًا الأمر ببناء البيت:
وهنا تتكفَّل عناة بنقل الخبر إلى بعل الذي جلس ينتظر حضور الإله الصانع. وعندما يصل كوثر-حاسيس إلى صفون قادمًا من موطنه في كريت، يستقبله بعل بالحفاوة والترحيب، ويذبح لأجله ثورًا ويقيم مأدبةً عامرة، يبدأ على إثرها بناء البيت. إلا أن خلافًا يقع بين بعل وكوثر حول تصميم البناء؛ فبينما يقترح كوثر أن يكون للبيت نوافذ، يُصر بعل على أن يكون البيت خلوًا منها. ويحسم الخلاف لصالح كوثر، وعندما ينتهي الهيكل يأتي آيةً في الجمال والإبداع، كتلةً من خشب الأرز والفضة والذهب يعتلي قمة صفون.
(٣) بعل وعناة
وأبناء شاطئ البحر هم سكان الغرب. أمَّا أبناء مشرق الشمس فهم سكان الشرق؛ أي إن عناة كانت تمعن تقتيلًا في الناس كافة. فلسبب غير معلوم، قرَّرت عناة إفناء الجنس البشري واتبعت في ذلك الوسيلة المباشرة؛ أي تنفيذ المهمة بيدَيها، على عكس الإله إنليل الذي اتخذ قرارًا مشابهًا في بلاد الرافدَين، ولكنه استعمل في حملته الأمراض والأوبئة الفتاكة كما استعمل الطوفان العظيم.
(ولكن الجولة الأولى لم تكن كافية، فتراها تكر مرةً أخرى):
(وما إن انتهت عناة من مهمتها وهدأت ثائرتها حتى بدأت):
وهنا يقوم بعل بإرسال مبعوثيه إلى الإلهة الغاضبة، طالبًا منها أن تضع السلاح وترفع راية السلام، واعدًا إياها بكشف أسرار الطبيعة إن هي أتت لزيارته في مسكنه الجبلي:
وعندما يقترب الرسولان تتطيَّر عناة وتظن أن مكروهًا ما قد أصاب بعل فتبادرهما بالسؤال ملهوفة:
(يكرِّران الرسالة حرفيًّا إلى آخرها، وعندما ينتهيان تُجيبهما ملهوفة):
ثم إنها لا تنتظر عودة الرسولَين بجوابهما، بل تطير لتوِّها قاطعةً مئات الأميال تطوي الفيافي والقفار. وعندما يراها بعل قادمة من بعيد يرسل جمعًا من النساء لاستقبالها، ويذبح من أجلها ثورًا، ويحتفل بها احتفالًا مشهودًا. وبقدومها تبتهج الطبيعة، فيرقص النبات، ويتكاثر الحيوان.
(٤) نص باللغة اليونانية (سانخونياتن والنظرية الزائفة)
في غمرة المد الثقافي الهيليني الذي اجتاح شرقي المتوسط منذ القرن الثالث قبل الميلاد، كانت تقوم أصوات متفرِّقة، تدعو للتذكير بثقافة المنطقة والوقوف في وجه تيار الثقافة اليونانية الذي بدأ يطبع العالم المتحضِّر في ذلك الوقت. من تلك الأصوات كان صوت الكاتب السوري فيلو الجبيلي، الذي عاش في نهاية القرن الأول الميلادي، ووضع مؤلَّفًا ضخمًا في تاريخ الفينيقيين اشتمل على تسعة أجزاء ضاعت جميعها، ولم يبقَ منها سوى مقاطع متفرِّقة أوردها مؤلِّفون آخرون نقلًا عنه.
في حديثه عن الميثولوجيا حاول أن يثبت أن الأساطير الإغريقية قد بُنيت في معظمها على أصول كنعانية شرقية، وأرجع معظم آلهة الإغريق إلى جذورهم الفينيقية. وقد وضع معظم أفكاره على لسان كاتب فينيقي قديم عاش في القرن الرابع عشر قبل الميلاد اسمه سانخونياتن مدَّعيًا أن مؤلفه الكبير ليس إلا ترجمةً لأفكار ذلك الكاتب العظيم.
ولعل أهم ما بقي لنا من كتاب فيلون-سانخونياتن، هو النظرية الفينيقية في التكوين، التي وصلتنا بسبب تصدي بعض الكُتَّاب المسيحيين لنقدها، في حملتهم التي شنُّوها ضد المعتقدات القديمة وتفنيدها. وهكذا نجد أن نظرية سانخونياتن التي نقلها فيلو، لم تصلنا إلا عن طريق المصادر المعادية، التي استعملتها وسيلةً للنقد والمحاجَّة، وتثبيتًا للفكر المسيحي الجديد. وهذا الوضع برمته يترك مجالًا واسعًا للشك في صحتها ممَّا سأتحدَّث عنه لاحقًا.
ثم الْتهب الهواء بتأثير الْتهاب اليابسة والبحر وتشكُّل السحب وهطل على الأرض ماءً مدرارًا. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتلتقي في الهواء وتتصادم، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت الحيوانات مذعورةً وراحت تنتقل على اليابسة وفي البحر، ذكورًا وإناثًا.
وتتابع النظرية سرد أنساب البشر بدءًا من الزوجَين كولبيا وباو، وتعزو لكل جيل فضل اكتشاف من اكتشافات الحضارة، كاكتشاف النار والزراعة وتربية الحيوان وما إلى ذلك، وتشرح كيف عبد البشر أصحاب تلك الاكتشافات وجعلوهم من الآلهة بعد موتهم، إلى أن تصل إلى أورانوس-السماء، وزوجته جيا الأرض، ابنَي عليون؛ أي العالي أو السامي. ويشرح النص هنا القصة الإغريقية نفسها المعروفة عن قسوة أورانوس على أولاده ومحاولته قتلهم، إلى أن يأتي كرونوس، أحد أولاده، الذي يتغلَّب عليه بمعونة صديقه هرمس ويأخذ سلطانه. وهو الذي بنى أول مدينة فينيقية وهي جبيل. ولكن أباه أرسل له ثلاث بنات لقتله، فما كان من كرونوس إلا أن استمالهن وتزوَّج بهن. فولدت له الأولى وهي عستارت سبع بنات وولدَين؛ أحدهما يوثوس، والآخر إيروس. وولدت له الثانية وهي رحيا أيضًا سبع بنات. ولمَّا تابع أورانوس الحرب ضد ابنه كرونوس قام الأخير بمفاجأته في كمين وقبض عليه وأخصاه، ففاض دمه في الجداول والينابيع.
- أوَّلًا: إن قراءةً أولى للنص تُظهر لنا أنه قد كُتب بروح وخلفية وثقافة يونانية؛ فروح الفلسفة الإغريقية تشع من كل حرف من حروفه، وخاصةً في مقدمته، عندما كانت هناك ريح عاصفة وخَواء مظلم، وعندما وقعت الريح في حب مبادئها الخاصة … إلخ. كما أن التركيز على فكرة المنشأ المادي للدين، وعلى أن الآلهة التي عبدها البشر لم تكن إلا رجالًا صالحين قدَّموا للبشرية خدمات جُلَّى، فتمَّ تأليههم وعبادتهم؛ يدل دلالةً واضحةً على التأثر الكبير بالاتجاهات الفلسفية المتأخِّرة، ويبتعد بنا عن منحى التفكير الديني الأسطوري الذي كان سائدًا في الفترة التي عزا ناقل النص إليها إنتاجه. لقد كان القرن الرابع عشر قبل الميلاد زمنًا ما زال الفكر الأسطوري فيه منتعشًا، وفيه كُتبت ألواح رأس شمرا، وأساطير بعل وعناة وملاحم كرت وأقهات، ممَّا كشفت عنه حفريات موقع مدينة أوغاريت. ولا يمكن بحال أن تكون العقلية التي أنتجت تلك النصوص هي نفسها التي أنتجت نص سانخونياتن. والمشكلات التي كانت مطروحةً وقتها لم تكن مشكلة وجود الآلهة أم لا، بل مشكلة أي إله يُعبد. والتساؤل عن وجود الآلهة لم يُطرح إلا في العصور الفلسفية اللاحقة. كما أن الفترة نفسها هي التي شهدت الصراع بين وحدانية الإله وتعدُّد الآلهة، حيث قامت ديانة أخناتون في مصر، وتبعتها ديانة موسى في سوريا.
- ثانيًا: أخبرنا فيلو الفينيقي (٤٢ ميلادية) عن سانخونياتن، ونقل لنا عنه
تاريخ فينيقيا، مدَّعيًا أنه إنما يترجم لليونانية فقط، ما كتبه
سانخونياتن قبل ذلك بألفٍ وأربعمائة عام، دون أن نعثر لسانخونياتن
قبل ذلك على ذكر إلا عند كاتبَين سوريَّين آخرَين هما: أدريان الصوري
(١٥٠ ميلادية)، وفورفيوس الصوري (٤٤٨ ميلادية)، وكلاهما لاحقان
لفيلو الجبيلي. وليس مستبعدًا أن يكونا قد استندا في ذكرهما
لسانخونياتن على فيلو نفسه. كما تغدو مسألة تحقيق النص أصعب؛ إذ إن
أعمال فيلو قد ضاعت كلها، وأن ما نعرفه عنها قد وصل إلينا عن طريق
أقلام يونانية أو مسيحية. والنص الذي بين أيدينا الآن قد نقله
أوزيب الكاتب المسيحي ناقدًا، ومدافعًا عن المسيحية. فما الذي بقي
لنا من سانخونياتن إذن؟
لقد لعب سانخونياتن في أعمال فيلو دورًا مشابهًا لِمَا لعبه سقراط في محاورات أفلاطون؛ فلقد بات مؤكَّدًا منذ زمن بعيد أن سقراط، في محاورات أفلاطون، لم يكن إلا شخصيةً تتحرَّك لتعبِّر عن آراء أفلاطون وفلسفته، مع الخلاف الواضح بين المثالَين؛ لأن الأدلة قائمة على وجود شخص اسمه سقراط، ولأن أعمال أفلاطون قد وصلتنا مباشرة. بينما لا وجود لأي دليل تاريخي على وجود سانخونياتن، وأعمال فيلو قد ضاعت تمامًا.
- ثالثًا: لقد كان جُل ما نعرفه عن لاهوت الكنعانيين عبارةً عن متفرِّقات وردت في أعمال المؤلفين اليونان، إلا أن اكتشاف رأس شمرا على الساحل السوري في مطلع هذا القرن، وحل أبجديتها السباقة، جعلنا على اتصال مباشر بالفكر والأدب واللاهوت الكنعاني؛ فالألواح تتحدَّث عن نفسها دون وسيط. ولقد غدا من نافلة القول التحدُّث عن أي نص منقول، يتعارض مع ما تنطق به المكتشفات. فما الذي تقوله لنا الألواح الأوغاريتية عن نص فيلو؟
إن بعض أسماء الآلهة الفينيقية قد ورد في نص فيلو، إلا أن هذا النص قد امتلأ بأسماء الآلهة اليونانية فكاد لا يترك إلهًا إغريقيًّا إلا وذكره. وكل هذه الأسماء لم نعثر لها على ذكرٍ في ألواح أوغاريت التي تعود إلى الفترة نفسها التي عزا ناقل النص إليها إنتاج نظرية سانخونياتن. إضافةً إلى تناقضات واضحة بين وظائف بعض الآلهة عند سانخونياتن ووظائفها في ألواح أوغاريت.