التكوين التوراتي
(١) لمحة تاريخية
في عام ٧٢١ق.م. قضى صارغون الآشوري على مملكة إسرائيل وسبى كثيرًا من أهلهم وأسكنهم في مناطق أخرى. وفي عام ٥٨٧ق.م. دمَّر نبوخذ نصر البابلي أورشليم وأنهى الوجود السياسي لمملكة يهوذا. وبعد ذلك جاء العصر الفارسي ثم اليوناني ثم الروماني، وتلاشى اليهود كمجموعةٍ دينية في فلسطين، لا سيما بعد انتشار المسيحية.
(٢) الخلفية الثقافية
- فأوَّلًا: تصر الديانتان، ولأول مرة في التاريخ، على وحدانية الإله. إلا أن وحدانية أخناتون أعم وأشمل؛ لأنه يرى آتون إلهًا للأمم كلها، بينما بقيت اليهودية على الاعتقاد بيهوه إلهًا للشعب اليهودي، يتجلَّى في المعارك والانتصارات، لا كما يتجلَّى آتون في الأزهار والأشجار وجميع أشكال النماء والحياة.
- ثانيًا: تمنع الديانتان أي نوع من أنواع التصوير أو النحت للإله الواحد؛ لذلك فقد حُطِّمت كل التماثيل إبان حكم أخناتون ومُسحت عن جدران المعابد كل صور وأسماء الآلهة القديمة. وكانت الإشارة الوحيدة المسموح بها كرمز للإله هي أشعة الشمس التي كانت جميع الصلوات تحث على النظر للقوة الكامنة خلفها. فآتون ليس قرص الشمس ذاته، بل خالق أشعته التي يمدها بالطاقة. وليس ما في الكرة الملتهبة من مجد مشرق، إلا رمزًا للقدرة المستورة. كذلك نقرأ في التوراة: «لا تصنع لك تمثالًا، صورة ممَّا في السماء من فوق، وما في الأرض من أسفل، وما في الماء تحت الأرض.»١٠
- ثالثًا: لا نجد في الديانتَين أثرًا لفكرة البعث والحساب والحياة الآخرة؛ فأخناتون في صراعه مع الديانات القائمة آنذاك، أراد أن يحرم أوزوريس، وهو الإله الشعبي الأول، ملكوته في العالم الآخر؛ لأنه كان رب البعث والحساب الذي يزن الحسنات والسيئات في العالم الأسفل، ومالك قلوب العباد الباحثين عن السعادة في الحياة الثانية. فعمد أخناتون إلى إلغاء فكرة البعث والحساب. وعلى منواله نُسجت الديانة الموسوية التي لا نجد عندها أفكارًا واضحةً عن الحياة بعد الموت،١١ بل إن هذه الفكرة قد اعتُبرت لفترات طويلة ضلالًا مبينًا، ولم تبدأ في السيطرة على عقول بعض المتدينين إلا في الفترات المتأخِّرة وقبل ظهور السيد المسيح.
- رابعًا: نظرًا لاتصال الديانات المصرية بالسحر؛ فقد حاربت الآتونية السحر والسحرة وأبطلت تأثيرهم في المجتمع. كذلك الأمر في الديانة اليهودية التي حرَّمت السحر.
إن تأثر الديانة الموسوية بالديانة الآتونية هو أمر منطقي وممكن، بصرف النظر عن حكاية موسى المصري؛ فالديانة الموسوية نشأت في زمن لا يبعد كثيرًا عن زمن ازدهار الآتونية. ونستطيع بسهولة أن نفترض أن الديانة الآتونية بعد انهيارها، قد تحوَّلت إلى ديانة سرية انتشرت بين المضطهدين الغرباء، وخضعت لتحوُّلات أساسية عبر الوقت، إلى أن اتخذت شكلها الجديد على يد موسى. وقد استمرَّت بعض الصلوات الآتونية حيةً في كتاب التوراة. ومن ذلك مثلًا إحدى صلوات أخناتون في تسبيح إلهه التي نجدها في المزمور ١٠٤ من سفر المزامير في التوراة:
(٢-١) صلاة أخناتون١٢
(٢-٢) المزمور ١٠٤
هذا وربما كُنَّا أقدر على إيجاد مزيد من المشابهات لو وصلَنا من تراث الآتونية أكثر ممَّا وصل. ولكن الانتقام الشامل الذي تعرَّضت له هذه الديانة بعد وفاة مؤسِّسها جعل التاريخ لا يعرف عنها إلا القليل.
وإذا كانت الآتونية قد أعطت اليهودية دفعتها الأولى، فإن المناخ الثقافي الذي نمت فيه وترعرعت، فيما بعد، وأعني به الثقافة السورية المجاورة، كان له أكبر الأثر في تشكُّلها وتطوُّرها البطيء. وقد كُتِب التوراة عبر مسافة زمنية تبدأ في القرن العاشر قبل الميلاد، وتنتهي في القرن الأول؛ فالأسفار الخمسة الأولى قد كُتبت على مدى ثلاثة قرون ابتداءً من القرن العاشر، أمَّا آخر أسفار التوراة، وهي سفر المكابين الأول، وسفر المكابين الثاني، فقد حُرِّرت خلال القرن الأول قبل الميلاد. والتوراة هو المأثرة الثقافية الوحيدة للشعب اليهودي.
النص الأوغاريتي* | سفر إشعيا ٢٧: ١ |
---|---|
والآن تريد أن تقتل لوتان | في ذلك اليوم يعاقب الرب |
الحية الهاربة | بسيفه القاسي العظيم الشديد |
الآن تريد أن تجهز على الحية الملتوية | لوتان الحية الهاربة |
شالياط العتية | لوتان الحية المتحوية |
ذات الرءوس السبعة | ويقتل التنين الذي في البحر |
ويأتي المزمور ٩٢ بسرد مشابه لسرد النص الأوغاريتي عن صراع بعل ضد أعدائه:
وقصارى القول إن كتاب التوراة وهو المأثرة الثقافية الوحيدة للشعب اليهودي، قد نشأ وتطوَّر انطلاقًا من أرضية ثقافية سورية وبابلية ومصرية. وإن مسيرة الفكر العبراني، في سعيه لبناء ديانة مستقلة، لم تتكلَّل بالنجاح إلا عن طريق استيعاب وتمثُّل الديانات السابقة، والآلهة القوية التي لم يستطِع يهوه زحزحتها إلا باستعارتها لنفسه.
لقد بدأت المشابهات بين التوراة وآداب الشرق القديم تظهر عندما بدأت الحضارات القديمة للمنطقة تتكشَّف من تحت التراب بواسطة الحفريات الأثرية التي أحيت آدابًا قد فُقدت منذ عهد بعيد. إن ضوءًا قويًّا قد سُلط الآن على التوراة ومنشئه، وأصبح في وسع القائلين بالمعجزة التوراتية أن يدركوا أن آداب التوراة لم تظهر كاملة النمو، وإنما مدَّت جذورها عميقًا لتشرب نسغ حضارات معاصرة لها وأخرى سابقة عليها. وأن التربة التي أمدَّت مؤلفي التوراة بمادتهم الأدبية كانت تربة كنعان وآرام وأرض الرافدَين.
(٢-٣) أسطورة التكوين التوراتية
لنقرأ الآن أسطورة التكوين التوراتية كما وردت في مطلع كتاب التوراة: سفر التكوين، الإصحاحان الأول والثاني:
الإصحاح الأول: «في البدء خلق الرب السموات والأرض، وكانت الأرض خربةً وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرف فوق وجه الماء. وقال الرب ليكون نور فكان نور. ورأى الرب النور أنه حسن، وفصل الرب بين النور والظلمة، ودعا الرب النور نهارًا والظلمة ليلًا، وكان مساء وكان صباح يومًا واحدًا.
وقال الرب ليكن جَلَد (قبة السماء) في وسط المياه، وليكن فاصلًا بين مياه ومياه. فعمل الرب الجَلَد وفصل بين المياه التي تحت الجَلَد والمياه التي فوق الجَلَد، وكان ذلك. ودعا الرب الجَلَد سماءً. وكان مساء وكان صباح يومًا ثانيًا.
وقال الرب لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، وكان كذلك. ودعا الرب اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعاه بحرًا، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وقال الرب لتنبت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا، وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بزره فيه على الأرض، وكان كذلك فأخرجت الأرض بقلًا وعشبًا وبقلًا يبزر بزرًا كجنسه، وشجرًا يعمل ثمرًا بزره فيه كجنسه، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يومًا ثالثًا.
وقال الرب لتكن أنوار في جَلَد السماء لتفصل بين النهار والليل، وتكون أنوارًا في جَلَد السماء لتنير على الأرض، وكان كذلك. فعمل الرب النورَين العظيمَين، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم جعلها الرب في جَلَد السماء لتنير على الأرض. ولتحكم على النهار والليل. ولتفصل بين النور والظلمة، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وكان مساء وكان صباح يومًا رابعًا.
وقال الرب لِتفِض المياه زحَّافات ذات نفس حية، وليطِر طير فوق الأرض على وجه جَلَد السماء. فخلق الرب التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وباركها الرب قائلًا أثمري واكثري واملئي المياه في البحار، وليكثر الطير على الأرض. وكان مساء وكان صباح يومًا خامسًا.
وقال الرب لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الرب ذلك أنه حسن. وقال الرب نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلَّطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الرب الإنسان على صورته، على صورة الرب خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم. وباركهم الرب وقال لهم أثمروا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها، وتسلَّطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. وقال الرب إني أعطيتكم كل بقل يبزر بزرًا على وجه الأرض، وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرًا لكم يكون طعامًا. ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت عشبًا أخضر طعامًا، وكان كذلك. ورأى الرب كل ما عمله فإذا هو حسن جِدًّا، وكان مساء وكان صباح يومًا سادسًا.»
الإصحاح الثاني: «فأكملت السموات والأرض وكل جندها. وفرغ الرب في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الرب اليوم السابع وقدَّسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الرب خالقًا.
هذه مبادئ السموات والأرض حين خُلقت، يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات، كل شجر البرية، ولم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد؛ لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان يعمل على الأرض، ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض. وجبل الرب آدم ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة، فصار آدم نفسًا حية. وغرس الرب الإله جنة من عدن شرقًا، ووضع هناك آدم الذي جبله. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر. وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس؛ اسم الواحد فيشون، وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع. واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش. واسم النهر الثالث حداقل، وهو الجاري شرقي آشور. والنهر الرابع الفرات. وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها.»
يقتفي التكوين التوراتي أثر أساطير التكوين السومرية والبابلية والكنعانية في خطوطه العامة وفي تفاصيله. فالحالة البدائية السابقة للخلق حالة عماء مائي، وظلمة سرمدية. ومن هذه المياه تمَّ التكوين، حيث يقوم يهوه بتقسيم المياه إلى قسمَين؛ رفع الأول إلى السماء، وترك الثاني في الأسفل فصار بحارًا منها برزت اليابسة. وعلى هذه اليابسة تابع يهوه أفعاله الخلاقة، فأخرج النبت والمرعى والشجر المثمر، وخلق الحيوان. وفي السماء خلق الشمس والقمر والنجوم، وفي البحر خلق الحيوانات المائية، وفي الجو خلق الطير، وأخيرًا خلق الإنسان.
وإذا كان صراع يهوه مع التنين البدئي لم يظهر في هذه الأسطورة كمقدمة للخلق، كما هو الشأن في أسطورة التكوين البابلية، فإن مثل هذا الصراع يظهر في نصوص أخرى تتحدَّث عن أفعال يهوه الخلاقة. وفيها نجده قبل الخلق وقد انهمك في الصراع مع تنينه لوياتان. من ذلك مثلًا المزمور الرابع والسبعون: «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياتان، جعلته طعامًا للشعب، لأهل البرية. أنت فجَّرت عينًا وسيلًا، أنت يبَّست أنهارًا دائمة الجريان. لك النهار ولك الليل أيضًا. أنت هيَّأت النور والشمس. أنت نصبت كل تخوم الأرض. الصيف والشتاء أنت خلقتهما.»
(٢-٤) النص الإيلوهيمي
-
(١)
الحالة الأولى للكون، عماء مائي.
-
(٢)
يُعزى الخلق إلى إيلوهيم الذي قام به في ستة أيام منفصلة، في كل يوم عمل. والاسم إيلوهيم يرد في الترجمات العربية بصيغة «الله».
-
(٣)
تتسلسل مراحل الخلق وفق الآتي:
-
النور.
-
السماء.
-
اليابسة.
-
الزرع.
-
الأجرام السماوية.
-
الأسماك والطيور.
-
الحيوانات والبشر رجالًا ونساءً.
-
(٢-٥) النص اليهوي
-
(١)
الحالة الأولى للكون قفر وخراب لا حياة فيه ولا زرع ولا ماء.
-
(٢)
يعزى الخلق إلى يهوه دون أي تقسيم زمني، والاسم يهوه يرد في الترجمات العربية بصيغة «الرب الإله».
-
(٣)
تتسلسل مراحل الخلق وفق الآتي:
-
الإنسان، آدم من تراب.
-
جنة في شرقي عدن.
-
الأشجار من كل نوع بما فيها شجرة المعرفة.
-
الحيوانات والوحوش والطيور (لا ذكر للأسماك).
-
المرأة تُخلق من الرجل.
-
هذا ولعل أكثر المشابهات إثارةً بين أسطورة التكوين التوراتية وبقية الأساطير في المنطقة، هي المشابهات مع الإينوما إيليش، ممَّا سأتحدَّث عنه مفصَّلًا فيما يأتي: