الفصل الأول
الطوفان السومري
تؤسِّس الأسطورة السومرية لأقاصيص الطوفان التي شاعت في المنطقة، كما أسَّست من قبل
أقاصيص التكوين؛ فنص الطوفان، الذي تمَّ العثور عليه في خرائب مدينة نفر السومرية، يقدِّم
لنا الخطوط العريضة لكل أساطير الطوفان اللاحقة في بابل وسوريا وبلاد الإغريق، وفي كتاب
التوراة. وذلك رغم الحالة السيئة التي وُجد عليها اللوح الفخاري الحاوي على الأسطورة،
ورغم تشوُّه النص ونقصه في معظم مواضعه. وتتلخَّص الخطوط العريضة للأسطورة في ثلاث نقاط
تتكرَّر كلها، مع بعض التنويعات، في بقية الأساطير اللاحقة:
- (١)
قرار إلهي بدمار الأرض بواسطة طوفان شامل.
- (٢)
اختيار واحد من البشر لإنقاذ مجموعة صغيرة من البشر وعدد محدود من
الحيوانات.
- (٣)
انتهاء الطوفان واستمرار الحياة من جديد بواسطة من نجا من الإنسان
والحيوان.
يمنع النقص الحاصل في بداية النص من حصولنا على فكرة واضحة عن مطلع الأسطورة. وما
إن
يصبح النص واضحًا حتى يبدأ الحديث عن خلق الإنسان وظهور خمس مدن إلى الوجود هي: إريدو،
باديتيرا، لاراك، شروباك. وهي من أوائل المراكز الحضارية السومرية. بعد توزيع هذه المدن
على مجموعة من الأبطال والملوك، يتشوَّه النص ويغيب معناه. وعندما يبدأ اللوح، نجد الآلهة
وقد قرَّرت إفناء البشر بواسطة طوفان يغمر الأرض. إلا أن بعض الآلهة تُظهر عدم رضائها
عن
ذلك القرار؛ فهذه إنانا إلهة الحب والخصب تنوح وتبكي مصير البشر المفجع، وهذا إنكي إله
الحكمة يخرج عن إجماع الآلهة ويأخذ على عاتقه إنقاذ بذرة الحياة على الأرض. يتصل إنكي
بالملك زيوسودرا، وكان إنسانًا تقيًّا صالحًا، فيحدِّثه من وراء حجاب، كاشفًا له نوايا
الآلهة، شارحًا له خطته لإنقاذ الحياة، والتي تتلخَّص في قيام زيوسودرا ببناء سفينة كبيرة
لحمل الزمرة الصالحة من البشر وبعض الحيوانات. ورغم من أن المقاطع الواضحة من
النص لا تشير إلى بناء سفينة، وهُوية الناجين وعدد الحيوانات، إلا أن المقاطع الباقية
تصف
لنا السفينة أثناء الطوفان، وتحدِّثنا عن قيام زيوسودرا بذبح ثور وكبش قربانًا للآلهة
بعد
نجاته. وهذا يدل على أنه حمل معه في السفينة بعض الحيوانات. وبعد انتهاء الطوفان يكافأ
زيوسودرا على عمله بإعطائه نعمة الخلود وإسكانه في أرض دلمون، جنة السومريين. وهذه
ترجمة للمقاطع الواضحة من الأسطورة:
١
«في ذلك الحين بكت ننتو
٢ كامرأة في المخاض،
وإنانا المقدسة ناحت على شعبها.
إنكي فكَّر مليًّا، وقلب الأمر على وجهه.
آنو وإنليل وإنكي وننخرساج […]
آلهة الأرض وآلهة السماء دعوا باسم آنو وإنليل.
في تلك الأيام زيوسودرا كان ملكًا وقيِّمًا على المعبد،
قام بتقديم [قربان] عظيم،
وجعل يسجد بخضوع [ويركع] بخشوع،
ودونما كَلَل توجَّه للآلهة [في المعبد].
فرأى في أحد الأيام حلمًا لم يرَ له مثيلًا،
الإله […] جدار […]».
وعندما وقف زيوسودرا قرب الجدار سمع صوتًا:
«قف قرب الجدار على يساري واسمع،
سأقول كلامًا فاتبع كلامي،
أعطِ أذنًا صاغية لوصاياي.
إنَّا مرسلون طوفانًا من المطر […]
فيقضي على بني الإنسان […]،
ذلك حكم وقضاء من مجمع الآلهة،
أمر آنو وإنليل،
[فنضع حدًّا] لملكوت البشر.»
يتبع ذلك تشوُّه في النص، إلا أن المفقود يصف ولا شك تعليمات الإله حول بناء السفينة
ومواصفاتها ونوعية ركابها، ثم قيام زيوسودرا ببنائها. وعندما يتضح النص للقراءة نجد
أنفسنا وسط الطوفان:
هبَّت العاصفة كلها دفعةً واحدة،
ومعها انداحت سيول الطوفان فوق [وجه الأرض]،
ولسبعة أيام وسبع ليال
غمرت سيول الأمطار وجه الأرض،
ودفعت العواصف المركب العملاق فوق المياه العظيمة.
ثم ظهر أوتو
٣ ناشرًا ضوءه في السماء على الأرض.
فتح زيوسودرا كوةً في المركب الكبير،
تاركًا أشعة البطل أوتو تدخل منها.
زيوسودرا الملك
خرَّ ساجدًا أمام أوتو،
ونحر ثورًا وقدَّم ذبيحةً من غنم.
يعود النص للتشوُّه مرةً أخرى. ومن المحتمل أن يكون الجزء الناقص هنا يتحدَّث عن جفاف
المياه وهبوط السفينة على الأرض الجافة وحضور بقية الآلهة وسرورهم بنجاة الحياة من
الدمار الكامل، والإنعام على بطل الطوفان بالحياة السرمدية في أرض دلمون:
زيوسودرا الملك،
سجد أمام آنو وإنليل،
ومثل إله وهباه حياةً أبدية،
ومثل إله وهباه روحًا خالدة،
عند ذلك زيوسودرا، الملك،
دُعي باسم حافظ بذرة الحياة،
وفي أرض […] أرض دلمون
حيث تشرق الشمس، أسكناه.
ودلمون، جنة السومريين، ليست مكانًا لأرواح الصالحين؛ لأن الحياة الأخرى لم تكن
معروفةً لدى السومريين، وحالة الموت هي حالة أبدية يدخلها كل البشر بصرف النظر عمَّا
قدَّمت
أيديهم في الحياة الدنيا، حيث يدلفون إلى العالم الأسفل، عالم الظلمة الأبدية، في
استمرارية ليست بالحياة وليست بفقدان الحواس والشعور والإدراك. وسنبحث هذه النقطة في
باب العالم الأسفل لاحقًا. أمَّا الجنة فهي مرتع الآلهة، وقلة قليلة من البشر الذين
أنعم عليهم بالخلود. نقرأ عنها في لوح آخر وصفًا حيًّا؛ فهي مكان طاهر نظيف ومُضيء، حيث
لا تنعق الغربان ولا تصرخ الشوحة، ولا يفترس الأسد ولا الذئب، حيث لا تلتهم الحيوانات
الزرع، ولا يعرف أحدٌ الآلام والمرض والعجز والشيخوخة، حيث لا مكان للحزن والبكاء.
٤