الطوفان البابلي
كما فعل البابليون في رائعتهم الأولى «الإينوما إيليش» فعلوا في رائعتهم الثانية «ملحمة جلجامش»؛ فملحمة جلجامش هي نص أدبي رفيع يؤلف بين مجموعة نصوص سومرية قديمة تتحدَّث عن بطل سومري حكَم الفترة النضرة الأولى التالية للطوفان. فكانت تلك الأقاصيص السومرية نواةً بنَت عليها العبقرية الأدبية البابلية درةً من دُرر الأدب القديم، وحمَّلتها الكثير من تصوُّرات الثقافة البابلية، الفكرية والدينية والفلسفية. وإلى جانب نصوص جلجامش السومرية، استفاد البابليون من نص الطوفان السومري فأدخلوه في سياق الملحمة التي جاءت نسيجًا متميِّزًا في معانيها ومراميها.
كان نص الطوفان هو أول ما تمَّ اكتشافه من ملحمة جلجامش؛ ففي عام ١٨٧٢م أعلن عالم الآثار البريطاني جورج سميث عن توصُّله لحل رموز أحد ألواح مكتبة آشور بانيبال الحاوي على نص عن الطوفان مشابه للنص التوراتي. وقد أثار هذا الإعلان الكثير من الحماس، فتتابعت البعثات الأثرية على المنطقة إلى أن تمَّ الكشف عن ألواح ملحمة جلجامش الاثنَي عشر، والتي تغطِّي أسطورة الطوفان معظم اللوح الحادي عشر منها. ورغم أن قصة الطوفان تبدو للوهلة الأولى وقد أُقحمت على أحداث الملحمة، إلا أنها في الواقع قد جاءت في انسجام تام مع الإيقاع المأسوي للملحمة، وأضافت إليها أبعادًا ومعاني خاصة، مؤكِّدةً أن الخلود سراب لن يناله أحد من البشر.
(سطران مشوَّهان)
يُعتبر هذا النص أهم نصوص الطوفان في أرض الرافدَين؛ وذلك للعثور عليه كاملًا دونما نقص أو تشويه، ولدقة تعبيره وجمال أدائه الأدبي، ونصاعة لغته الشعرية. فهو جزء من ملحمة ذائعة الصيت في العالم القديم تُرجمت إلى معظم لغات المنطقة القديمة، إلا أنه ليس النص الوحيد؛ فقد وصلتنا أساطير طوفان أخرى من أرض الرافدَين سنتعرَّض لها فيما يأتي في هذا الفصل.
(١) نص نيبور
إن هذه الأسطر على قلتها تعطينا فكرةً واضحةً عن مضمون القصة؛ فهناك طوفان قادم، وإله يصطفي أحد البشر لينقذ الحياة، ويأمره ببناء سفينة وحمل أصناف الحيوان إليها. ولا شك أن هذا النص يشكِّل النواة التي بُني عليها نص طوفان جلجامش.
(٢) ملحمة أتراحيسس
(يتبع ذلك تشويه كبير حتى السطر ٣٨٧، ثم يتابع النص على الشكل الآتي):
(مجموعة أسطر مشوهة يصعب ترجمتها يليها مباشرةً سطر استدراكي، ثم التذييل المعهود الذي يُنهي به النساخ كل لوح.)
(٢-١) الكسرة الثانية
(البداية مفقودة)
(يتبع ذلك تشويه كبير حتى نهاية الكسرة، حيث نجد التذييل نفسه الذي رأيناه في الكسرة السابقة.)
(٢-٢) الكسرة الثالثة
(البقية مكسورة.)
(٢-٣) الكسرة الرابعة
(البداية مفقودة)
(بقية العمود تالفة، ولكننا نستنتج ممَّا ورد في العمود الثاني أن البشر قد منحوا استراحةً ممَّا يعانون فعادت أحوالهم للازدهار، ولكنهم عادوا لإقلاق إنليل من جديد، فشنَّ عليهم حملةً جديدة.)
(يلي ذلك نقص ولكننا نفهم من سياق ما يأتي أن إيا قد استجاب لأتراحيسس بعد أن أقام هذا إلى جانب النهر يصلِّي ليكون قريبًا من إنكي إله الماء. ولكن الناس عادوا لسابق عهدهم، فعاد إنليل إلى أفانينه في إفنائهم والتقليل من توالدهم.)
يلي ذلك نقص. وعندما يكتمل اللوح للقراءة نجد مساعي إنليل في إفناء البشر عن طريق إغلاق الأرحام تبوء بالإخفاق؛ لأن أتراحيسس وآخرين معه يمضون إلى ربة الولادة مامي أو ماما يسترحمونها فتقوم بتجديد الخلق عن طريق أرحام طينية.
والمقطع يشوبه الغموض بعض الشيء. وقد عمدت إلى ترك ترجمة بعض الأسطر للحفاظ على المعنى العام.
إلى هنا وينتهي ما وصلنا من ملحمة «أتراحيسس». والواقع أن الصورة التي ظهر بها إنليل لصورة مهولة. وهو وإن وارتبط اسمه بأهم حوادث الدمار والخراب في المنطقة، فإن له جانبًا آخر لا علاقة له بالدمار والخراب، بل بالبناء والنظام. وكيف لا وهو الذي أخرج العالم من وسط العماء وخلق الشكل والنظام من لُجة الفوضى، وفيما يلي أورد ترتيلةً من إحدى الصلوات الكثيرة التي وُجدت في تمجيده وتعظيمه باعتباره محور الكون:
(٣) نص بيروسوس
وبعد أن هدأ الطوفان أرسل أكسوثروس بعض الطيور. فلمَّا لم تجد مكانًا تهبط إليه أو طعامًا تلتقطه عادت إلى السفينة. فانتظر فترةً ثم أرسل الطيور مرةً أخرى، ولكنها عادت إلى السفينة أيضًا وعلى أرجلها آثار من طين. وعندما أطلقها للمرة الثالثة طارت ولم تعد. فعرف أكسوثروس أن الأرض قد انكشفت. وما لبثت السفينة أن استوت على أحد الجبال ولم تعد تتحرَّك. نزل الملك من السفينة ومعه زوجته وابنته وملَّاح السفينة، فسجد على الأرض وبنى مذبحًا وقدَّم قربانًا للآلهة.
ولمَّا تأخَّر عن العودة إلى السفينة نزل ساكنوها وبحثوا عنه وعمَّن رافقه فلم يقفوا لهم على أثر. وبينما هم في حيرة من أمرهم أتاهم صوت من السماء يأمرهم بالتقوى والصلاح، ويخبرهم بأن أكسوثروس رُفع إلى الآلهة ليعيش معهم عيشةً خالدةً لأنه كان تقيًّا صالحًا، كما شاركته في هذه النعمة زوجته وابنته وملَّاح السفينة. وأخبرهم الصوت أن المكان الذي هبطوا فيه هو إحدى بقاع أرمينيا، وأن عليهم أن يعودوا منه إلى بابل وأن يستعيدوا الألواح المطمورة في سيبار.
وعندما سمع القوم ما قاله لهم الصوت السماوي قاموا بتقديم أضاحٍ للآلهة، ومضوا إلى بابل سيرًا على الأقدام. وقبل وصولهم عرجوا إلى حيث الألواح فاسترجعوها، ثم تابعوا فبنوا المدينة من جديد، وأشادوا مدنًا كثيرةً أخرى، وأقاموا المعابد والهياكل.