أساطير الدمار الشامل
لم تكن أساطير الطوفان وحدها هي التي أخبرتنا عن أحداث الدمار الشامل، والكوارث العامة التي حلَّت بإنسان الحضارات القديمة. فلقد وصلتنا مجموعة أخرى من الأساطير تروي أحداثًا لا تقل رهبةً وروعةً عن أحداث الطوفان، ولكنها لا تقص عن دمار شامل يُفني البشر والحيوان، بل عن دمار جزئي يتوقَّف في منتصف الطريق وقبل أن يقضي على الحياة قضاءً مبرمًا. ربما كانت هذه الأساطير تسويغًا وتعليلًا لكوارث حقيقية حلَّت بالإنسان، وحار في أسبابها ودواعيها وأغراضها، فجاءت الأسطورة تروي تساؤلاته. فهذه أسطورة سومرية تعزو دمارًا حلَّ بالبلاد إلى انتقام الإلهة إنانا من بستانيٍّ اغتصبها، وهذه أسطورة بابلية تعزو العواصف التي اجتاحت البلاد طولًا وعرضًا إلى غضب إله العاصفة إنليل، وأخرى تعزو انتشار المرض الفتاك إلى إله الطاعون إيرا الذي يستفيق من كسله بين الآونة والأخرى ليمارس مهامَّه في نشر الأوبئة والأمراض السارية.
(١) إنانا والبستاني
تروي أسطورة سومرية أن بستانيًّا اسمه شوكا ليتودا زرع شجرةً وتعهَّدها بالرعاية والعناية حتى كبرت ونشرت ظلَّها الواسع على معظم أجزاء حقله الذي حمته من العواصف الهوجاء. إلى أن كان يوم:
وصار الناس إذا أرادوا نضح الماء من آبارهم لا يجدون ما يشربونه سوى الدم، فتلفت المزروعات. ولمَّا لم تجد الذي جامعها قامت بتسليط الرياح والعواصف المدمِّرة، ولكن دون جدوى.
ترسل كارثةً ثالثة، إلا أن كسور اللوح الآجري وتشوُّهه تمنعنا من معرفة ماهية هذه الكارثة، ولا نعرف على أي وجه انتهت الأسطورة.
(٢) إنليل والعاصفة
(٣) إله الطاعون يجتاح العالم
(وهنا تشتد عزائم إيرا فيستدعي وزيره إيشوم صائحًا به):
(فاستمع إيشوم لكلمات إيرا بقلب حزين، وشعر بالأسى لِمَا ينتظر البشر من مصير):
فلأن مردوخ سيد البشر والآلهة، لا يستطيع إيرا أن يتصرَّف وفق هواه ما لم يغضَّ الطرف عنه، فيمضي إليه بخدعة ليترك مسكنه في معبد الإيزاجيلا ويمضي إلى مكان ستطهِّر ناره عباءته، فيستحم ويتجدَّد ويعود أقوى ممَّا كان، وأقدر على تصريف شئون الكون والإنسان:
ولكن مردوخ يخشى إن هو ترك الإيزاجيلا مركز الكون في بابل أن يعود العالم إلى العماء وتطغى الفوضى الكونية التي تُلجمها قوة مردوخ وجبروته، وتربُّعه على عرش الكون في معبده ذي البرج العالي. كما يخشى أن تخلو الساحة لآلهة العالم الأسفل فتنطلق لتلتهم جميع الأحياء دونما رادع أو وازع. ولكن إيرا يطمئنه بأنه سيأخذ عنه المسئولية كاملةً خلال غيابه، وينوب عنه حتى عودته. فيترك مردوخ قصره ويمضي للاستجمام في المكان الذي اقترحه إيرا. وما إن يغيب الإله الأكبر حتى يستدعي إيرا وزيره إيشوم قائلًا:
(يتجه بالحديث لمردوخ الغائب):
ثم ينطلق إله الطاعون والأوبئة الفتاكة والخراب غير عابئ بمحاولات إيشوم ليثنيه عن عزمه، فيدمِّر أوَّلًا بابل ويقضي على سكانها، ثم ينتقل إلى إيريك مدينة البغايا المقدسات والغلمان والمخصيين واللوطيين، حيث معبد عشتار بما فيه من مخنثين نالت عشتار من رجولتهم، فيهدم المدينة ولكنه يبقى متعطِّشًا للفتك راغبًا في المزيد من الخراب:
على أن إيشوم يفزع أشد الفزع من هذا الفتك الأعمى دون تمييز بين الصالح والطالح، فيتوجَّه لإيرا قائلًا:
(ويبدو أن خطاب إيشوم قد طامن من ثورة إيرا قليلًا، فيقرِّر العفو عن الأكاديين فقط وتدمير كل ما عداهم):
وبذلك يجد إيرا الهدوء والسكينة، ويُخبر الآلهة بأن مخطَّطه في البدء كان إفناء البشر جميعًا بسبب خطاياهم، ولكن حديث إيشوم قد غيَّر رأيه فأنقذ الأكاديين فقط وجعل لهم الغلَبة على أعدائهم:
وتنتهي القصيدة بخاتمة تؤكِّد على عنصر الوحي في الأسطورة، فكاتب النص يقول إنه قد دوَّن ما أُوحي إليه من قِبَل الآلهة دونما زيادة أو نقصان. وهذه الالتفاتة تكشف لنا أوجهًا هامةً في الأسطورة ودورها ونظرة الجماعة لها. ليس مدوِّن الأسطورة في نظر نفسه ونظر الجماعة المؤمنة به إلا كاتب وحي وإلهام يلعب دور الوسيط بين الإله والناس.
(وبعد أن سَطَّر الكاتب هذه الأنشودة سمعها إيرا وإيشوم وبقية الآلهة فنالت استحسانهم):
(٤) يهوه والكوارث الشاملة
ولعل إله العبرانيين يهوه من أكثر الآلهة ولعًا بالدماء والكوارث الشاملة. في سفر الخروج نجد موسى يحاول إقناع فرعون عبثًا بالسماح لشعبه بمغادرة أرض مصر إلى الأرض الموعودة في كنعان، وبعد أن ينال منه اليأس يلجأ إلى ربه الذي يشن حملةً من الفتك الشامل بفرعون وقومه لإجباره على إطلاق العبرانيين؛ فهو يبدأ بما بدأت به إنانا السومرية ويملأ آبار المصريين بالدم: «خذ عصاك ومُد يدك على مياه المصريين وأنهارهم وخُلجهم ومناقعهم وسائر مجامع مياههم فتصير دمًا ويكون دم في جميع أرض مصر.» ثم ينتقل لفنون تدميرية أخرى: «فمدَّ هارون يده على مياه مصر فصعدت الضفادع وغطَّت أرض مصر.» وبعد ذلك: «مدَّ هارون يده بعصاه فضرب تراب الأرض فكان البعوض على الناس والبهائم. كل تراب الأرض صار بعوضًا.» «ودخلت الذباب بيت فرعون وبيوت عبيده وجميع أرض مصر بكثرة وفسدت الأرض من قِبل الذباب.» «فماتت مواشي المصريين بأسرها ومن مواشي بني إسرائيل لم يمت أحد.» «أخذ من رماد الآتون ووقف بين يدي فرعون وذراه موسى إلى السماء فصار قروحًا وبثورًا منتفخةً في جميع أرض مصر.» «فكان بَرَد ونار متواصلة، وبين البرد شيء عظيم جدًّا … فضرب البَرَد في جميع أرض مصر جميع ما في الصحراء من الناس والبهائم، وضرب البَرَد جميع عشبها وكسر جميع أشجارها.» «وساق الرب ريحًا شرقيةً على الأرض ذلك اليوم وطول الليل، وعند الصباح حملت الريح الشرقية الجراد على جميع أرض مصر … فغطَّى جميع أوجه الأرض حتى أظلمت الأرض وأكل جميع عشبها وجميع ما تركه البَرَد من ثمر الشجر.» «فكان ظلام مُدلَهم في جميع أرض مصر ثلاثة أيام لم يكن الواحد يبصر أخاه.» «لمَّا كان نصف الليل ضرب الرب كل بكر في جميع أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على عرشه، إلى بكر الأسير الذي في السجن وجميع أبكار البهائم. فقام فرعون ليلًا هو وجميع عبيده وسائر المصريين، وكان صراخ عظيم في مصر حيث لم يكن بيت إلا وفيه ميت.» وعند هذا الحد فقط يقتنع فرعون بضرورة إطلاق بني إسرائيل فيفعل ذلك وهو مُكره على أمره.
ومن عادة يهوه إفناء المدن بكاملها فلا يترك منها أحدًا فينجو ليُحدِّث بأهوال ما حدث لها.
نقرأ في سفر التكوين الإصحاح ١٩: ١٢–٣٦: «وقال الرجلان للوط من لك أيضًا هنا؟ أصهارك وبنوك وبناتك وكل من لك في المدينة أَخرج من المكان؛ لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب، فأرسلَنا الرب لنهلكه. خرج لوط وكلَّم أصهاره الآخرين وبناته، وقال قوموا اخرجوا من هذا المكان؛ لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره. ولمَّا طلع الفجر كان الملاكان يُعجِّلان لوطًا قائلين قم خذ امرأتك وابنتَيك الموجودتَين لئلا تَهلك بإثم المدينة. ولمَّا توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتَيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة. وكان لمَّا أخرجاهم إلى الخارج أنه قال اهرب لحياتك، لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك. قال لهما لوط لا يا سيد. هو ذا عبدك قد وجد نعمةً في عينَيك وعظمةً لطفك الذي صنعت لي باستبقاء نفسي، وأنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. ها هي المدينة هذه قريبة للهرب إليها وهي صغيرة أهرب إلى هناك. فقال له إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضًا ألَّا أقلب المدينة التي تكلَّمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك؛ لأني لا أستطيع شيئًا حتى تجيء إلى هناك؛ لذلك دُعي باسم المدينة صوغر. وإذ أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر. فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا من عند الرب من السماء، وقلب كل المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض. ونظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.»