التنين السومري
بعد أن تمَّ تنظيم الكون السومري، وبعد فترة ليست طويلةً من فصل السماء عن الأرض، يندفع من باطن الأرض تنين العالم الأسفل كور الإله المطلق لعالم الموت والظلام، في محاولة لمد نفوذه على بقية العالم، وإرجاع الحياة إلى جماد، والحركة إلى سكون، والنور إلى ظلمات. ولكن الآلهة الشابة التي وطَّدت حديثًا سلطتها، تتصدَّى له وتعيده إلى عالمه. وقد تصدَّى لكور على التوالي، وفي مواقع مختلفة، كل من إنانا إلهة الحياة والحب والخصب، وإنكي إله الماء واهب الحياة، وننورتا بن إنليل إله الهواء والحركة.
والنصوص السومرية التي روت عن صراع آلهة الحياة والحركة، ضد تنين العالم الأسفل، وصلتنا في حالةٍ سيئة من التشوُّه والنقص، الأمر الذي يمنع من معرفة مصير كور النهائي. إلا أن الأساطير السومرية تتحدَّث بعد ذلك عن كور باعتباره مكانًا لا باعتباره تنينًا أو إلهًا، ممَّا يدل على أن كور التنين ربما قُتل في إحدى هجماته، وترك اسمه يُطلَق على العالم الأسفل الذي كان يسكنه.
(١) كور يختطف إريشكيجال
وبما أن هذا النص لم يكن مكرَّسًا لرواية قصة كور وإريشكيجال، فإنه لم يُعنَ بإكمال القصة التي افترض أنها معروفة في ذلك الحين ومفصَّلة في نصوص أخرى؛ فقد ورد هذا النص كمقدمة لنص آخر هو نص جلجامش وإنكيدو والعالم الأسفل، حيث جرت العادة في معظم النصوص السومرية أن يبدأ الكاتب بفقرة تتحدَّث عن الأصول والبدايات والأحداث الجسام التي وقعت في تلك الأزمان الأولى. على أننا نعثر على إريشكيجال في النصوص اللاحقة، وخصوصًا البابلية منها، وهي ربة للعالم الأسفل من دون كور. فهل يدل ذلك على إخفاق إنكي في إنقاذها، أم أن إنقاذها قد تمَّ ثم هبطت إلى العالم الأسفل في وقت لاحق ومن خلال أحداث مختلفة؟ هذا ما لا تُجيب عنه النصوص التي بين أيدينا.
(٢) كور وإنانا
ورغم أن آن يحذِّرها من مغبَّة المخاطرة، إلا أنها في حماسة شديدة، تُشهر القتال وتوجِّه أسلحتها في صراع ناجح ضد كور لتطأه أخيرًا بقدمَيها.
(٣) ننورتا يصارع آساج
ننورتا هو ابن إنليل إله الهواء والعاصفة، وهو إله الرياح الجنوبية الهوجاء، وأيضًا إله القنوات والسدود والري. وهو في هذا النص يعتزم التصدي لآساج عفريت العالم الأسفل، وإله العلل والأمراض، والساعد الأيمن لكور. وقبل أن يتوجَّه للقتال يقوم سلاحه شارور (ولا يوضِّح لنا النص نوع هذا السلاح) بتشجيعه وحثِّه على بدء الهجوم. وعندما تبدأ المعمعة، يُبدي أساج من الشدة والمراس، ما يجعل ننورتا يفر وكأنه طائر. ولكن سلاحه العنيد يعود لحثِّه على مواصلة القتال. وفي هذه المرة يستطيع ننورتا قهر آساج والتغلُّب عليه. إلا أن سلسلةً من الكوارث تلي ذلك؛ فالعالم السفلي يتزعزع لهذه الحادثة، وتثور ثائرة كور، فيبتلع أوَّلًا المياه العذبة من الينابيع والآبار والأنهار:
بعد هذه المرحلة التخريبية الأولى يدفع كور بمياه الأعماق بقوة إلى سطح الأرض لتكتسح أمامها كل شيء. وهنا يتصدَّى ننورتا مرةً أخرى لقوى العالم الأسفل، فيعمل على بناء سد عظيم من الحجارة في وجه المياه، وينجح في صد هجومها المدمِّر وينقذ سومر.
وقد سمعت ننماخ بفعال ابنها ننورتا فقامت لرؤيته، وناجته من بعيد أن يأذن لها برؤيته، وعندما تحضر إليه يهديها جبل الحجارة الهائل الذي ردمه في وجه كور، فتحمل اسم سيدة الجبل أي ننخرساج، وهو اسم من أسماء الأم-الأرض.
- أوَّلًا: في الأسطورة السومرية كان كور إلهًا للعالم الأسفل، وبعد زواله بقي اسمه للدلالة على عالم الظلمات والأموات. أمَّا تعامة فلم يكن لها علاقة بالعالم الأسفل لا في حياتها ولا بعد مماتها.
- ثانيًا: كانت تعامة في الأسطورة البابلية إلهةً بدئيةً تمثِّل العماء الأول، وكان لا بد من القضاء عليها لبزوغ العالم المنظم. أمَّا كور السومري فلم يكن كذلك.
- ثالثًا: كانت تعامة إلهةً كونية، صنع مردوخ من جسدها الكون. أمَّا كور السومري فقد تلاشى ولم يبقَ منه سوى اسمه، يُطلق على مملكته التي غادرها.
- رابعًا: كان صراع مردوخ مع تعامة صراعًا سبق الخلق والتكوين. أمَّا قتل التنين كور فيحدث بعد التكوين بفترة لا بأس بها ولا قيمة لهذا الصراع بتاتًا فيما يتعلَّق بعملية الخلق.
(٤) جلجامش وأرض الأحياء
جلجامش بطل أسطوري ورد اسمه في ثبت ملوك سومر كملك لمدينة أوروك، من الأسرة التي حكمت بعد الطوفان. ونراه في أحد النصوص التاريخية السومرية في حرب مع آجا ملك المدينة السومرية المجاورة كيش. إلا أن قصصًا كثيرةً حيكت حول هذه الشخصية التاريخية، فرفعتها من مقام الواقع إلى عالم الأسطورة. ونرى جلجامش، فيما بعد، وقد انتقل إلى الأدب البابلي، حيث قامت العبقرية الأدبية الأكادية بجمع حكايات جلجامش السومرية وحياكتها في نسيج رائع، مع إضافات من ابتكار الكُتَّاب الأكاديين الذين خرجوا علينا بملحمةٍ متكاملة، هي دُرة الأدب القديم.
يلي ذلك تسعة وعشرون سطرًا، معظمها يحتوي على نقص في موضع أو أكثر. ولكن المعنى الإجمالي كامل الوضوح؛ فبعد أن يضع أوتو تحت تصرُّفه تلك الجبابرة السبعة، ينطلق جلجامش إلى مدينته طالبًا خمسين متطوِّعًا لمرافقته في رحلته. ويشترط في مرافقيه أن يكونوا بلا بيوت يملكونها أو زوجات أو أولاد، فيكون له ما أراد. ثم يمضي إلى الحدادين فيصنعون له ولمرافقيه أجود أنواع الأسلحة. وعندما تكتمل عدته يشرع في مغامرته. يقطع جلجامش بجماعته ستة جبال هائلة، وعند عبور الجبل السابع يجلس الركب للراحة، فيقع جلجامش في سُبات عميق طويل، وعبثًا يحاول أنكيدو إيقاظه:
ولكن جلجامش يشجِّعه ويحثه على المضي قدمًا فيما قدما من أجله، فيتابع الركب سيره حتى يصل إلى غابة حواوا وحش الأرز. فيشرع رجال الحملة بقطع الأشجار حول عرين حواوا الذي يخرج للانقضاض على مهاجميه، ولكنه سرعان ما يقع في قبضة البطلَين، ويبدأ في الاستعطاف لكسب حياته:
(٥) جلجامش وثور السماء
وهذه أسطورة أخرى بطلها جلجامش أيضًا، ولكن اللوح الذي حملها إلينا قد وُجد على درجة كبيرة من التشوُّه والنقص، الأمر الذي يمنع تقديم ترجمة كاملة لها؛ ولذا سأكتفي بإعطاء فكرة عامة عن هذه الأسطورة، مع الاستعانة بالنص البابلي المتأخِّر الذي أدمجها أيضًا في نسيجه، كما أدمج أسطورة جلجامش وأرض الأحياء.
بعد النقص الحاصل في بداية اللوح نجد الإلهة إنانا وهي تخاطب جلجامش، وتعدِّد له الهدايا والأُعطيات التي ستُغدقها عليه. ونستطيع هنا أن نستنتج اعتمادًا على النص البابلي اللاحق أن الإلهة تعرض عليه هنا حبها والمنافع التي ستعود عليه إن هو اتخذها زوجةً له. وعندما يعود النص للوضوح نجد إنانا في حضرة أبيها آن رب السماء، تطلب منه أن يعطيها ثور السماء لتقتل به جلجامش. لذا نستطيع الاستنتاج أن جلجامش قد رفض حب الإلهة ورفض عرض الزواج الذي تقدَّمت به. ولكن الإله آن يتردَّد في إعطاء ابنته المتهورة ثور السماء، فتلجأ إلى تهديده بخلعه عن العرش وإدارة الكون مع بقية الآلهة من دونه. فيخضع آن للتهديد ويسلِّمها قياد ثور السماء الذي يهبط إلى الأرض يعيث فيها فسادًا، وينشر الخوف والهلع بين ظهرانِيها. وهنا ينتهي الكم الواضح من النص السومري، ولكن النص البابلي يؤكِّد انتصار جلجامش على ثور السماء حيث يواجهه مع صديقه إنكيدو، فيقطعان رأسه ويقدِّمانه هديةً للإله شمش (أوتو).
ولعلنا واجدين في تهديد إنانا لآن رب السماء وسيد الآلهة في هذا النص شبهًا واضحًا بالتهديد الذي وجَّهته صنوها عناة الأوغاريتية لإيل رب السماء وسيد الآلهة في معرض طلبها منه الموافقة على بناء بيت لحبيبها بعل عندما قالت: «سيهتم أبي، إيل الثور، بالأمر، وإلا رميته إلى الأرض كحَملٍ صغير، وجعلت الدم يجري في شعره الأشيب وفي شعيرات لحيته البيضاء.»