التنين البابلي
(١) قتل اللابو
وهنا يصيب اللوحَ كسور وتشوُّهات تمنع من فهم محتوياته. ونقف عند خوف تيشباك وتردُّده في قتال التنين. وهذا ما يعيد إلى أذهاننا أجواء التحضير لقتال تعامة في الإينوما إيليش، عندما تهيَّب البعض نزالها قبل أن يتطوَّع مردوخ. وعندما يعود النص للوضوح نجد أنفسنا في معمعان المعركة، دون أن نعرف أي إله قد تجرَّأ على المضي للقاء اللابو:
ينطبق على هذه الأسطورة التفسير العام الذي تقدَّمتُ به في فاتحة هذا السفر؛ فالتنين هنا نتاج القوى البدئية السابقة لتنظيم الكون، دفعَت به المياه التي ترمز في الأسطورة لقوى العماء والفوضى، إلى الكون المرتب لزعزعة بنيانه وإعادته إلى حالته السابقة. كما ينطبق على النص تفسيرنا للأسطورة باعتبارها مغامرةً للعقل الباحث عن الأسباب والغايات، وذلك في جزئها الخاص بشكل التنين. فعندما أتى إنليل لشرح خطة المعركة للآلهة، قام برسم شكل اللابو في السماء، يوضِّح عظمته وقوته، فكان درب المجرة الذي يقطع السماء المعتمة من أقصاها إلى أقصاها. وقد بقي ذلك الرسم محفورًا في الأعالي إلى يومنا هذا. ومن ناحية أخرى ينطبق على الأسطورة التفسير الذي يؤكِّد أن التنين ليس إلا قوى اللاشعور المكبوتة؛ ذلك أن اللابو قد اندفع من أعماق المياه التي ترمز في الأسطورة إلى أغوار اللاشعور.
(٢) الطائر «زو»
كان الطائر العملاق زو من قوى العالم الأسفل المدمِّرة. نرى رسومه على العديد من الأختام التي عُثر عليها في أرض الرافدَين، ويبدو فيها في هيئةٍ هي مزيج من الإنسان والطائر. كما ورد اسمه في كثير من النصوص الطقسية وهو في صراع مع بعض كبار الآلهة. فأحد النصوص يصف مردوخ بأنه من حطَّم رأس زو، بينما يعزو نص آخر هذا العمل إلى الإله ننورتا. أمَّا النص الذي نحن بصدده الآن فقد وصلنا في روايتَين متشابهتَين؛ الأولى من نينوى، والثانية من سوسة.
تتلخَّص الأسطورة في أن زو يرغب في السيطرة على الآلهة جميعًا واحتلال مركز الصدارة. ولن يتيسَّر له ذلك إلا إذا سرق ألواح الأقدار التي يحملها إنليل، تلك الألواح التي تعطي حاملها سلطةً مطلقةً في الآلهة والبشر والأكوان. ينجح طائر العالم الأسفل في مسعاه ويهرب بالألواح بعيدًا تاركًا الآلهة في جزعٍ شديد للحادث الجلل الذي أسلم مصائر الأكوان للقوى العمياء. وكما هو الأمر في أساطير التنين السابقة، فإن مهمة القضاء على الوحش تُوكل إلى العديد من الآلهة، ولكنهم يتنصَّلون منها، إلى أن يتطوَّع أحدهم ويحقِّق نصرًا مؤزَّرًا. إلا أن تشوُّه اللوح الفخاري ونقصه يمنعنا من معرفة اسم الإله الذي نجح في تلك المهمة. والنص بمجمله ذو أصل سومري واضح؛ نظرًا إلى أن الإله إنليل يظهر فيه كرئيس لمجمع الآلهة وحامل لألواح الأقدار:
(بداية النص تالفة)
(يلي ذلك تشوُّه وكسور في اللوح، وعندما يتضح النص نجد آنو جادًّا في إقناع إله آخر في المضي إلى زو):
إلى هنا ينتهي الجزء المقروء من النص، إلا أننا نستطيع الاستنتاج بأن واحدًا من الآلهة قد تطوَّع لقتال زو وأكمل مهمته بنجاح، ذلك أن لقب قاهر زو قد أُلصق بأكثر من إله، وبأكثر من عمل فني صُوِّر مصرع ذلك الوحش الجبار.
A. Hidel, the Babylonian Genesis, Phoenix Books, Chicago, 1970.