الفصل الثالث
التنين التوراتي
لم يترك إله اليهود يهوه صفةً من صفات آلهة السوريين أو فعلًا من أفعالهم، أو صلاحيةً
من صلاحياتهم، إلا وادعاها لنفسه، كما ألمحنا إلى ذلك في سفر البداية. فهو إيل نفسه إله
السموات السوري، لم يكتفِ بنقل صفاته وصلاحياته، بل ادعى لنفسه الاسم ذاته، وهو أدون
(أدونيس)، وناداه به عباده في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس. وهو مُذلِّل المياه الأولى
كمردوخ وبعل. نقرأ في التوراة: «صوت الرب على المياه، إله المجد أرعد، الرب فوق المياه
الكثيرة، وصوت الرب بالجلال.»
١ «أنت متسلِّط على كبرياء الماء.»
٢ وهو يركب السحاب كما يفعل بعل: «والجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح.»
٣ كما لم يتورَّع يهوه عن مصارعة الوحوش الهائلة والتنانين وحيات البحر. وهو في
سبيل ذلك يتخلَّى عن الشمولية والإطلاق؛ لأن الخالق لا يُصارع مخلوقاته، بل يصارع
أنداده.
وبدافعٍ عن غيرته العظيمة من الإله بعل، الذي بقي اليهود وملوكهم يعبدونه إلى فترات
متأخِّرة جدًّا من تاريخهم، نجد يهوه يجدِّد مرةً أخرى الصراع القديم الذي خاضه بعل مع
التنين لوتان، وذلك في نص توراتي يتطابق حرفيًّا مع النص الأوغاريتي. وقد أوردنا النصَّين
في فصل التكوين التوراتي، ونوردهما هنا مرةً أخرى:
النص الأوغاريتي |
سفر إشعيا، ١: ٢٧ |
والآن تريد أن تقتل لوتان |
في ذلك اليوم يعاقب الرب |
الحية الهاربة |
بسيفه القاسي العظيم الشديد |
الآن تريد أن تجهز على الحية الملتوية |
لوتان الحية الهاربة |
شالياط العتية |
لوتان الحية المتحوية |
ذات الرءوس السبعة |
ويقتل التنين الذي في البحر |
وفي نصوص أوغاريتية أخرى تجد أن عناة، حبيبة بعل، تقوم أيضًا بقتل التنين وسحق الحية
الملتوية:
٤
أي جوبار وأوغار، ما الذي أتى بكما إلى هنا؟
أي عدو قد قام في وجه بعل؟
وأي خصم ناهض راكب الغيوم؟
ألستُ التي محقت يم حبيب إيل؟
ألستُ التي قضت عل نهر الإله العظيم؟
ألستُ التي أفنت التنين؟
وسحقت الحية الملتوية ذات الرءوس السبعة؟
وفي أماكن أخرى من التوراة نجد إشارات إلى التنين نفسه:
٥
أنت شققت البحر بقوتك،
كسرت رءوس التنانين على المياه.
أنت رضضت رءوس لوياتان،
جعلته طعامًا للشعب، لأهل البرية.
أنت فجَّرت سيلًا وعينًا.
أنت يبَّست أنهارًا دائمة الجريان،
لك النهار ولك الليل أيضًا.
أنت هيَّأت النور والشمس.
أنت نصبت كل تخوم الأرض.
الصيف والشتاء أنت خلقتهما.
في هذا النص نجد قصةً أخرى للتكوين؛ فعملية الخلق تلي التغلُّب على المياه وعلى لوياتان
وبقية التنانين. هذا الجو يذكِّرنا بصراع مردوخ مع تعامة، وقهره لها ولجيشها المؤلَّف
من
تنانين وأفاعٍ ومخلوقات عجيبة.
وفي نص توراتي آخر، نقرأ وصفًا حيًّا للوياتان، يعيد إلى ذاكرتنا وصف تعامة وجبروتها:
٦ «من يفتح مصراعَي فمه، دائرة أسنانه مرعبة. عطاسه يبعث نورًا، وعيناه كهدب
الصبح. من فِيه تخرج مصابيح، شرار نار تتطاير منه. من منخرَيه يخرج دخان كأنه من قدر
منفوخ، أو من مرجل. نفَسه يُشعل حجرًا، ولهيب يخرج من فيه. قلبه حجر وقاسٍ كالرحى. عند
نهوضه تفزع الأقوياء. يحسب الحديد كالتبن، والنحاس كالعود النخر. حجارة المقلاع ترجع
عنه كالقش. يضيء السبيل وراءه، فيحسب اللج أشيب، ليس له في الأرض نظير.»
وإلى جانب لوياتان هناك تنانين أخرى يصارعها يهوه ويتغلَّب عليها. منها رهب الذي
نقرأ
عنه في أكثر من موضع في العهد القديم: «استيقظي، استيقظي، البسي قوةً يا ذراع الرب.
استيقظي كما في أيام القِدم، كما في الأدوار القديمة. ألست أنت القاطعة رهب، الطاعنة
التنين. ألست أنتِ هي المنشفة البحر، مياه الغمر العظيم، الجاعلة أعماق البحر طريقًا
لعبور المفديين؟»
٧ وهذا النص يذكِّرنا بحديث عناة في النص الأوغاريتي السالف الذكر: ألستُ التي
محقت يم … إلخ.
وفي مكان آخر في العهد القديم نقرأ عن رهب أيضًا: «من يشبه الرب بين أبناء الله؟
إله
مهوب جدًّا في جماعة القديسين، ومخوف عند الذين حوله. يا رب، إله الجنود، من مثلك قوي؟
رب، وحقك من حولك. أنت متسلِّط على كبرياء البحر، عند ارتفاع لججه أنت تسكنها. أنت سحقت
رهب مثل القتيل، بذراع قوتك بدَّدت أعداءك. لك السموات، لك الأرض أيضًا. المسكونة وملؤها
أنت أسَّستها. الشمال والجنوب أنت خلقتهما.»
٨ يحتوي هذا النص على أصداء وثنية واضحة؛ فالرب واقف في مجمع الآلهة؛ أي
أبناء الله، ولا نظير له بينهم كبعل أو مردوخ. وهو عظيم لأنه انتصر على المياه، وعلى
التنين رهب، ثم يتابع أعمال الخلق، تمامًا كمردوخ.
وعن رهب نقرأ أيضًا: «الرب لا يرد غضبه، ينحني تحته أعوان رهب.»
٩
«بقوته يزعج البحر وبفهمه يسحق رهب. بنفحته السموات مسفرة، ويداه أبادتا الحية الهاربة.»
١٠
هذا وقد انتقل رهب إلى الأساطير المسيحية فيما بعد. ولكن الإله هنا لا يباشر بنفسه
قتال التنين، بل يترك ذلك لأحد القديسين، وهو القديس جاورجيوس الذي تمثِّله الأعمال
الفنية المسيحية في القرون الوسطى وهو يطعن بحربته التنين الرهيب.