الجنة البابلية
لم يعثر حتى الآن على أسطورة بابلية مشابهة لأسطورة دلمون، رغم الإشارات الدالة على وجود مثل هذه الأسطورة. فنحن نعلم من أسطورة الطوفان البابلية أن أرض دلمون هي مكان الخالدين؛ لأن أوتنابشتيم وزوجته بعد أن يُنقذا الحياة على سطح الأرض من الطوفان، يكافئهما إنليل يجعلهما من الخالدين، وكانا قبلًا من البشر الفانين، ويسكنهما في دلمون حيث منابع الأنهار. دلمون إذن هي الجنة السومرية البابلية، وهي مرتع الآلهة الخالدين، ولكنها في نفس الوقت مسكن البشر ممَّن أسبغت عليهم نعمة الخلود. وتحدِّثنا ألواح أوغاريت عن جنة مماثلة. فالإله إيل يسكن عند منبع الأنهار أيضًا، كما هو الأمر في دلمون وفي فردوس التوراة حيث تنبع أنهار فيشون وجيحون وحداقل والفرات.
أمَّا سقوط الإنسان فتنقله لنا أسطورة أخرى وهي أسطورة آدابا. وآدابا هنا هو الإنسان الأول الذي خسر الخلود بسبب غلطة، وهذه الغلطة رغم أنها ترجع إلى سوء تفاهم وإلى سوء نية الإله إياه الذي خلقه، إلا أنها في نتائجها تتلاقى مع نتائج خطيئة آدم؛ فكلاهما خسر الحياة الأبدية وجلب الموت على ذريته، ونلاحظ هنا تشابه الاسمين آدم-آدابا.
قام الإله إيا بخلق آدابا لخدمة معبده، وصيد السمك للآلهة، وجعله عاقلًا وأسبغ عليه الحكمة الكاملة، غير أنه لم يهبه الحياة الأبدية. وفي أحد الأيام بينما كان آدابا يصطاد على شاطئ الخليج العربي، هبَّت رياح الجنوب وقلبت قاربه ورمت به في الماء. فغضب لذلك ولعنها على ما فعلت، فانكسر أحد جناحَيها ولم تستطع الهبوب مرةً أخرى. وبعد سبعة أيام من اختفاء ريح الجنوب، دُعي آدابا للمثول أمام آنو كبير الآلهة لاستجوابه على ما فعله. وقبل صعوده زوَّده خالقه «إيا» بعدد من النصائح، وأشار عليه أن يطيل شعره، ويلبس ثياب الحِداد؛ للتأثير على الإلهَين تموز وجيزيدا حارسَي بوابة السماء، عندما يسألان عن سبب حِداده، فيجيب أنه حزنًا على تموز وجيزيدا اللذَين كانا يعيشان في الأرض ثم اختفيا؛ فإن ذلك سيسرهما وسيسمحان له بالمرور. كما قال له إن طعام الموت وماء الموت سيقدَّمان له في السماء، وعليه ألَّا يأخذ منهما شيئًا.
وعندما مثل آدابا أمام آنو واستجوبه قام تموز وجيزيدا بالوقوف إلى جانبه، ويبدو أن المسألة سارت في صالحه، فلم يكتفِ آنو بالعفو عنه، بل قرَّر مكافأته بضمِّه إلى صف الخالدين، طالما أنه دُعي للمحكمة واطلع على أسرار السماء. فأمر له بطعام الحياة ليأكل، إلا أن آدابا ملتزمًا بوصية إيا لم يمد يده إلى الطعام. وعندما أمر له بشراب الحياة امتنع عن الشرب. فدعاه آنو للاقتراب منه ضاحكًا وقال له: لماذا فعلت ذلك يا آدابا؟ لماذا لم تأكل ولم تشرب؟ أليست صحتك على ما يرام؟ ثم التفت إلى حاشيته وقال: خذوه وأعيدوه إلى الأرض. وهكذا خسر آدابا الحياة الأبدية لأنه لم يأكل ولم يشرب ممَّا قُدِّم له، فأعيد إلى الأرض الفانية يعمل ويتعذَّب هو وذريته من بعده.
عُثر على الأسطورة في نسختَين في مكتبة آشور بانيبال، وكل نسخة مكتوبة بخط مغاير، وتختلف قليلًا في روايتها عن الأخرى. كما عُثر على نسخة منها بالخط المسماري في أرشيف الفرعون المصري أمنحوتب الثالث، إلى جانب النصوص السامية الأخرى التي وُجدت هناك، والتي كانت تشكِّل جزءًا من التبادل الثقافي بين الحضارتَين. وقد كُتبت كلٌّ من النسختَين على لوحَين إلا أن الألواح قد وصلتنا في حالة مشوَّهة مع فقدان معظم أجزائها.
(١) أسطورة آدابا، النسخة الأولى١
(١-١) اللوح الأول
(بقية اللوح مفقودة)
(١-٢) الكسرة الثانية
(البداية مكسورة)
وهكذا فعل إيا كما فعل يهوه في الأسطورة التوراتية. لقد خلق الإنسان وحجب عنه الخلود. صنعه كاملًا وحكيمًا وسيدًا، ولكنه دفعه للخطيئة المميتة؛ لأن الحياة الأبدية يجب أن تبقى وقفًا على الآلهة وحدهم. ونستطيع أن نلمح تشابهًا بين العباءة التي أُعطيت لآدابا ليلبسها وبين الرداءَين اللذَين أُعطيا لآدم وزوجه ليلبساهما عشية خروجهما من الجنة (وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصةً من جلد وألبسهما).
(٢) النسخة الثانية
(٢-١) اللوح الأول
(البداية تالفة)
(البقية مكسورة)
(٢-٢) اللوح الثاني
(البداية تالفة)
ثم يمنع النقص الحاصل في السطور من إعطاء فكرة واضحة عن بقية اللوح، إلا أننا نعلم أن فعلة آدابا قد جرت الأمراض والعلل على جنسه. غير أن هذه الأمراض والعلل قابلة للشفاء عن طريق الإلهة نن كارا إلهة الشفاء. ويبدو أن هذه الأسطورة كانت تُتلى كجزء من تعويذة لشفاء المرضى.
ولقد عُثر على ختم بابلي أثار كثيرًا من الجدال بسبب تمثيله لقصة شبيهة جدًّا بقصة سقوط الإنسان التوراتية. نجد في الرسم رجلًا وامرأةً يجلسان متقابلَين وبينهما شجرة يمدان يدَيهما إلى ثمارها، وخلف المرأة تنتصب حية طويلة في وضعٍ أشبه بوضع الهامس في أذن المرأة.
فهل يحكي لنا هذا الرسم فعلًا أسطورة السقوط الأصلية؟ وهل سنجد في المستقبل النص الذي يحدِّثنا عنه؟ في الواقع إن شدة قرب الرسم للرواية التوراتية يجعلني أميل للرأي القائل بأن هذا الختم يصوِّر لنا روايةً فقدت نصوصها لتظهر في التوراة من جديد.
(٢-٣) متوازيات في أساطير الشعوب
كان في قديم الزمان إله عجوز. ثم إن هذا الإله فكَّر في أن يخلق الأشياء والإنسان ومظاهر الطبيعة المختلفة، فقام إلى عمله مرتحلًا من الجنوب إلى الشمال، صانعًا في طريقه الحيوانات والطيور والجبال والأنهار والوديان والشلالات، مشكِّلًا صورة العالم كما نراه الآن. ثم إنه صنع نموذجَين من الطين على شكل امرأة وابنها، وغطَّاهما بغطاء قائلًا يجب أن تُصبحا بشرًا. ثم تركهما وعاد إليهما في اليوم التالي، ورفع عنهما الغطاء، فوجد أنهما قد تغيَّرا قليلًا، فتركهما وعاد في اليوم الثاني والثالث والرابع، حيث وجد أن التحوُّل قد تم، وأن باستطاعتهما الآن أن يكونا رجلًا وامرأة، فقال لهما انهضا وامشيا، ففعلا ذلك وسارا إلى جانب صانعهما إلى ضفة النهر، وهناك تساءلت المرأة هل نعيش للأبد أم تكون هناك نهاية لهذه الحياة؟ قال الإله: في الواقع لم أفكِّر بذلك بعد. ولكن انظرا إليَّ، سأرمي بهذه القطعة من روث الجاموس، فإن هي عامت على سطح الماء فإن الإنسان سيموت أربعة أيام فقط ثم يعود للحياة مرةً أخرى، وأمَّا إذا غرقت فسيكون هناك نهاية لحياته. ورمى القطعة فعامت، ولكن المرأة كانت طمَّاعةً وشرهةً للحياة، قالت: بل سأرمي هذه القطعة من الحجر، فإن هي عامت سنعيش أبدًا، وإن غاصت سنموت. ورمت بالحجر فغاص إلى القاع. قال الإله: حسنًا. لقد قمت بالاختيار وسيكون هناك نهاية للإنسان.
ويُذكِّر هذا السطر بقول يهوه في أسطورة الفردوس التوراتية: «هو ذا الإنسان صار كواحد مِنَّا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد.»