ثلاثة نصوص سومرية
حلَّت الثقافة السومرية، كما يمكن أن نتوقَّع من أول ثقافة زراعية في التاريخ، حلَّت ذلك التناقض بين المزارع والراعي لصالح المزارع في ثلاث أساطير معروفة. وفي هذه الأساطير يذهب المزارع والراعي إلى الآلهة يحتكمان فيما شجر بينهما من خلاف، حيث تحكم الآلهة للمزارع بالغلبة والتفوُّق والأفضلية على أخيه الراعي.
(١) إيميش وإنتين
يرغب الإله إنليل في غمر الأرض بالخضرة والمزروعات والأشجار، وتربية الحيوان والماشية عليها، والإكثار من منتوجاتها، فيخلق لهذه الغاية الأخوَين إيميش الراعي وإنتين المزارع. يقوم الأول بتكثير المواشي وإنتاج الحليب والسمن والبيض وما إليها، بينما يقوم الثاني بنشر المزارع على الأرض وتنمية الحبوب ورعاية الأشجار. ولكن خصامًا مجهول المصدر والسبب (بنتيجة النقص الحاصل) ينشأ بينهما، ويدخلان في مشادَّات ومناظرات عديدة، تنتهي بأن يتحدَّى إيميش الراعي أخاه المزارع ويذهبا إلى إنليل ليعرفا مَن هو المفضَّل عنده. ويعرض كلٌّ منهما قضيته، إلا أن إنليل يُعلن صراحةً أنه يفضِّل المزارع:
ثم إن الأخوَين يتعايشان معًا ويتعاونان؛ لأن أي خصام بينهما لن يؤدِّي إلى نتيجة طالما أن إنليل قد اتخذ قرارًا، وقراره لا راد له، وينتهي النص بمديح للأب إنليل.
أي إنليل، أيها الأب، نُسبِّح بحمدك.
(٢) لهار وأشنان
رأينا عندما بحثنا في التكوين السومري كيف أن الآلهة قد خلقت الإله لهار وأخته الإلهة أشنان لتأمين الغذاء والكساء لهم. ولكن الآلهة لم تستطِع الاستفادة بشكل تام من خدماتهما إلا بعد أن خلقت الإنسان الذي استطاع أن يُدير ما خلقه هذا الإلهان ويستثمره.
وهكذا فلهار وأشنان هما بطلان حضاريان بعثت بهما الآلهة إلى البشر لتعليمهم الزراعة وتربية الدواجن والماشية. هذه الأشياء وغيرها، كالكتابة والفنون والنار، اعتُبرت دومًا أسرارًا إلهيةً جيء بها إلى الأرض إمَّا كرمًا من الآلهة، كما هو الحال في أسطورتنا هذه، أو عنوةً واغتصابًا كما رأينا في أسطورة بروميثيوس الإغريقي سارق النار الإلهية.
كان لهار يُكثر المواشي ومنتجاتها على الأرض، أمَّا أشنان فكانت تزيد في غلال الأرض ومنتجاتها، ولكن الخصام وقع بينهما وراحا يتجادلان في أيهما أفضل من الآخر، ويُبدي كلٌّ منهما مآثره وفعاله. وكما هو الأمر في أسطورة إيميش، فإن لهار وأشنان يحتكمان إلى الآلهة، فيحكم إنليل وإنكي لأشنان المزارعة بالغلبة والتفوُّق، وتنتصر الزراعة للمرة الثانية.
(٣) أنكمدو ودوموزي
(إلا أن أخاها أوتو إله الشمس يَحُضها على الزواج من دوموزي الراعي وتفضيله على الفلاح، فيأخذ بتعداد محاسنه وصفاته):
ويلي ذلك تشوُّه في النص، ولكننا نعلم من الكلمات المتفرِّقة الواضحة أن إنانا تتابع إبداء وجهة نظرها في السبب الذي من أجله تُفضِّل المزارع. وبعد ذلك يتغيَّر المشهد فيدخل المسرح دوموزي نفسه مناقشًا إنانا في رأيها، ومعلنًا عن نفسه وما يستطيع تقديمه لها:
ويتابع دوموزي ذكر ما لديه، وأفضليته على ما يستطيع خصمه تقديمه. وذلك في حوارية طريفة، تأخذ الطابع المسرحي. ويبدو أن إنانا قد اختارت أخيرًا الراعي، ولا ندري السبب في ذلك، فهل أقنعتها حججه؟ أم خضعت لمشيئة أخيها أوتو، أم لغاية أخرى في نفسها؟ على أن الراعي دوموزي لا يكتفي بهذا الانتصار، بل نجده يذهب إلى حقل أنكمدو ويستفزُّه في عُقر داره ساحبًا مواشيه وراءه تفتك بالمزروعات. ولكن أنكمدو يترفَّع عن الدخول معه في خصام، ويُظهر تجاهه تسامحًا ومودة:
(على أن هذا الموقف المتسامح من المزارع لا يقابله من الراعي إلا استمرار في العداء والبغضاء):
(ولكن أنكمدو يتابع موقفه فيعرض الهدايا على العروسَين):
وهكذا ينتهي النص بانتصار الراعي دوموزي على الفلاح أنكمدو، وتأخذه إنانا زوجًا لها. إلا أن هذا الانتصار لم يكن إلا بداية الكارثة لدوموزي المسكين الذي أرسلت به إنانا فيما بعدُ إلى العالم الأسفل لينوب عنها هناك، كما سنرى في أسطورة هبوط إنانا للعالم الأسفل. وتغدو التضحية بالراعي شرط انتصار الزراعة واستكمال دورة الخصب على الأرض، كما سنرى في أسطورة هبوط عشتار للعالم الأسفل. وهكذا فإن انتصار الراعي لم يكن إلا مؤقَّتًا وزائفًا ومرحلةً تحضيريةً لخسارته النهائية، بل وللتضحية به لضمان استمرار الحضارة الزراعية. وفي مراميها الأخيرة فإن هذه الأسطورة تتفق مع بقية أساطير أرض الرافدَين في سيادة الفلاح وغلبته على الراعي.
ولعل النص التوراتي لا يبتعد كثيرًا عن هذه الفكرة عندما يقبل الإله تقدمات هابيل الراعي مُفضِّلًا إياه عن قابيل المزارع، ولكن قابيل يقوم فيما بعدُ بقتل أخيه انتقامًا منه.