قايين وهابيل
«وعرف آدم حواء امرأته، فحملت وولدت قايين فقالت: قد رُزقت رجلًا من عند الرب. ثم عادت وولدت أخاه هابيل، فكان هابيل راعي الغنم، وقايين كان يحرث الأرض. وكان بعد أيام أن قايين قدَّم من ثمر الأرض تقدمةً للرب، وقدَّم هابيل أيضًا شيئًا من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب إلى هابيل وتقدمته، وإلى قايين وتقدمته لم ينظر، فشق على قايين جدًّا وسقط على وجهه. فقال الرب لقايين: لمَ شقَّ عليك وسقطت على وجهك؟ ألَا إنك إن أحسنت تنل. وقال قايين لهابيل أخيه: لنخرج إلى الصحراء. فلما كانا في الصحراء وثب قايين على هابيل أخيه فقتله. فقال الرب لقايين: أين هابيل أخوك؟ قال لا أعلم، ألعلي حارس لأخي؟ فقال: ماذا صنعت؟ إن صوت دماء أخيك صارخ إليَّ من الأرض. والآن فملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبِّل دماء أخيك من يدك.»
قد تبدو هذه الرواية التوراتية لأول وهلة وكأنها تُعطي الغلَبة والتفوُّق لهابيل الراعي؛ لأن يهوه قد تقبَّل قربانه ولم يتقبَّل من قايين المزارع. ولكن المرامي النهائية للنص تتفق مع مرامي بقية النصوص؛ ذلك أن مقتل الراعي على يد المزارع إن هو إلا تثبيت لغلبة المزارع وقوته وتفوُّقه على الراعي. ولم يكن بإمكان النص التوراتي إلا أن يسير على هذا المخطَّط؛ لأن العبرانيين كانوا قومًا رعاة، ولكنهم استقروا فيما بعدُ وزرعوا الأرض وبنَوا المدن، وبقوا يُكنُّون احتراما لتاريخهم الرعوي القريب، فجاء قَبول يهوه لقربان الراعي تعبيرًا عن مرحلتهم الرعوية السابقة واحترامهم لها بسبب قراءاتهم اليومية للتوراة. أمَّا موت الراعي على يد المزارع فجاء نتيجةً للأمر الواقع الذي عاشوه من غلبة الزراعة على البداوة.
وقد وردت قصة الأخوَين في القرآن الكريم دون ذكر اسمَيهما، ولكن التقاليد الإسلامية تدعوهما قابيل وهابيل. والقصة القرآنية تقوم على عناصر القصة التوراتية مع إضافة عنصر الغراب، الذي علَّم قابيل كيف يدفن أخاه القتيل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ سورة المائدة: ٢٧–٣١.
مات هابيل تاركًا أحفاده الرعاة في أسر الدورة المناخية السنوية، بعيدين عن أية مساهمة في ثقافة البشر وحضارتهم؛ فبدوي اليوم لا يختلف في شيء عن بدوي فجر التاريخ. أمَّا قابيل فقد تسلَّم زمام الحضارة ودفع بها أشواطًا إلى الأمام. أنتج المجتمع الزراعي، فالمجتمع الصناعي، واستطاع قابيل الوصول إلى الفضاء الخارجي، فهل يعيش أحفاد هابيل ليرَوا قابيل وقد قضى عليه تقدُّمه العلمي والتكنولوجي ذاته.