الجحيم البابلي
إذا انتقلنا إلى بابل وآشور وجدنا أن تصوُّر الأكاديين للعالم الآخر وأحوال الموتى فيه هو استمرار للخيال السومري. ومن الأساطير التي تؤدِّي الغرض في هذا المجال أسطورة حلم أمير في العالم الأسفل، وأسطورة نرجال وإريشكيجال.
وُجدت أسطورة حلم أمير في آشور على لوح كبير يرجع عهده للقرن السابع قبل الميلاد. ونص الأسطورة نثري مؤلف من أسطر طويلة. وهو نص ثمين جدًّا لاكتماله نسبيًّا ودقة وصفه ووضوح لغته. تحكي لنا الأسطورة عن أمير آشوري اسمه كومايا كان توَّاقًا لرؤية العالم الأسفل. ولهذه الغاية كان يقدِّم القرابين لإريشكيجال وزوجها نرجال، ويرفع لهما الصلوات لتحقيق مراده. وأخيرًا تحقَّقت أمانيه ولكن في الحلم، فرأى فيما يشبه النائم أنه قد هبط إلى الدار الآخرة، ورأى معالمها وكاد يغدو سجينًا لها، ثم عاد ليقص ما عرض له من رؤًى مُروِّعة:
(١) حلم أمير في العالم الأسفل١
تمدَّد كومايا لينام مساءً، فعرضت له رؤيا (عجيبة): لقد رأيت روعته المخيفة. رأيت نمتار وزير العالم الأسفل وسيد أقداره. كان يمسك بيده اليسرى لبدة رجل جاثٍ أمامه، وبيده اليمنى كان يمسك سيفًا […].
(رأيت) نمتارتو زوجته. كان لها رأس الكوربيو، أمَّا يداه وقدماه فكانت بشرية. أمَّا إله الموت فكان له رأس تنين ويداه بشريتان وقدمان […].
(رأيت) الموكيل ريش ليموتي. كان له رأس طير وجناحان مبسوطتان يطير بهما جيئةً وذهابًا. أمَّا يداه وقدماه فكانت بشرية. ورأيت حمو طابال ملاح العالم الأسفل. كان له رأس طائر الزو، أمَّا يداه وقدماه فكانت بشرية.
[…] رأس ثور، ويداه يدا بشر وقدماه. رأيت أوتوكو الشرير. كان رأسه لأسد، ويداه وقدماه لطائر الزو، وشولاع الذي يملك رأس أسد أيضًا، ولكنه ينتصب على ساقَي أيل.
(رأيت) ماميتو. كان لها رأس عنزة ويدان بشريتان وقدمان. ونيدو حارس بوابة العالم الأسفل. كان رأسه لأسد وأطرافه لطائر. وفيماليو ذا الرأسَين؛ واحد لأسد والثاني ﻟ[…].
[…] ثلاثة أرجل؛ اثنتان لطائر والثالثة لثور، وعليه مهابة وروعة. ورأيت إلهَين لم أعرف اسمَيهما؛ أحدهما له رأس وأطراف طائر الزو، و[…].
والآخر له رأس إنسان عليه عمامة، بيده اليمين هراوة وباليسرى […]، كان مجمل ما رأيت خمسة عشر إلهًا عبدتهم جميعًا.
وبالإضافة إليهم كان هناك رجل، جسمه أسود كالقار، ووجهه كوجه الزو، وقد توشَّح بعباءة حمراء. بيده اليسرى قوس، وباليسرى كان يحمل سيفًا، ورجله اليسرى كأنها أفعى.
رفعت بصري وإذا بي في حضرة نرجال الصنديد جالسًا على عرش جلالته، على رأسه العمامة الملكية، وبيدَيه الاثنتَين سلاحان رهيبان لكل سلاح رأسان.
[…] من ذراعَيه ينبعث البرق، وعلى يمينه وشماله جلس الأنوناكي الآلهة الكبار في انحناء.
(نظرت حولي)، كان العالم الأسفل مليئًا بالرعب والصمت. فمد (نرجال) يده وأمسك بجزتي وجرَّني إليه.
عندما تطلَّعت إليه ارتعدَت فرائصي. غمرتني هيبته فوقعت على قدمَيه أقبِّلهما ساجدًا. وعندما انتصبت تطلَّع إليَّ وهزَّ رأسه.
وصرخ في وجهي صرخةً هائلة، وزأر زئيرًا غاضبًا كأنه العاصفة الهادرة وصولجانه في يده، لائق بجلاله، مرعب كأفعًى خبيثة.
اقترب مني قاصدًا قتلي، غير أن مشاوره إيشوم الشفيع الذي يحفظ الأرواح ويُحب الحقيقة (والعدالة) قال له: «أي ملك العالم الأسفل، لا تقتل الرجل.
[أنقذ حياته] لتصل أخبار عظمتك إلى أنحاء الأرض، وجبروتك على الفسقة الظالمين.» فهدأ غضب نرجال كبِركة باردة.
ثم قال: لماذا أزعجت زوجتي الحبيبة ملكة هذا العالم الأسفل؟ إن أمرها الذي لا رادَّ له سيقضي بأن يسلِّمك بيبلو سفاح العالم الأسفل إلى البواب لوجال سولا فيقودك خارجًا عبر بوابة عشتار.
ثم استفاق الأمير من رؤياه مذعورًا، وانطلق كالسهم خارج بيته هائمًا في شوارع المدينة صارخًا أواه! … وا حسرتاه! … وأخذ يحثو التراب على رأسه ويمضغه في فمه قائلًا لأهل آشور الذين تجمَّعوا حوله أن يخشَوا إريشكيجال ونرجال ويفعلوا وفق أوامرهما.
(٢) إبليس البابلي أو نرجال وإريشكيجال
اكتشف نص هذه الأسطورة في تل العمارنة بمصر مع أسطورة آدابا الواردة الذكر في فصل الفردوس. وكان هذان النصان يُستعملان في صفٍّ لتدريس اللغة الأكادية للطلبة المصريين. والكسرات التي تضم الأسطورة مُوزَّعة بين المتحف البريطاني ومتحف برلين، وهذه الكسرات قد انفصمت عن لوح واحد.
إن الأسطر التي تلي حتى نهاية الكسرة مشوَّهة تمامًا، ولكننا من سياق النص نستطيع أن نستنتج أن جميع الآلهة نهضوا احترامًا لنمتار، إلا واحدًا منهم هو نرجال؛ فقد بقي جالسًا. وقد نقل المبعوث لسيدته ذلك عندما عاد إليها، فثارت للإهانة البالغة، وأعادت نمتار على أعقابه إلى مجمع الآلهة السماوية طالبةً أن يسلِّم إليها نرجال أسيرًا لتصب عليه لعنة الموت قائلة:
(يلي ذلك بضعة سطور مُشوَّهة، نستنتج منها أن إريشكيجال كرَّرت الضغط على مجمع الآلهة فنزلوا عند رغبتها.)
(سطور تالفة)
(ولكن مخطَّط نرجال الذي وضعه بمساعدة إيا كان يقضي بانقضاضه مع العفاريت المرافقة له، في لحظة الدخول، على ملكة العالم الأسفل وغلبها على أمرها):
وهكذا تنتهي الأسطورة على نحو يُثير الانتباه لتشابه بعض عناصرها مع أسطورة لوسيفر في التعاليم المسيحية؛ فكما كان نرجال إلهًا سماويًّا هبط إلى الأسفل بسبب رفضه إظهار الاحترام لرسل الآلهة إريشكيجال، وتحوَّل بذلك إلى إله في عالم الظلام والموت، كذلك كان أمر لوسيفر الذي تُحدِّثنا عنه تعاليم آباء الكنيسة، وكيف تحوَّل من سيد بين الملائكة إلى إبليس سيد الشياطين. وهذا مُلخَّص غير وافٍ للأسطورة المسيحية:
(بين الملائكة التي خلقها الله كان هناك ملاك فائق الجمال اسمه لوسيفر؛ أي حامل الضياء. وكان من صف الملائكة المقربين الذين يعكسون مجد الله وعظمته. ولمَّا خلق الله آدم شعر لوسيفر بالمكانة الخاصة التي أفرد بها الله هذا المخلوق الجديد، وأمعن النظر في صميم الثالوث المقدس، وعرف أن الله يُعِد لهذا المخلوق مكانةً أعلى فأعلى تُهدِّد مكانة لوسيفر نفسه، الذي يعتقد بأنه الأعلى بين جميع المخلوقات، قطعة فريدة من صنع الخالق. ورأى لوسيفر ببصيرته أكثر من ذلك؛ فالإله نفسه سوف يتجلَّى في المستقبل في جسد إنساني من طينة آدم المخلوق.
هذا وقد عادت قصة إبليس ورفضه السجود لآدم للظهور في القرآن الكريم بصيغ متعدِّدة. راجع: البقرة ٣٤، الأعراف ١١، الحجر ٣١، الإسراء ٦١، الكهف ٥٠، طه ١١٦، ص ٧٤.
«أي شمش يا إلهي … إن شبحًا مرعبًا يجثم على ظهري. يلاحقني كظلي في الليل وفي النهار، جاعلًا شعر رأسي ينتصب رعبًا، ووجهي يلتهب خوفًا … ففمي جاف كالتراب، وجسدي خدر مشلول … هل هو روح هائمة لا تجد مستقرًّا؟ سواء كان هذا أو ذاك. أي شمش، يا إلهي أتوسَّل إليك؛ هذه عباءة لملبسه، وهذا حذاء لقدمَيه، وقطعة جلد لمنطقته، وماء قَراح لشرابه، وطعام مئونة لرحلته هذه جميعًا … فليمضِ إلى حيث مغرب الشمس فيُسلَّم إلى نيدو كبير حراس العالم الأسفل ليدخله ويوصد خلفه».
من هنا كان لزامًا على أهل الميت دفنه وفق الطقوس المتبعة وتزويده بما يلزم ريثما يصل للعالم الأسفل، ومن ثم الاستمرار في تقديم الطعام والشراب والكساء له بعد دفنه عن طريق التقدُّمات المختلفة، وتقديم القرابين لآلهة العالم الأسفل لتكون رفيقةً به. وهذه الطقوس الجنائزية والأضاحي هي التي تُعين الميت أكثر من أي شيء آخر.
ولكن ما فائدة العمل الصالح والحالة هذه إذا كان الجميع يهبطون إليها دون استثناء، فيعامَلون على قدم المساواة بشكل عام مع بعض الاختلافات التي تفرضها المكانة الاجتماعية السابقة للمتوفَّى؟ في الواقع إن العمل الصالح من شأنه أن يُفيد صاحبه في هذه الحياة. فخشية الآلهة وعبادتها وإقامة المعابد لها واتباع أوامرها، كلها أمور من شأنها إطالة حياة صاحبها والمد في عمره. وفي الأقوال الشائعة في هذا المجال قولهم: «إن القرابين تمد في العمر … وخشية الأنوناكي تُطيل أيامك على هذه الأرض.»
ومن صفات جولا إلهة الشفاء أنها تطيل عمر عبادها. كما نقرأ دعاءً لأحد ملوك بابل يقول فيه: «أدعوك يا إلهي أن احفظني من الخطيئة نحو ذاتك العظيمة، وامنَح لي حياةً مديدةً وعمرًا طويلًا، وازرع في فؤاد ابني وبكري بيلشازار مخافتك وخشيتك، فلا يقترف ذنبًا ليمنح أيامًا كثيرة.»
وعن تغلات بلاصر الأول تقرأ قوله عن أبيه إن: «ما قدَّمته يداه من أفعال وقرابين قد سرَّت فؤاد الآلهة فعاش عمرًا طويلًا.» وعن صارغون الآشوري نقرأ قوله: «لدوام الصحة وطول العمر وامتداد الحكم والسلطان أسجد إليك أيتها الآلهة وأتعبَّد.» وعلى العكس من ذلك فإن الخطيئة تقصِّر العمر وتقطع سلسلة الأيام. وكما يقول أحد النصوص فإن: «من لا يخشى الآلهة سيكسر عوده كقضيب من قصب.»
J. Gray, Near Eastern Mythology, Hamlyn, London, 1969.
A. Heidel, Gilgamesh Epic, Phoenix Books, Chicago, 1970.