الفصل الثالث
الجحيم التوراتي
كانت نظرة التوراة للموت والعالم الآخر انعكاسًا لنظرة أهل الرافدَين؛ فعالم الموتى
هو
عالم سفلي تذهب إليه أرواح الموتى جميعًا دون تمييز، فنجد فيه القديسين والناس العاديين
معًا. وليست عملية الموت إلا مرحلةً تقود الفرد من حالة إلى أخرى من أحوال الوجود عن
طريق مفارقة الروح للجسد. وقد عبَّر كتاب التوراة عن مفارقة الروح للجسد بقولهم: اضطجع
مع
آبائه. وربما كانت هذه الجملة تعني في الأصل أن يُدفَن الميت في مقبرة آبائه وعشيرته،
كما نرى في سفر التكوين:
١ «لمَّا قربت أيام إسرائيل أن يموت دعا ابنه يوسف وقال له: إن كنت قد وجدت
نعمةً في عينَيك فضع يدك تحت فخذي واصنَع معي معروفًا وأمانة، لا تدفني في مصر، بل اضطجع
مع آبائي فتحملني من مصر وتدفنني في مقبرتهم.»
إلا أن هذا المعنى قد استُعمل فيما بعدُ بمعنى مفارقة الروح للجسد أينما كان، وسواء
دُفن في مقبرة آبائه أم في أرض غريبة. فنقرأ في سفر أخبار الأيام الثاني:
٢ «ثم اضطجع آحاز مع آبائه، فدفنوه في أورشليم لأنهم لم يأتوا به إلى قبور
ملوك إسرائيل.» وكذلك الأمر مع ابن آحاز الذي لم يُدفن في مقبرة آبائه، بل في حديقة بيته
الملوك الثاني ٢١: ١٨. وفي أماكن كثيرة نقرأ أن فلانًا قد اضطجع مع آبائه ثم دُفن. كما
هو الأمر في الملوك الثاني ٨: ٢٤ والملوك الأُول ١٤: ٣١و ١٥: ٨ وأماكن أخرى.
والأرواح متساوية في مصيرها كما هو الأمر في ثقافة أرض الرافدَين؛ فلا بعث هناك ولا
حساب ولا ثواب ولا عقاب، بل وجود ثقيل راكد، واستمرار لا فرح فيه ولا نشوة. نقرأ في سفر
الجامعة: وأيضًا رأيت تحت الشمس موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور. فقلت
في
قلبي الرب يُدين الصديق والشرير؛ لأن لكل أمر ولكل عمل وقتًا هناك. وقلت في قلبي، من
جهة
أمور البشر إن الله يمتحنهم ليريهم أنه كما البهيمة هكذا هم؛ لأن ما يحدث لبني البشر
يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك، وقسمة واحدة للكل. فليس للإنسان مزية
على البهيمة لأن كلَيهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى
التراب يعود كلاهما. من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل هي
تنزل إلى الأسفل؟ فرأيت أنه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه.»
٣
كاتب هذا السفر هنا لا يعتقد بأي نوع من أنواع الاستمرار لوجود الإنسان بعد مماته؛
فحياته تنتهي عند لحظة الموت، حيث يعود جسده إلى التراب شأنه في ذلك شأن جميع الحيوانات،
أمَّا روحه فأمر مشكوك به. هل تصعد للأعلى أو تنزل للأسفل؟
وفي سفر إشعيا نجد الملك التقي الورع حزقيا ينخلع فؤاده لفكرة الموت ومغادرة عالم
الأحياء عندما يخبره النبي إشعيا بقرب وفاته؛ فهو يعرف أن الحياة الآخرة لن تكون أفضل
من الأولى، حتى للإنسان الذي أمضى حياته في خدمة الإله. وعندما بكى مذكِّرًا ربه بكل
ما
فعله في سبيله طالبًا منه أن يمد في عمره. كلمه الرب بواسطة النبي إشعيا: «اذهب وقل
لحزقيا: هكذا قال الرب إله داود أبيك. إني قد سمعت صلاتك ورأيت دموعك. ها أنا ذا أزيد
على أيامك خمس عشرة سنة.»
٤ وهكذا فجزاء الصلاح ليس في الدار الآخرة، بل على هذه الأرض وفي هذه الحياة،
والرب يمد يده في عمر الصالح ويُزهق روح الطالح، تمامًا كما هو الأمر في الفكر الديني
البابلي، وتتردَّد هذه الفكرة في مواضع كثيرة في التوراة: «أكرم أباك وأمك لكي يطول عمرك
في الأرض التي يعطيك الرب إلهك.»
٥ «مخافة الرب تزيد الأيام وسنو المنافقين تقصر.»
٦ «يا بني لا تنسَ شريعتي، وليس قلبك وصاياي فإنها تزيدك طول أيام وسني
حياة وسلامًا.»
٧ ولكن لماذا إذن نجد إنسانًا صالحًا يموت في زهرة الشباب، وآخر شريرًا يمتد
به العمر؟ يجيب التوراة على ذلك بطريقة طريفة فنقرأ في سفر إشعيا:
٨ «هلك الصديق ولم يكن من تأمل في قلبه. وضمَّ أهل التقوى، ولم يفطن أحد أنه من
وجه الشر ضم الصديق»؛ أي إن موت الأتقياء المبكِّر هو تخليص لهم من كوارث وشرور قادمة
قد
تصيبهم. فموتهم والحالة هذه تخليص لهم على ما نقرأ في الملوك الثاني ٢١: ٢٠ حديث الرب
إلى يوشيا الصالح: «كذلك ها أنا ذا أضمك إلى آبائك، فتضم إلى قبرك بسلام، ولا ترى عيناك
كل الشر الذي أنا جالبه على هذا الموضع.» أمَّا حياة الأشرار وامتداد أعمارهم فإن
الحكمة منها مهما كانت بالغةً لم تُقنع رجلًا صالحًا كأيوب عندما نسمعه يرفع عقيرته
بالشكوى صارخًا: «لماذا يحيا المنافقون ويسنون؟ ولماذا يعظم اقتدارهم؟ ذريتهم قائمة
أمامهم، وقومهم وأعقابهم لدى أعينهم، بيوتهم آمنة من الفزع، وقضيب الرب لا يعلوهم.»
٩
وهؤلاء الأشرار عندما يموتون يمضون مع الأخيار إلى دار واحدة، كما يمضي إليها مَن
نعم
في هذه الحياة ومن شقي. فأي حكمة في ذلك: «هذا يموت في معظم وفرة وقد عمته الدعة
والطمأنينة، وذاك يموت في مرارة نفسه ولم يذق طيبًا، وكلاهما يضجعان في التراب فيكسوهما
الدود. إن الشرير يبقى إلى يوم العطب، وإلى يوم النقم يساقون. فمن الذي يبيِّن له طريقه،
ومن يكافئه على ما صنع.» أيوب، ٢١: ٣١. وفي المزمور ٧٣ نلمح هذا التساؤل: «أمَّا أنا
فكادت تزل قدماي لأني غِرت من المتكبِّرين إذ رأيت سلامة الأشرار؛ لأنه ليست في موتهم
شدائد، وجسمهم سمين، وليسوا في تعب، ومع البشر لا يُصابون. يستهزئون ويتكلَّمون بالشر
ظلمًا،
ومن العلاء يتكلَّمون. هو ذا هؤلاء الأشرار، ومستريحين إلى أبد الدهر يُكثرون ثروة.»
وكما قلنا سابقًا فإن التوراة قد تُصوِّر الدار الآخرة كما تَصوَّرتها أساطير المنطقة؛
فهي
عالم أسفل يقع تحت عالمنا هذا. وعبَّر عن هذا العالم الأسفل بالاسم العبري شيئول الذي
تعبِّر عن الترجمات العربية باسم الهاوية.
١٠ فلنسمع إلى أيوب يصف لنا هذا العالم:
١١ «وكنت كأني لم أكن قط فأُقاد من البطن إلى القبر. أليست أيامي إلى حين؟ فاكفف
عني، فأرتاح قبل أن أنصرف انصراف من لا يئوب إلى أرض ظلمة وظلال موت. أرض دجية حالكة
كالديجور، وظلال موت لا نظام فيها ونهارها كالديجور.» أيوب ١٠: ١٩–٢٢. ومن أيوب أيضًا
نعرف عن هذه الهاوية وبواباتها التي تشبه بوابات العالم الأسفل في بابل:
١٢ «ما رجائي؟ إنما الهاوية بيتي وفي الظلام مهَّدت مضجعي. قلت للفساد أنت أبي،
وللديدان أنت أمي وأختي. إذن أين رجائي؟ رجائي من يراه. إنه يهبط إلى أبواب الهاوية.»
كما نقرأ عن أبواب الهاوية في إشعيا:
١٣ «قلت إني في منتصف أيامي ذاهب إلى أبواب الهاوية، وقد حرَّمت بقية
سني.»
وتؤكِّد لنا النصوص الآتية الموقع السفلي للهاوية، فنقرأ في عاموس:
١٤ «إن نقَّبوا إلى الهاوية فمن هناك تأخذهم يدي، أو صعدوا إلى السماء، فمن هناك
أنزلهم.» وفي التثنية:
١٥ «لأن النار تشب بغضبي فتتوقَّد إلى الهاوية السفلى.» ونقرأ في إشعيا:
١٦ «ولكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب.» وفي سفر التكوين
١٧ نجد يعقوب الجد الأكبر لإسرائيل يبكي ابنه يوسف الغائب الذي يعتقد أنه قد
مات ومضى إلى العالم الأسفل، فيأمل أن يموت ليلحق به: «وقام جميع بنيه وبناته يعزونه
فأبى أن يتعزَّى، وقال إني أنزل إلى ابني نائحًا إلى الهاوية، وبكى عليه أبوه.» ومن سفر
صموئيل الأول نعرف أن هذا النبي قد نزل بعد وفاته إلى شيئول كغيره من الناس. وعندما
يتفق شاءول مع إحدى الساحرات على استحضار شبحه من العالم الآخر، نجد أن الشبح يصعد على
حد تعبير التوراة إلى سطح الأرض: «فقال صموئيل: لماذا أقلقتني بإصعادك إياي؟» وفي سفر
حزقيال:
١٨ «هناك عيلام وكل جنودها حول قبرها كلهم ساقطون بالسيف. الذين هبطوا غُلْفًا
إلى الأرض السفلى.» وفي رؤيا إشعيا يتخيَّل ملك بابل وقد هبط إلى العالم الأسفل فيهب
لاستقباله عظماء الموتى وأكابرهم: «الهاوية من أسفل مهتزة لك لاستقبال قدومك، منهضة لك
الأخيلة جميع عظماء الأرض، أقامت كل ملوك الأمم عن كراسيهم، كلهم يجيبون ويقولون لك
أأنت قد ضعفت وصرت مثلنا.»
من هذه الفقرة الأخيرة لإشعيا نستنتج أن الموتى في العالم الآخر يحتفظون بمكانتهم
التي كانت لهم، كما هو الأمر تمامًا في النظرة البابلية. فالملوك قد قاموا عن كراسيهم،
والعظماء قد خفوا لاستقبال القادم الجديد، وهم عظماء في الآخرة كما كانوا عظماء في
الأولى. ونستشف من نصوص أخرى مُتفرِّقة تأكيدًا لذلك، فنجد المحاربين يهبطون إلى شيئول
بكامل عدتهم وأسلحتهم في سفر حزقيال: «الجبارة الساقطين من الغلف، النازلين إلى الهاوية
بأدوات حربهم.» وصموئيل عندما تستحضر الساحرة شبحه يخرج في الهيئة نفسها والثياب نفسها
التي اعتاد استعمالها: «فقال لها ما صورته، فقالت رجل شيخ صاعد هو مُغطًّى بجبة. فعلم
شاول
أنه صموئيل، فخَر على وجهه إلى الأرض وسجد.» إلا أن هذه المكانة لا تفيد صاحبها كثيرًا
في
شيئول؛ لأن هذه تبقى أرض الظلام والسكوت والنسيان. وكما كان العالم الأسفل صامتًا عندما
نزل إليه إنكيدو حاملًا وصية جلجامش بألَّا يحدث صوتًا هناك، كذلك شيئول. نقرأ في المزمور
٩٤: «لولا أن الرب مُعيني لسكنت نفسي سريعًا أرض السكوت.» والمزمور ١١٥: «ليس الأموات
يُسبِّحون بالرب ولا من ينحدر إلى أرض السكوت.» وهي أرض خراب يباب: «الهاوية عريانة قدامه،
والهلاك ليس له غطاء» أيوب، ٢٦. وهي أرض النسيان: «هل تعرف في الظلمة عجائبك؟ وبرك في
أرض النسيان» المزمور، ٨٨.
وكان لأرض العالم السفلي في سومر وبابل آلهتها الخاصة التي تختلف عن آلهة السماء
والأرض، ولم يكن هؤلاء الآخرون ليجرءوا على الدنو منها وإلا نالهم ما ينال البشر الفانين
كما حدث لإنانا عند هبوطها إليها. أمَّا التوراة فلا تحدِّثنا عن موكلين بتسيير شئون
العالم السفلي، ولكننا نعلم مؤكَّدًا أن هذا العالم لا يقع تحت سيطرة يهوه، وأن الموات
هناك
لا يعبدونه ولا يسبِّحون بحمده. ففي المزمور ٦ نجد صاحب المزمور يطلب من الإله أن يخلِّصه
من الموت ليطيل من حمده له وشكره على نعمه، ويذكِّره بأن أهل العالم الآخر لا يحمدونه:
«عُد يا رب. نجِّ نفسي. خلِّصني من أجل رحمتك؛ لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من
يحمدك؟» «هل يحدث في القبر برحمتك أو بحقك في الهلاك؟ هل تعرف في الظلمة عجائبك وبرك
في
أرض النسيان؟»
ويحدِّثنا سفر الجامعة عن سيطرة القوى العمياء على شيئول، وعن ضرورة تزوُّد الإنسان
بما
يستطيع من هذه الحياة؛ لأن بعدها يأتي النسيان. فنقرأ في الإصحاح التاسع كلمات تُشبه
إلى
حدٍّ بعيد كلمات فتاة الحانة إلى جلجامش: «اذهب. كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب طيب …
لتكن
ثيابك في كل حين بيضاء … التذَّ عيشًا مع المرأة التي أحببتها … لأن ذلك نصيبك في الحياة
وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس. كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك؛ لأنه ليس من عمل
ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها.» سفر الجامعة، ٩:
٧–١٠.
واستقرار الإنسان في العالم أبدي؛ فلا بعث ولا نشور: «يضجعون معًا لا يقومون، قد
خمدوا
كفتيلة انطفئوا.»
١٩ «ينامون نومًا أبديًّا ولا يستيقظون.»
٢٠ ولعل من أجمل المقاطع التي تحدِّثنا عن ذلك حديث أيوب في الإصحاح ١٤: «لأن
للشجرة رجاءً إن قُطعت تُخلِف أيضًا ولا تُعدِم خراعيبها. ولو قَدُم في الأرض أصلها ومات
في
التراب جذعها، فمن رائحة الماء تُفرِخ وتُنبِت فروعًا كالغرس. أمَّا الرجل فيموت ويبلى،
الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفد المياه من البحرة، والنهر ينشف ويجف، والإنسان
يضطجع ولا يقوم.»
ويمكن القول إن مسألة الموت والعالم الآخر قد عولجت في التوراة بكثير من الغموض
والتناقض. فما تعطيه النصوص المتأخِّرة يختلف عمَّا قدَّمته النصوص السابقة، والمسألة
برمتها
قد خضعت كغيرها من مسائل التوراة للتطوُّر البطيء والمديد الذي طبع الفكر التوراتي عبر
مسيرته الطويلة منذ الخروج وحتى السبي والعودة من بابل. ونستطيع أن نميِّز بوجه عام ثلاث
مراحل اجتازتها فكرة الموت والعالم الآخر في التوراة؛ فالمرحلة الأولى تميَّزت بالسكوت
المطبق عن عالم ما بعد الموت، وبالتلميح البعيد عن عالمٍ أسفل لا تُعرف ماهيته ولا أحوال
العيش فيه. وقد كانت هذه المرحلة ضروريةً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن دين موسى في بدايته
كان استمرارًا للتوحيد الأخناتوني، وردة فعل على الديانة الآمونية الرسمية التي محت ذكر
آتون واضطهدت عابديه وهدمت هياكل عبادته. ولمَّا كانت الحياة الآخرة تلعب دورًا كبيرًا
في
الديانة الآتونية، كان لا بد من إلغاء فكرة هذه الحياة الآخرة في الديانة الجديدة، التي
تُصارع جاهدةً للفوز بقلوب الناس، وانتزاعهم من سيطرة أوزوريس إله العالم الأسفل، والقاضي
الذي يقرِّر مصائر الأموات. فلقد كان لهذا الإله المكانة الأثيرة لدى الطبقات الشعبية
في
مصر القديمة، ولم يكن لانتزاع تأثيره من نفوس الناس من سبيل سوى إلغاء العالم الأسفل
من
أساسه واقتلاع فكرته جذريًّا.
ومع محاولات الاستقرار في الأرض الجديدة كادت الديانة الموسوية الأولى تُنسى مع زوال
الجيل الأول الذي عاصر موسى وأخذ عنه قبسَ التوحيد، وتحوَّل آتون بالتدريج إلى يهوه،
إلهًا وثنيًّا دونما وثن، وتسرَّبت للدين معتقدات الفلسطينيين والكنعانيين والآراميين،
وبدأت فكرة العالم الأسفل بالتوضُّح أكثر فأكثر لتأخذ شكلًا قريبًا من معتقدات السوريين
والبابليين. أمَّا المرحلة الثالثة فكانت السبيَ الطويل في بابل على يد نبوخذ نَصِّر،
وهناك
احتكَّ المسبيون بالديانة الزرادشتية — عند جيرانهم الفرس — التي تؤكِّد على الحياة الآخرة
تأكيدًا مطلقًا؛ ففي اليوم الأخير يُبعث الأموات من القبور، ويأتي كل واحدٍ إلى ميزان
الحساب الذي يزن حسناته وسيئاته، فمن زادت حسناته فإلى نعيم دائم، ومن كثرت سيئاته فإلى
جحيم مقيم. وبعد المحاكمة يمشي كل واحد على درب يوصل للجنان وتحته تتوقَّد ألسنة اللهيب.
فأمَّا الظالمون فيضيق الدرب بهم حتى يغدو كالشعرة، وأمَّا المفلحون فيتسع لهم فيسيرون
الهوينى سالمين.
وهكذا وبدافع التأثيرات الفارسية أخذت فكرة الثواب والعقاب في الظهور ولكن بشكل غامض.
وبقيت هذه الفكرة موضع أخذ ورد ومناقشات بين اللاهوتيين حتى مولد المسيح، دون أن يتم
التوصُّل لرأي قاطع فيها. نقرأ في سفر دانيال:
٢١ «وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية
وهؤلاء إلى العار، للازدراء الأبدي.» وهنا نجد أن النص يأبى إلا أن يترك مجالًا للغموض
والتأويل دون إعطاء رأي قاطع؛ فكلمة «كثيرون من الراقدين»، تركت فجوةً تمنع من تفسيرٍ
قاطع
للنص بأنه دلالة على بعث حقيقي شامل. وكذلك الأمر في نصوص أخرى؛ نقرأ في إشعيا مثلًا:
٢٢ «تحيا أمواتك تقوم الجثث. استيقظوا وترنَّموا يا سكان التراب … هلم يا شعبي
ادخل مخادعك وأغلق أبوابك خلفك. اختبئ نحو لحيظة حتى يعبر الغضب؛ لأنه هو ذا الرب يخرج
من مكانه ليعاقب إثم الأرض فيهم، فتكشف الأرض دماءها ولا تغطِّي قتلاها فيما بعد.»
وفي مسيرة المسيحية الأولى قبل أن تقطع روابطها مع اليهودية، تخبَّط الفكر اللاهوتي
قبل
أن يتوصَّل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود
الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتحدوا بالمسيح فأُعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك
شأن
ديانات الأسرار التي كانت شائعةً في الإمبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالأوروفية
وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلِّص هو ديونيسيوس أو غيره شرطًا للخلاص وللحياة الجديدة.
ولم تكن جيهينا أي الجحيم في بداية عهدها سوى أداة تدمير أكثر منها مكان تعذيب سرمدي.
تحدِّثنا أسطورة مسيحية مبكِّرة عن نزول المسيح للعالم الأسفل وتخليصه عددًا كبيرًا من
الأنبياء والقديسين، واصطحابهم معه إلى السماء. دُعيت هذه الأسطورة بإنجيل نيكوديس، وجرى
تداولها كأسطورة شعبية فترةً طويلةً من الزمن:
٢٣ تبدأ القصة في منتصف الليل في العالم الأسفل حيث بزغ من غياهب الظلمة شيء
أشبه ما يكون بنور الشمس، فابتهج الجميع وخصوصًا إبراهيم الذي قال: إن هذا الشعاع يصدر
عن ضوء عظيم. أمَّا إشعيا ويوحنا المعمدان فقد عادا يردِّدان نبوءاتهما، يعقب ذلك حديث
بين الموت وبين الشيطان، فيقوم الأخير بتحذير الموت من المسيح ودعواه الباطلة، مستغلًّا
خوف الموت من فقدان جميع الموتى في عالمه بعد أن أفقده المسيح لعازر الذي أحياه بعد
وفاته: «إنني لأشعر بمن ابتلعتهم منذ بدء الخليقة يضطربون في جوفي فبطني اليوم يؤلمني.»
وبينما هما في ذلك إذ يجلجل صوت كقصف الرعد: «افتح أبوابك الأبدية ليدخل إليك ملك
المجد.» ولكن الشيطان وأعوانه يُهرعون إلى الأبواب محاولين تدعيمها مهتاجين فزعين
متسائلين: من هو ملك المجد هذا؟ فيجيبهم الأنبياء وخصوصًا إشعيا والملك داود: «إنه
الرب الجليل في القتال، الذي سيحطم بوابات النحاس ويكسر قضبان الحديد، فيحرِّر المأسورين
ويُنير شعاب الموت المظلمة.» فيرد الشيطان وأعوانه: «ومن يكون هذا حتى تكون له مثل هذه
القوة على الأحياء والأموات؟» وقبل أن يُتم كلامه تعالجه يد المسيح فتمسك به ويسلِّمه
للملائكة قائلًا لهم أن يطبقوا فمه ويُقيِّدوا يدَيه وقدمَيه، وعندما ينتهون من ذلك يسلِّمه
للموت قائلًا له: «احتفظ به إلى حين قدومي الثاني.» وبينما يأخذ الموت في صب سخريته
وازدرائه على الشيطان، يقوم المسيح بتحرير آدم والأنبياء والقديسين ويرفعهم معه إلى
السماء حيث جنات عدن، وقبل الصعود يعرج بعضهم إلى نهر الأردن فيتعمَّد بمائه.