هبوط بعل إلى العالم الأسفل
عندما ننتقل إلى آرام وفينيقيا يحصل تبدُّل طفيف في أدوار الأبطال الرئيسيين في المأساة، ولكن جوهرها يبقى واحدًا؛ ففي أوغاريت يتكافأ تمامًا في أسطورة الخصب ولدرجة مدهشة دورا الإلهة الأنثى الممثِّلة للقوة الإخصابية الكونية، والإله الذكر الذي يمثِّل هنا قوًى لا غنى عنها للقوة الأولى؛ ألَا وهي قوى السحاب والمطر والندى، مدعومة بقوة البرق والصاعقة والرعد. إنه بعل أو حدد أو أدون وقرينته عناة. فلأن قوى الخصوبة لا تستطيع أن تكون فاعلةً دون مساعدة الأمطار في الشتاء والندى في الصيف، كانت علاقة عناة ببعل علاقةً وُثقى لا تنفصم، وكان حبهما الأبدي ووثاقهما الجسدي ضرورةً لا غنى عنها للحياة الزراعية. ولقد غذَّى هذه الفكرة نوعية المناخ والإقليم في سوريا حيث لا غنى عن الأمطار للزراعة، وحيث لا تشكِّل الأراضي المروية بواسطة الأنهار إلا نسبةً ضئيلة. على عكس وادي النيل ووادي الرافدَين، وحيث معظم الأراضي هي ملك لبعل يسقيها كيف يشاء وعندما يشاء. ولا تزال الكلمة مستعملةً في سوريا حتى الآن عندما يُقال «أرض بعل»، بمعنى أنها الأرض التي تُسقى بمياه الأمطار. وبعل في الأسطورة الأوغاريتية ليس مغلوبًا على أمره كما كان تموز، ولكنه قوي جبَّار تغلَّب على يم المياه الأولى، كما رأينا في فصل التكوين ونُظم أحوال العالم، وخذلانه أمام إله العالم الأسفل، كما سنرى فيما يأتي لم يكن إلا خذلانًا مؤقَّتًا. إلا أن هذه الصورة لبعل تتلاشى فيما بعدُ وخصوصًا لدى فينيقيي الجنوب، فيغدو أدون أو أدوني نسخةً قريبة الشبه جدًّا من تموز، بينما يحتفظ حدد الآرامي برموز سلطة بعل وقوته؛ وهي البرق والصاعقة والرعد.
لم يكن يم هو العدو الأخير الذي يتصدَّى لبعل، فما زال أمامه الكثير من الصعاب قبل أن يحقِّق انتصارًا مطلقًا وكاملًا، وما زالت هناك قوًى تُعاكس النظام الذي خلقه بعل بانتصاره على مياه العماء البدئية، وقوى الحياة الإنسانية والنباتية التي ظهرت ببناء مملكته وتشييد بيته. وهذه القوى يمثِّلها الإله موت سيد العالم الأسفل. وإذا كان بعل يمثِّل انتصار قوى الحضارة والبناء والنظام والخصب، فإن موت ومملكته يمثِّلان الموت والجفاف والدمار والفوضى. وموت ضد الإنسان يتبعه طيلة حياته لاقتناص روحه التي يحاول بعل كل جهده الحفاظ عليها بإغداقه من الخيرات والثمار والأمطار وبث الخصب في التربة المعطاء. وموت ضد النبات يرسل عليه الحرارة والجفاف فيذبل ويذوي، بعد أن بذل بعل غايته في حفظه وإنمائه. وهو ضد النور والشمس والوضوح والحركة؛ ولذا فإن عالمه هو عالم سُفلي يسوده الظلام والصمت والسكون، في مقابل عالم بعل المليء بالفعَّالية والحركة والحياة. وسيكون على هاتَين القوتَين الكبيرتَين أن تتصارعا طويلًا قبل أن يُكتب لإحداهما الانتصار. وسيجد بعل نفسه في المعركة مرَّات لا حصر لها؛ ففي كل سبع سنوات سينبري له موت ويتحدَّاه فيسلم بعل نفسه له، ويهبط إلى العالم الأسفل، ولكنه يعود منتصرًا إلى الحياة بعد معركة عنيفة بين بعل وعناة من جهة، وموت وأتباعه من جهة ثانية، حيث تقوم عناة بقتل موت وتقطيعه ونثر جسده في الحقول، ويقوم بعل من جهته بالقضاء على بقية القوى الموالية لموت؛ وبهذا الانتصار تنبعث الطبيعة من جديد، وتعود الأمطار لتروي الأرض المجدبة، وترجع الحياة الزراعية سيرتها الأولى.
وهكذا نجد أن هذه الأسطورة لا تهدف بالدرجة الأولى إلى تفسير الدورة الزراعية السنوية، بل إلى تفسير تناوب دوري الخصب والجفاف الذي يميِّز مناخ المنطقة، والذي ما نزال حتى الوقت الحاضر في سوريا نُعاني من آثاره. ويبدو أن هذا التناوب كان واضحًا في أرض كنعان قديمًا لدرجة كان يمكن معها حصره في سبع سنوات خصيبة تليها فترة من القحط تطول أو تقصر، ثم تعود الحالة سيرتها الأولى وهكذا.
تحدِّثنا النصوص ٥١–٦٧–٦٢–٤٩ من ألواح أوغاريت عن قصة هذا الصراع التي تشكِّل حجر الأساس في اللاهوت الكنعاني. وهذه النصوص إلى جانب ما تُعانيه من نقص وتشويه جعل ترجمتها من أشق مهام علماء الأوغاريتية، فإنها لم تصلنا في الأساس وفق تسلسل مُعيَّن يعطينا صورةً عن القصة كما أرادها كُتَّابها، كما لم يمكن التوصُّل إلى تسلسل يمكن الركون إليه باعتباره استعادةً للتسلسل الأصلي كما أراده كهنة بعل ومدوِّني وحيه.
وسأقدِّم فيما يأتي ترجمةً لأكثر المقاطع وضوحًا في النص، مع إعطاء ملخَّصات لِمَا يجري في المقاطع المشوَّهة والناقصة اعتمادًا على شذرات الأسطر الناقصة، وعلى المحاكمة المنطقية لسير الأحداث.
(فيبعث بعل رسوليه جوبارا وأوغار للتفاوض مع موت)
ولا نعرف بقية نص الرسالة، ولكن يمكن الاستنتاج أن الإلهَين لم يتفقا على التعايش بسلام؛ الأمر الذي حدا بالإله موت إلى تحريض بعض القوى الشريرة التي تنتمي إلى عالم العماء المائي الذي زال وانقضى بزوال مملكة يم، فيخرج التنين الهائل لوتان ذو الرءوس السبعة لصراع بعل. ولكن الإله يقضي عليه ويسحقه بسهولة كما سحقه فيما بعدُ يهوه تحت اسم لوياتان في المزمور ٧٤ وأماكن أخرى من العهد القديم. فيثور موت ثورةً عظيمة، ويدرك أن لا خلاص من بعل إلا بالمواجهة الشخصية الحاسمة، فيرسل له قائلًا:
(يلي ذلك ثلاثون سطرًا ناقصة نجد بعدها وصفًا مُريعًا لموت وفمه الفاغر لابتلاع بعل)
وهكذا يَقبل بعل مختارًا المضي إلى عالم اللارجوع. وقبل أن يسلم نفسه يولم وليمةً لجمعٍ من الآلهة، ويأكل معهم ويشرب قبل أن يغادر الحياة، ثم تأتيه تعليمات موت لِمَا يجب عليه القيام به:
فيُسرع بعل إلى تنفيذ تعليمات موت، ولكنه قبل هبوطه يقوم بمضاجعة عجلةٍ سبعًا وسبعين مرةً متوالية، فتحمل منه العجلة. ولا يتضح من النص طبيعة هذه العجلة وحقيقة دورها، فربما كانت هي الإلهة عناة في شكل تحوُّلي من أشكالها، أو ربما نابت الصفة عن الاسم في سياق النص؛ فنحن نعرف أن من صفات الإله إيل أنه الثور إيل، وعلى هذا ربما كانت العجلة عناة رغم أننا لا نجد للإلهة صفةً بهذا الاسم في نصوص أخرى. وبعد أن يضمن بعل لنفسه الاستمرار عن طريق الغلام الذي زرع بذرته في رحم العجلة ينزل إلى أعماق العالم الأسفل. وهناك يستلب منه موت روحه ويرمي بجثته إلى سطح الأرض:
فتجزع عناة لصراخ إيل وتعرف أن بعلها قد قضى نحبه، فتهيم مثله نادبةً نائحة، إلى أن تعثر على الجثة التي لفظها موت من أعماقه:
وبعد أن تنتهي من مراسم الدفن وتقديم الأضاحي، تمضي عناة إلى مقر إيل عند نبع النهرَين، وتدخل عليه وهي تعرف أن زوجته عشيرة قد فرحت بموت بعل لأن موته سيعطيها الفرصة لتنصيب أحد أولادها مكانه. وتقول:
فيصعد أثتر إلى أعالي جبل صفون ويجلس على عرش بعل، ولكنه لم يستطع أن يملأه فرأسه لم يصل قمة الكرسي، ولم تستند قدماه على مسند القدمَين، فاعترف بعجزه عن سد الفراغ الذي خلَّفه الإله الكبير، ونزل راجعًا من حيث أتى. وفي هذه الأثناء يتضاعف حزن عناة على بعلها فتطلب من موت مرارًا أن يردَّه لها ولكن عبثًا، ممَّا يجعلها تقرِّر التصدي لموت ومواجهته وجهًا لوجه:
(بعد ذلك يرى الإله الأكبر إيل في نومه حلمًا عجيبًا، فيستفيق من نومه فرحًا مستبشرًا):
وعندما تسمع عناة ذلك تُهرع إلى الحقول باحثةً مُنقِّبةً حتى تعثر على بعل وهو يثأر بنفسه من أعدائه، فيعودان معًا ويصعد عرشه من جديد، وتعود له مملكته وحبيبته. ويحدِّثنا أحد النصوص عن الغرام المستعر الذي عاد فربط بين الإلهَين:
(إلا أن الوضع لا يدوم على هذا المنوال)
(ومن جديد تعود القوتان الكونيتان للتصارع):
ولكن هل تُحسم هذه المعركة نهائيًّا الخلاف بين القوتَين؟ كلا بالطبع؛ فما دام هناك خصب وجفاف، حياة وموت، خير وشر، فإن القوتَين ستبقيان في كرٍّ وفرٍّ إلى أن تحل المملكة البعلية نهائيًّا على الأرض، فلا موت ولا مرض ولا قلق.
لقد نافست إذن القوة الفاعلة الحركية القوة المجرَّدة الكونية المتعالية، وظهر الإله الابن الشاب كندٍّ للأب الشيخ ساكن السماء وخالق الأكوان. ولكنه ند بمعنًى مختلف ومفهوم جديد، فعَظَمته ليست مستمدةً من قدرة الخلق؛ لأنه في معظم الأحيان ليس على مستوى الخلق، بما تتطلَّبه هذه العملية من قوًى جبارة وقدرات خاصة. كما أنها ليست مستمدَّة من سلطانه على الناس والطبيعة والآلهة، لا ولا من بعده عن ذلك الإنسان الصغير وهمومه الحياتية، بل إن عين عظمته في قُربه لعواطف الإنسان وأحاسيسه وانفعالاته، ومشاركته للبشر آلامهم ومصيرهم المحزن، ومحاولته تقديم الخلاص لهم، خلاصًا حياتيًّا كما رأينا في الأساطير الثلاث السابقة، وخلاصًا روحيًّا كما سنرى في أساطير لاحقة. وعظمته ليست في خلودٍ أصيل في طبيعته، بل في قهره، ولأول مرة سلطان الموت وانبعاثه من جديد قوة شابة، مُجسِّدًا حلمًا من أحلام الإنسان الأولى، ورغبةً من أكثر الرغبات إلحاحًا عليه في حياته.
ولكن تصاعد قوة الابن وتزايدها لم يُلغِ قوة الأب ولم يَفتَّ في عضده، وبقيت ديانات السماء وديانات الخصب في تصارع لم ينتهِ حتى في الديانة اليهودية التي تُعَد انتصارًا مؤزَّرًا للأب. فرغم أن اليهودية قد استبعدت كل الآلهة من أرض العبرانيين، كان الشعب كان في كل مرة يحن لآلهة الخصب المجاورة فيُعبدها ويقيم لها الأنصاب والتماثيل، وذلك إلى أن جاءت المسيحية لتحل الإشكال، وتدخل الليونة والطراوة على شخصية الإله الأب؛ فظهر مجدَّدًا الإله الابن، وهبط إلى البشر فعاش معهم وشاركهم خبزهم وعرقهم وموتهم.