الإله المخلِّص
إن تاريخ الدين والأسطورة هو تاريخ صراع الذات مع الموت؛ ففي المراحل الأولى كانت الذات مسحوقةً تجاه الموت، والعالم الأسفل مسيطرًا جبَّارًا لا مهرب منه ولا فِكاك من أسره الأبدي، وكان هَمُّ الإله الميت أن يحفظ البشر أحياءً طيلة الفترة المقرَّرة لهم في العالم الفاني؛ لذلك كان هذا الإله في مراحله الأولى إله خصب وقوًى طبيعية، تنحصر جهوده في دعم الإنسان في صراعه مع الجوع والفناء، دون أن يكون قادرًا على تحريره من رِبقة الموت ومنحه خلودًا أبديًّا حقيقيًّا. إلا أن حياته وموته وبعثه كانت أمورًا موحيةً بأمل غامض وبعيد بإمكانية الخلاص من سيطرة الموت كما تخلَّص منها إله الخصب. فكان تعلُّق قلوب العباد بهذا المخلِّص الحياتي، تعبيرًا عن النزوع الإنساني الأبدي نحو الخلود، ولم يكن ظهوره في ضمير البشر إلا مظهرًا من مظاهر صراع الظاهرتَين الكونيتَين في داخل الإنسان وخارجه، صراع الموت والحياة.
ونستطيع القول إن نمو الديانات البعلية (ديانات الخصب) واكتسابها غلبةً شعبيةً على الديانات الإيلية (ديانات الآلهة السماوية البعيدة)، هو حالة تالية في تطوُّر الدين والأسطورة، وحالة وسط تحتوي على شيء من التوازن بين الحياة والموت.
أمَّا المرحلة الثالثة فتمثِّل عن حقٍّ مرحلة انتصار الحياة على الموت في الدين والأسطورة؛ فما حصل لإله الخصب مرةً سيحصل لكل عباده المخلصين ممن سيدخلون في ديانته، ويلتحقون به من دون بقية الآلهة. قال السيد المسيح: «من آمن بي وإن مات فسيحيا.» وتحوَّلت ديانة الخصب إلى ديانة سرية، وتحوَّل مُخلِّصها الأرضي الحياتي إلى مُخلِّص روحي، باسطًا سيطرته من عالم الحياة إلى عالم الموت أيضًا، مُقدِّمًا لعباده خلاصًا لروحهم من سطوة العالم الأسفل. وبعد أن كان الفرد حرًّا في الماضي في اختيار الآلهة التي يعبدها ويُكرِّس لها طاعته، وحرًّا في التنقُّل من إله إلى آخر كلما حلا له ذلك، فقد أصبحت الآن الجماهير المسحوقة التي ضاقت ذرعًا بالبهارج الزائفة للتطوُّر المادي، ترنو للالتصاق بإله أقرب إلى طينة البشر وألصق بعواطفهم وأعلم ببواطن أمورهم. إله لا يعيش في السماء ويرنو من علٍ ممثِّلًا كمال الأشياء، بل يعيش بين الناس ويعاني مثلما يعانون، ثم إنه يموت كما يموتون، ولكنه يصعد من عالم الموتى ويصعد معه عباده المؤمنين الملتصقين به، المُتَّحدين معه، واهبًا الخلاص الروحي لأولئك الذين اختاروه عن قصد ورغبة، ومرُّوا عبر جميع الطقوس السرية اللازمة للانتماء للجماعة والاتحاد بالإله. ولقد بلغ الانتصار على الموت قِمَّته في المسيحية التي أعطت الإنسان بعثًا كاملًا غير منقوص، حيث يعود الجسد سيرته الأولى بكل تفاصيله وأجزائه.
شاعت ديانات الأسرار شيوعًا عظيمًا عقب فتح الإسكندر الكبير للشرق وتأسيس الدولة العالمية التي ضمَّت معظم الحضارات القديمة، وبلغت أوجها في عهد الإمبراطورية الرومانية التي كانت تمثيلًا وتجسيدًا لانتصار الحضارة المادية التي لا تبنى إلا على أشلاء الحرية الفردية، وسيطرة الدولة بأجهزتها القمعية كافة. وقد تماثلت هذه الديانات وتشابهت لدرجة أصبح معها من الصعب تفريق واحدة من الأخرى وإرجاع العناصر الخاصة بكلٍّ منها إلى أصولها. وأهم ما يُميِّز الديانة السرية كونها تضم مجتمعًا منغلقًا على ذاته لا يدخله إلا الأفراد الراغبون عن حقٍّ في الانخراط بهذه العبادة. عند ذلك سيمر المنتسب الجديد عبر مجموعة من طقوس التنسيب، من شأنها تهيئته جسديًّا وروحيًّا وتطهيره من أدران حياته السابقة وخلقه من جديد.
من جملة هذه الطقوس الاعتراف بين يدَي كاهن الديانة بالخطايا الماضيات، والتعميد بالماء، والصيام. وفي بعض الأحيان كان يوضع المنتسب الجديد في حفرة ثم يُذبح عند فُوَّهتها ثورٌ ينسال دمه مدرارًا إلى داخل الحفرة، حيث يغتسل به ويأخذ بعضه في فمه ثم يخرج وقد غسل ماضيه.
وفي ديانة ميثرا، وهو الإله الذي جلبه معهم جنود روما من فارس وشاعت عبادته شيوعًا عظيمًا في أرجاء الإمبراطورية، نجد مجموعةً من الاختبارات التي يتعرَّض لها المنتسب الجديد؛ منها المرور عبر نار متأجِّجة، والسباحة في تيارات مائية والقفز من أعلى جرف خَطِر … وما إلى ذلك. ونستطيع أن نتخيَّل أن مثل هذه الاختبارات كانت حقيقية، ولكن أفعالًا رمزيةً تدل عليها استُبدلت بها تدريجيًّا. وبعد اجتياز هذه الاختبارات بنجاح لا يصبح العضو الجديد ضمن الجماعة مباشرة، بل لا بد له من المرور بثلاث مراحل تستغرق فترةً من الزمن يمتحن خلالها تطوُّره الروحي.
ولقد بقيت عبادات وطقوس الديانات السرية خفية. وباستثناء الأعياد الربيعية السنوية التي سبق تفصيلها، لا نكاد نعرف إلا القليل عمَّا كان يجري بالفعل. من هذا القليل الذي نعرفه أن معظم هذه الديانات كان تمارِس نوعًا من العشاء السري؛ حيث يؤتى بحيوان هو رمز الإله الميت، فيُقتل ويؤكل لحمه ويُشرب دمه كفعل رمزي للاتحاد الحقيقي بالإله. وفي غير هذه المناسبة فإن قتل هذا الحيوان وأكله يحرم تحريمًا باتًّا، كما هو شأن حيوان الخنزير المحرَّم أكله لدى السوريين من عباد أدونيس إلا في طقس العشاء السري، ولدى المصريين أيضًا إلا خلال الطقوس المشابهة الخاصة بأوزوريس. وقد تبنَّى اليهود هذا التحريم اقتداءً بأسيادهم المصريين وجيرانهم السوريين دونما سبب واضح.