فرحة
أمسك شريف بالجريدة في لهفةٍ جامحة، وراح يبحث عن نتيجة المسابقة التي تقدَّم إليها بكتابه الأول، وطال بحثه عن هذه الأسطر التي ينشدها حتى عثر عليها آخر الأمر، وإذا هو يجد اسم قصته يُشرق في العنوان، وإنها الأولى. لقد اختيرت قصته أولى القصص على كل هذا الحشد الذي تدافع إلى المسابقة. لم تكن آماله جريئةً إلى هذا الحد. إن آماله لم تُحدِّثه يومًا أنه قد يكون الأول. لقد كانت غاية الآمال عنده أن يُذكر اسمه من بين عشرة أوائل. وهو ما يزال يذكر كيف كان يردع هذه الآمال، ويُلزمها مكانًا قصيًّا في بعيد نفسه، ولا يُتيح لها أبدًا أن تُلح عليه؛ فقد كان يخشى أن تعده بما لا تُطيق الأيام تحقيقه.
ولكن ها هي ذي الأيام تهب له حقيقةً قائمةً لم تستطع الآمال أن ترسمها له. أسرع شريف إلى البيت وعدا السلالم عدوًا حتى دخل إلى زوجته: سهير.
– هه شريف.
– تصوَّري، تصوري.
– خيرًا.
– الأولى. ليست الثانية ولا العاشرة. الأولى.
– من هي؟
– قصتي الأولى. اختاروا قصتي. الأولى، الأولى.
– الأولى! مبروك، وكم سيُعطونك؟
– لا أعرف ولكنها، الأولى، الأولى. تصوَّري.
– طيب يا أخي تصوَّرنا وبعد.
– وهل فيها بعد؟ الشهرة والمجد.
– عظيم، مبروك.
– ولكنكِ لست فرحانة.
– وماذا تُريدني أن أفعل لأكون فرحانة؟
وعندئذٍ أفاق شريف من فرحته، فعلًا، ماذا يُريدها أن تفعل لتكون فرحانة؟ ومنذ متى استقبلت أخباره بأكثر من هذا الهدوء، الذي لا يُنبئ عن شيءٍ من فرح أو حزن أو أي شعور؟ لو كانت امرأة غيرها، لو كانت امرأة جيَّاشة الشعور لطلب إليها أن ترقص، نعم ترقص، يقفل هو باب الحجرة وترقص هي، وتُقبِّله، ثم تعود فترقص وتُقبِّله دون أن تقول مبروك. هذه المبروك الجامدة العاجزة. لو كانت امرأة أخرى لما قالتها. كان يُريدها زوجةً تستقبل معه المبروك إن أُلقيت إليه ولا تقولها، ولكن هذه هي زوجته ولن يملك لها تغييرًا. أفاق شريف إلى نفسه وإلى فرحته هذه الطفلة، وعاد إلى حقيقة سنه، رجل في الثلاثين من عمره، وقور الملامح، ثابت التفكير، يُحب أحيانًا أن يكون طفلًا فيجد أمامه هدوء زوجته، فيعود مرةً أخرى إلى سابق وقاره.
ينزل شريف إلى الشارع يبحث عن صديق يُفجِّر أمامه فرحته، ولكن إذا كانت زوجته تُنكر عليه هذه الفرحة الطاغية فكيف بالصديق؟ لا، إنه لا يُريد صديقًا، بل صديقة، أُنثى تُقفَل عليهما حجرة ويأخذها بين ذراعَيه، ويتبادلان الفرحة حينًا والحب أحيانًا، فيتزوَّد من ساعة اللقاء طاقةً كبرى من الإشراق، يلقى به هذه الحياة المعتمة حوله.
صديقة! ومن الصديقة؟ نجوى زميلته في الصحيفة التي يشتغل بها، فكثيرًا ما أبدت إعجابها بما يكتب، ولكن نجوى! نعم نجوى، لا، لا يمكن؛ لقد كانت تُبدي إعجابها مليئًا بالنقد والموازنة والمقاييس الفنية. كان إعجابه منهجيًّا لا تبعثه الأنثى التي في نجوى، بقدر ما هو صادر عن نجوى خريجة الآداب. إن الذي ينشده إعجاب امرأة برجلٍ إعجابًا ساذجًا، بلا نقد ولا مقاييس ولا موازنة ولا دراسة؛ يُريدها معجبةً بكل ما يكتب، وبالطريقة التي يكتب بها، بل وبالطريقة التي يُمسك بها قلمه ويميل بها على صفحاته. لا، نجوى لا تصلح. فمن إذن؟
وفي غمرة هذا التفكير كانت سيارة شريف قد وصلت به دون أن يُحس إلى الجريدة، فلم يُفِق إلَّا وهو ينزل من سيارته في طريقه إلى مكتبه بالجريدة، وحينئذٍ تذكَّر أنه لا عمل لديه بالجريدة في مثل هذه الساعة، ولكن هذا لم يثنِه عن الدخول إلى مكتبه؛ فقد كان خاليًا من كل عمل، فرحان تتجمَّع فرحته في قلبه ولا يجد لها متنفَّسًا، فتمنَّى لو يجد أي شيء يفرج عن فرحته المكبوتة تلك، أي شيء حتى ولو كان عملًا.
وسرعان ما تحقَّقت أمنيته؛ لقد وجد على مكتبه كومةً من رسائل القُرَّاء تنتظر، فراح يفتحها الواحدة بعد الأخرى، وأخذ يكتب ردَّه على كلٍّ منها، وأحاط به عمله فنسي كل شيء عن فرحته وعن الصديقة التي يُريدها، وعن تجهُّم زوجته وجمودها، فلم يبقَ أمامه إلَّا هؤلاء الغربان الذين يُعانون الآلام في حياتهم، ويلجئون إليه يسألونه لها شفاء.
وفُتح باب الغرفة عن فتاةٍ حلوة تسأل في رقةٍ وعذوبة: الأستاذة نجوى موجودة؟
ودون أن يرفع شريف عينَيه إلى هذه الفتاة المُطلَّة عليه قال: لا.
فعادت الفتنة تقول: ممكن أنتظرها؟
ودون أن يرفع نظره قال: تفضلي.
وراح هو في دُوامة الرسائل مشغولًا عن الفتاة وعن نجوى وعن كل شيء. ولم تمضِ دقائق حتى قال شريف وهو في غمرته ما يزال: مصيبة! مسكين.
فقالت الفتاة: نعم!
– مسكين. لا حول ولا قوة إلَّا بالله.
فقالت الفتاة: أتكلِّمني يا أستاذ؟
وحينئذٍ رفع شريف رأسه إلى الفتاة، وهي تقول مرةً أخرى: أتكلمني؟
فتلعثم شريف أمام هذا الجمال الذي أهمله، وقد ساءه هذا الجمود الذي عامل به الزائر، فراح يقول في تردُّد: نعم … لا … أقصد … مسكين، مسكين ذلك الرجل … أقصد …
وانفجرت في الحجرة ضحكة داوية أعقبتها قهقهة عالية، تتحدَّى الجريدة التي تموج بمن فيها، وتتحدَّى كل أصول يضعها العرف، ضحكة خالية متخلِّصة من كل شيء يعوقها، وإنما هي تبحث عن طريقٍ لها لتجد نفسها متفجرةً في الجو، حرةً مرحةً بهيجةً بلا عراقيل ولا عوائق.
وانفتحت عينا شريف دَهِشًا فأصبحتا في اتساع فمه المذهول، ولكن قليلًا ما لازمه الدهش؛ فقد أطلق هو الآخر ضحكةً عاليةً مقهقةً طال احتباسها في نفسه، فنمت وشبت حتى أصبحت ضحكةً قويةً رائعةً جذلانة، لا يذكر أنها صدرت عنه منذ كان طفلًا.
وفي خفوت الضحك اختلط صوت شريف والفتاة وهما يقولان: ما لك يا أستاذ؟
– ما الذي يُضحكك يا ست؟
وعادا يضحكان مرةً أخرى، وراحت هي تقول بألفاظٍ يقطعها الضحك: أنا أضحك منك وأنت؟
وتجهَّم وجهه فجأةً وقال: مني! مني أنا! أكل هذا الضحك، مني أنا، أنا يا ست؟
– نعم منك.
– هل أنا مضحك إلى هذا الحد؟
– وأكثر.
– ولماذا؟
– ألا تعرف؟!
– إن كان وجهي على ما أعهد فأنا لا أعرف أنه يُضحك إلى هذا الحد.
– لا ليس وجهك.
– أهي ملابسي إذن؟
– أبدًا، أبدًا.
– إذن.
– أتقصد أنك لا تعرف؟
– لا أعرف فيَّ شيئًا يُضحك إلى هذا الحد.
– أفهم من هذا أنك لم تُحس أنك كنت تُكلِّم نفسك.
– ماذا قلتُ لنفسي؟
وراحت تُقلِّد صوته وهي تقول: مسكين. لا حول ولا قوة إلَّا بالله.
– أهذا يُضحك؟
– وهل يمكن ألَّا أضحك؟!
– ألم تُقدِّري أنني أقرأ شيئًا يستدعي الشفقة؟ أكل ما أهمَّك من الأمر أنني كنت أُكلِّم نفسي؟ ألم تفكري لحظةً قبل أن تضحكي في هذا الذي كنت أقرأ خطابه؟
– يبدو أنك تُريد أن تقلبها إلى نكد.
– قولي لي يا آنسة، هل عرفتِ النكد طوال عمرك؟
– يا أخي افرجها، ألا تعرف أنت الفرح؟
– الفرح …
وعاد إلى فرحته الحبيسة، ونظر إلى الفتاة الفاتنة ولاحظ فتنتها لأول مرة، ولكنه لم يُحس نفسه مأخوذًا بجمالها، أحسَّ فيها شيئًا يمنعه أن يُعجب بها، وعادت تقول: ألا تعرف الفرح؟
ونظر إليها مليًّا، ثم وضع الخطابات في درج مكتبه، وقال في جد: عن إذنك.
وخرج من الغرفة، يحمل في نفسه فرحته الحبيسة وآلام القُرَّاء، وضحك الفتاة وجمالها الذي لم يُذهله. تختلط المعاني والصور جميعها في نفسه، فلا يكاد يُفكِّر في شيءٍ حتى يثب آخر إلى سطح تفكيره، ولكن فكرة الفرح الحبيس كانت أقوى هذه المعاني في نفسه. لماذا لم تفرح زوجته معه؟ لماذا؟ وركب وفكَّر في القصة التي فازت؛ إنها عن الحب الزوجي، عن الحياة الحلوة في ظل الزوجية. كلام قصاصين، من يقرأ قصته يظنه أسعد زوج في العالم. كلا. نعم إن زوجتي لا بأس بها؛ فهي تُحبني وأُحبها، ولكن لماذا لا تنتشي معي حين أكون سعيدًا؟ ولماذا لا أرى الشقاء كاملًا على وجهها حين أكون تعسًا؟ لماذا؟ أكنت أُحب أن أرى الشقاء على وجهها حين أنا تعس؟ إذن فتعاستي حينئذٍ تعاستان، بؤسي بؤسان، ولكني أُحب أن أراها طائرةً من الفرح إذا سعدت. ولكن لماذا لا أنخدع أنا بكامن الفرح في نفسها؟ أنا فرحان، لماذا لا أدعوها الليلة إلى العشاء في الخارج، ثم نذهب معًا إلى السينما أو إلى الهواء في الهرم، أو إلى أي مكان؟ وبلغ بيته ودخل إلى البهو، وكانت زوجته بجانب التليفون ورآها وهي تضع السمَّاعة دون أن تتكلَّم، وسألها: ماذا؟ لماذا وضعت السماعة؟
– النمرة مشغولة.
– آه.
وتركها ودخل إلى حجرته دون أن يدعوها إلى شيء، لماذا؟ لا يدري. استلقى على السرير وراح يُفكِّر مرةً أخرى، إنه فرحان، وراح يُفكِّر أيضًا أنه لم يُقدِّم إلى نفسه شيئًا يُشعرها به أنه فرحان، وجاءه صوت قرص التليفون وهو يستدير، ثم صوت زوجته وكأنه يهمس فأصاخ السمع: ألو نينا … أطلبك من ساعة، مع من كنتِ تتكلَّمين؟ أنا … كنتُ أُكلِّم صاحباتي … لا عليك … تصوَّري … تصوَّري يا نينا … شريف طلع الأول في مسابقة القصة. أنا فرحانة جدًّا يا نينا … أنا فخورة به … لا … المسألة ليست مسألة فلوس … إنما أنا فرحانة … لماذا؟ … لماذا كيف؟ … لأنه فرحان … ولأنه فنَّان … ولأنه زوجي. أنا فرحانة يا نينا.
وأحسَّ شريف لأول مرة منذ طالع الجريدة أن فرحته قد أُفرج عنها، وأنها موجودة، وأنه سعيد، وأنه أسعد إنسان في العالم. وفي صوتٍ يرتعش بالنشوة نادى من غرفة النوم: سهير.
وقالت سهير دون أن تُبيِّن في صوتها نبرةً خاصة: هه.
– الليلة نتعشَّى في سميراميس في السطح، ونذهب بعد ذلك إلى الفيلم الذي قلتِ لي عليه.