رضوان أفندي
وبدأت الإجازة الصيفية حيث تنداح الأيام في غمار الزمن، فلا ينفصل يوم عن يوم، ولا ساعة عن ساعة، وإنما هو فراغ طويل يفغر فاهًا مخيفًا، يُرسل الملل والضيق والسأم.
لم يعد يُهمُّني ماذا يكون اليوم، أهو السبت فأصحو في باكر الصباح، أم هو الإثنين فأتئد قليلًا عند اليقظة، وأتقلُّب في راحةٍ وسرور فوق السرير، فما يبدأ يومي في المدرسة إلَّا بعد الحصة الثانية؟ ولم يعد يُهمُّني إن كان اليوم الأربعاء فأتقلَّب مرةً واحدةً أو مرتين على الأكثر؛ فقد كان لا بد في العام الدراسي المنقضي أن أكون في المدرسة بعد الحصة الأولى.
وما أُفكِّر الآن في يوم الخميس لأُهيِّئ سهرتي مع أصدقائي حول الراديو؛ لأتيح لنفسي أن أنام في يوم الجمعة حتى يحين موعد الصلاة. تشابهت الآن الأيام، فكلها جُمَع، فما عاد السهر يحلو لي، وما عدت أستمتع بنومي في يوم الجمعة. الأيام جميعها جُمَع.
بل إنها خالية حتى من فرض الصلاة الجامعة؛ أصبح يوم الجمعة هو أكثر أيامي مشغولية، وأصبحت الأيام الأخرى فضاءً، ما عدا التفكير الذي يُسيطر على اليوم.
لقد كنت فيما مضى من أعوامٍ أهفو إلى هذه الإجازة، وأرنو إلى أيامها المقبلة في ضمير الزمن، بعينٍ مترقِّبة، ونفسٍ متشوِّقة، وروح مشوقة. ماذا حدث للأيام؟ أتراها تغيَّرتْ أم تراني أنا الذي تغيَّرتُ؟ كنت قبل زواجي مقبلًا على أيام الفراغ لأقضيها مع زوجتي، ومرَّت الأيام فاكتملت شهور واكتملت الشهور سنين، فما لي لا أجلس مع زوجتي؟
عاقر هي، ما أبغض المرأة العاقر إلى قلبي! شجرة لا تُنبت ولا تخضر، سائرة إلى الجفاف بلا ربيع لها، لا تتجدَّد ولا تتجدَّد الحياة فيها؛ فالحياة حولها طريق إلى النهاية، طريق لا يُنيره أمل من طفلٍ ولا ابتسامة من طفلة، ولا وعد من الحياة أن لي في الحياة من بعدي وجودًا من أطفالي. أنا جذورهم، وهم الفروع مثلما كنت فرعًا لجذور من قبلي. إنني بزوجتي العاقر قد أوقفت الحياة، لن تتجدَّد وتسير وتزدهر، كأني كتبت على هذا الجزء الذي أُمثِّله من الحياة «ينتهي بانتهاء صاحبه». أنا في الحياة فناء، أنا نهاية شجرة بدأها آدم ورعاها أجدادي على مر الأجيال، فهي قائمة مُزهرة منتجة باقية، حتى إذا بلغتني توقَّفت عن الازدهار والتجديد، فهي إلى الفناء تجف كلما مر بها يوم، لا نماء لها ولا أمل في النماء. لا أمل؟ ألا أمل هناك؟ وهب زوجتي عاقرًا، فهل أنا أيضًا عاقر؟ فإذا لم أكن فكيف أقبل أن أشترك معها في إنهاء الحياة، في توقُّفها؟ كيف أقبل أن أُمثِّل النهاية في عالمٍ يتجدَّد في كل لحظة ببدايات جديدة مع أطفالٍ جدد سيكبرون في غد ويُصبحون جذورًا جديدةً للحياة. لا لن أكون هذه النهاية. مسكينة زوجتي لقد خلق فيها عُقمها نوعًا من الغيرة الطاحنة؛ لا أنسى يوم جاءتني فوقية والدة شحاته عبد الموجود ترجوني أن أُعطي درسًا لابنها اليتيم.
لا أنسى يومذاك حين انتفضت زوجتي فاطمة عن ثورةٍ مشبوبة لاهية: امرأة بلا زوج! ألا تستحي؟
– زوجها مات.
– تُرسل أخاها.
– ولماذا يا ستي؟ لقد جاءت إليَّ في بيتي وكلمتني أمامك، وسألتْ عنكِ قبل أن تسأل عني.
– طبعًا، تدافع عنها، امرأة بلا زوج وحلوة، وليست عقيمًا، لماذا لا تدافع عنها؟ طبعًا.
– يا ستي أبدًا.
– طبعًا. أنا عارفة حظي، بختي مائل طول عمري.
وبكاء وصراخ وضجيج ووجه استمر منقبضًا في غير انفراج أيامًا عديدةً لم أعد أذكر عددها. ماذا تُراها فاعلة؟ علمت بما أُفكِّر فيه. ولِمَ لا؟ لماذا لا أتزوج؟ أُجدِّد الحياة. لو كان عندي الآن ولد لما ضقت بالأيام الفارغة؛ كنت أجلس إليه أُلاعبه وأفرح به مبتسمًا ضاحكًا، بل وأفرح به عابسًا باكيًا وأنشغل. ويملكني القلق إذا ما مرض. إني لأحسد الأب حين يقلق على ابنه المريض؛ إنه بقلقه يشعر بالحياة، بالحياة جميعها، ويأخذه البهر ويملكه الخوف ويتجه إلى الله وإلى الطبيب وإلى الصلاة وإلى الدواء، ولا ينام إلَّا نومًا يختطفه الجسم المتعب من الروح الهالعة خطفًا لا يطول فهو إغفاءة، ثم يصحو مفزعًا في إغفاءته ويقظته، وتمر الأيام فإذا طفله يتماثل للشفاء، وتهدأ الروح وينام الجسم نومًا مفعمًا بالحياة. هذه هي الحياة. حتى الخوف والقلق والرعب مشاعر حلوة عند الآباء، يذكرونها إذا ما انحسر الخطر في هدوءٍ قرير وحديث ناعم حنون. لماذا أحرم نفسي من هذا جميعه؟ الآن زوجتي عاقر، فما لي لا أتزوَّج غيرها وأبقيها؟ وماذا عليَّ أن أفعل؟ في القرية كثيرون يتزوَّجون الزوجة الثانية دون أن تكون زوجاتهم عاقرات.
ولم يصبر رضوان أفندي حسين طويلًا، ولم يترك الزمن يراود الفكرة في ذهنه، وإنما سرعان ما اقتنع بها دون ريث أو تدبير، وقام إلى بيت عبَّاس فرغلي، وما إن تبادلا التحية حتى سارع رضوان قائلًا: جئت أخطب أختك هنية يا عباس.
وقال عبَّاس مندهشًا: خادمتك يا سي رضوان أفندي ولكن …
– ولكن ماذا؟
– أنت سيد العارفين.
– ألأنني متزوِّج؟
– طول عمرك ذكي وتفهم يا سي رضوان.
– يا سي عبَّاس، الحال من بعضه، وهي أيضًا ألم تكن متزوِّجة؟
– أنا لا أقصد.
– فماذا تقصد؟
– لا أُريد أن أُغضب الست فاطمة.
– ليس في الحلال ما يُغضب يا عبَّاس.
– زوجتك ست كريمة وطيبة.
– أريد أطفالًا يا عباس.
– يا سي رضوان أنت متعلم وتفهم، كيف عرفتَ أن أختي ستهب لك الأطفال؟ وكيف عرفت أنك ستكون سعيدًا بهم؟
الذي أعرفه أنني لا بد أن أُحاول، والذي أعرفه أيضًا أني لست سعيدًا بدون أطفال.
– ربنا يكفيك شرهم.
– زينة الحياة الدنيا.
– ويجعل من يشاء عقيمًا يا سي رضوان أفندي.
– أُريد أن أُحاول.
– فإذا لم تُنجب أختي يا سي رضوان تُطلِّقها؟
– تكون مشيئة الله تمَّت وأمره لا مرد له.
– وإذا أنجبت لك الست فاطمة؟
– وهل هذا معقول؟!
– يعني إن حصل؟
– لا يا شيخ لا تُخرِّف. على كل حال ستبقى هنية على ذمتي.
– وهو كذلك، توكلنا على الله.
ويتم الزواج ويظل سرًّا على فاطمة، ولكن ما أقل ما يظل السر سرًّا، سرعان ما يذيع وتعلم فاطمة فهي في حريق يُلهب كِيانها جميعًا، وتُحاول أن تكتم ما بها كلما رأت زوجها، ولكن دموعها تخونها فهي تتساقط في صمت، ويصيح بها زوجها: اصرخي، اصرخي كما كنت تصرخين.
وتقول والدموع تتساقط تُوشك أن تكون حمراء في لون النار: لا يُفيد الصراخ الآن، أمر الله، أمر الله.
ويروح ويُهدِّئ خاطرها: ليس في القلب غيرك.
– لا تقل هذا، فهو أشد على نفسي وقعًا.
– أُحبُّك والله يا فاطمة. أُحبُّك كما كنت أُحبُّك منذ تزوَّجتك.
– ولم تستطِع أن تضحي من أجلي، وتفجعني بضُرَّة لا تدري إن كانت ستلد لك أم لا، وتفجعني من أجل أطفال لا تعرف شكلهم ولا تعرف ماذا سيفعلون إن هم كبروا. لا تقل إنك تحبني، لا تقل.
وكان إذا ذهب إلى هنية وجدها في جزعٍ آخذ ألَّا تلد هي الأخرى، فتنتهي حياتها مع زوجها رضوان أفندي الذي رفع مكانها في القرية، وجعلها ست بيت لا تملأ الجِرار ولا تذهب إلى الغيط.
وهكذا لم يعد رضوان جازعًا من الفراغ أوا لملل، فقد ملأت مشكلات زوجتَيه حياته، بل أصبح في حاجةٍ إلى وقتٍ آخر من الزمن، ليُواجه هذا الشغل الذي فرضه على نفسه فرضًا.
ولا ينقضي وقتٌ طويل حتى تنقطع الدموع من عيني فاطمة، وإن كان الجزع يزداد إحاطةً بهنية، ويعجب رضوان بعض الشيء ولكنه لا يُعلِّق على الأمر كثير أهمية، وإن كانت آماله في إنجاب طفل أخذت تتهافت وتضعف وتُوشك أن تضمحل. ويمر وقتٌ آخر وتقول له فاطمة: رضوان.
– نعم.
– أُريد أن أذهب إلى الطبيب.
– أي طبيب تريدين؟
– ذلك الطبيب الذي صحبتني إليه ليعالجني من العقم.
– ماذا؟! أبك مرض؟
– لا ولكني أشك في شيء وأُريد أن أتأكَّد منه.
ويُذهل رضوان ويُحملق فيها بعينَين مأخوذتَين. فاطمة وليست هنية! وينظر وينتظر، ثم يقول: هل أنتِ متأكدة؟
– لو كنتُ متأكِّدةً ما طلبت أن أذهب إلى الطبيب.
– تذهبين … اليوم تذهبين.
وحين خرجا من عند الطبيب لم تقل فاطمة شيئًا، وإنما تركت رضوان للدُّوامة التي ألقاه فيها؛ إنها حامل. لا يدري رضوان إن كان يفرح أم يخجل، ماذا يقول لها؟ كيف يفرح؟ ماذا يقول لهنية؟ هل تبقى على ذمته؟ وما ذنبها؟ وما كان ذنب فاطمة؟ أي جرم فعلت؟ أي جرم فعلت؟ ويظل رضوان في دُوامة من الخجل يشوبها الفرح حتى يصل بفاطمة إلى البيت، وينفتل هو إلى الفضاء ليخلو إلى نفسه الحائرة التي لا تكاد تُصدِّق ما وقع.
وتكتمل شهور الحمل، وتضع فاطمة طفلها الأول ويُسمِّيه أبوه إبراهيم تيمُّنًا بإبراهيم ابن النبي. وتمر الأيام وتكتمل الشهور سنين، ولا يُنجب رضوان من زوجته غير وحيده إبراهيم.
وفي يومٍ يمرض إبراهيم ويُسارع رضوان بولده إلى الطبيب، ويُعالجه الطبيب فلا يُفلح العلاج ويتركه إلى طبيب آخر، والهلع يقتلع قلبه من بين ضلوعه. لا، ليس القلق على الولد حياة، لا ولا هو موت، إنه شيء أشد بشاعةً من كل شيء، لا شيء يُماثل هذا الهلع، لا شيء مثل هذا الخوف، إنه شرٌّ من كل شعور، ما أحلى العقم بالنسبة إلى هذا الخوف! بل ما أحلى ألَّا نُوجد على الإطلاق ولا نلتقي بهذا الذعر.
ويلجأ رضوان إلى الطبيب وإلى الله وإلى الدواء وإلى الدعاء، ولكن الله كان قد أعد لإبراهيم مكانًا في الجنة.
وحين عاد رضوان من وداع ابنه الأخير، وكان اليوم الأول من الإجازة، كانت الدموع تملأ عينَيه في إصرار، فهي تثب إليهما كلما جفَّفهما. لم يجلس رضوان إلى الفراغ، ولم يُفكِّر في الإجازة، وكل ما كان يُفكِّر فيه هو فاطمة، إذ أنجبت له ولنفسه الشقاء. ما كان أسعدها قبل أن يجيء إبراهيم! ويدخل إليها وهي في حزنها القاتل: فاطمة … أنا آسف.
– الآن.
– لم أقلها إلَّا اليوم. لم أقلها حين تزوَّجت، ولم أقلها حين بشَّرك الطبيب بإبراهيم، أمَّا الآن فلا أجد غيرها. أتُراها تكفي؟
– أتُراها أنتَ تكفي؟
– لا أملك غيرها.
– حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي نشيجٍ عالٍ صاخب يقتطع من فلذات القلب اقتطاعًا قال رضوان: حسبنا الله ونعم الوكيل.