في البحث عن الحقيقة
ومضى عليَّ عدة أيام وأنا أتقلب على فراش الأحزان لا يهنأُ لي عيشٌ ولا يهدأُ لي بال، وأخيرًا عوَّلت على اللحاق بسنيري لأني فكرت أنه الشخص الوحيد الذي أقدر أن أستوضح منه هذا السرَّ الذي كما أظن لا يعلمه سوى ثلاثة أشخاص منهم ماكيري الشقي الذي بارح إنكلتره ثاني يوم وقوع تلك الحادثة، وتيريزا التي لم تقع عيني عليها منذ اقترنت ببولينا، وسنيري القاطن سبيريا، فمهما كانت المسافة بيني وبينه شاسعة وأتعاب السفر شاقة لا بد لي من الذهاب والاجتماع به فأستطلع منه ما أمكن ولا أرجع هذه المرة خاسرًا، والويل له إذا أصرَّ على الكتمان.
فبعد أن فكرت طويلًا بهذا السفر رأيت به من الصعوبات يرجعني عن عزمي ويثبت لي أن النجاح مستحيل، ولكن ما العمل وكيف يمكنني احتمال هذه الحال، وكلمات ماكيري تهشم قلبي بأنياب أحدَّ من السنان، فلا بدَّ لي من مقاومة المصاعب، وأخيرًا سوف تبدد كلمات الطبيب عن عينيَّ غيوم الشك، فإما أن تدحض دعوى ماكيري أو تحكم عليَّ الشهامة بانفصالي عن بولينا إلى الأبد.
فقصدت عند ذلك صديقًا لي مقربًا من الرجال العظام وأصحاب المراكز السامية، فأظهرت له شدة احتياجي للسفر وافتقاري لمساعدتهِ، فأتحفني بكتاب إلى سفير إنكلتره في بطرسبرج يطلب منه أن ينظر إليَّ بعين الالتفات ويساعدني في قضاء حاجتي. ثم أوصيت خادمتي بريسلا أن تسهر على راحة بولينا وتعتني بها كثيرًا حتى إذا نقهت من المرض لا تفتر عن الذهاب بها إلى أماكن النزهة، وأوصيتها أيضًا بألَّا تذكر اسمي لديها البتة، وإذا أكثرت من السؤال عني فلا تقول لها سوى أنني أحد أنسبائها، وقد أتيت بها من مدة وجيزة وسأعود إليها قريبًا فعسى أن تقتنع منها بهذا الكلام، وتلبث مطمئنة لحين رجوعي. وقد طلبت إليها أن تكتب لي عنها دائمًا، وبتُّ تلك الليلة قلق البال، وفي عزمي أن أسافر في صباح اليوم التالي.
وعند الساعة السادسة صباحًا كنت قد هيأت أمتعتي وكل احتياجاتي أثناء السفر ولم يبقَ عليَّ سوى وداع بولينا ومشاهدة وجهها المحبوب، فدخلت حجرتها بقلب خافق ونظرت إليها بأعين ملأى بالدموع، فإذا هي ملقاة على السرير ورأسها مائل فوق وسادة تقل بياضًا عن بشرتها الناصعة يفصل بينهما حلقات شعرها الحريري مسترسلة على كتفيها وصدرها الخافق بأنفاس هادئة. وكأني بها تقول وهي بتلك الهيئة الملائكية إنني لست شاعرة بثقل الذنوب التي اتُّهِمتُ بها، ولذا تراني لا أعبأُ بأقوال المنافقين، ولقد ترديت من الطهارة دروعًا تدفع عني سهام الماكرين. أجل لم يتراءى لي سوى تلك الكلمات مسطورة بين شفتيها، فلو قام الناس بأجمعهم يشهدون بصحة دعوى ماكيري لما أمكن أحد منهم أن يحل مني مكانًا للشك ببراءتها، ومع ذلك فلا بد لي من الذهاب إلى سبيريا، وهكذا عوَّلت على الخروج دون أن أوقظها وأتزوَّد نظرة أخيرة من تلك العينين النجلاويين؛ لأني لم أحسب نفسي إذ ذاك سوى رجل غريب عنها.
ولقد أدركت من نفسي خطأً عظيمًا بدخولي حجرتها وامتثالي لديها، فلذلك وجب عليَّ الرضوخ لحكم الآداب، فلا تقع أنظارنا على بعضها قبل أن يماط عن وجه الحقيقة النقاب.
وحينئذٍ حوَّلت بوجهي نحو الباب وقصدت مزايلة المكان، فلم أخطُ خطوةً حتى سقطت جاثيًا بجانب سريرها وانحنيت على يدها أقبلها باحترام، فتململت قليلًا وارتعش جفناها. أما أنا فأسرعت بالفرار من الغرفة خوف أن تستيقظ فتراني على تلك الحال، وكنت إذ ذاك كمذنب قد شعر بخطئه.
وفي اليوم الثاني كنت بعيدًا عن الوطن محرومًا استنشاق هواء عطَّرتهُ بولينا بأنفاسها، لا تعزية لي سوى التعلُّل بالآمال ولا شاغلٌ إلَّا التفكر بما ستئُول إليهِ الحال، فكنت تارة أتوهم وصولي لسبيريا ومشاهدتي سنيري مسجونًا مهانًا ينظر إليَّ بانكسار وكأنه يصادق على كلام ماكيري بقوله: «لقد خدعتك فانتقم مني.» وتارة كنت أراه بحالة الغضب الشديد يتوعد ماكيري بالقصاص الرهيب مقابلة لكذبه الفظيع ثم يقول: «لا تيأس فستتضح لك الآن براءة بولينا حين أطلعك على هذه الأسرار.» ومن ثَمَّ أرجع إلى حيث تركت امرأتي المحبوبة، وأي سرور يشمل قلبي إذا وجدتها متمتعة بصحة الجسم والعقل معًا.
ثم وصلت إلى بطرسبرج ووضعت أمتعتي في أحد الفنادق وذهبت توًّا إلى ذلك السفير، وبعد أن عرَّفته بنفسي قدمت لهُ كتاب صديقي، فلم يتم قراءته حتى نظر إليَّ بابتسام، وأظهر رغبة عظيمة في مساعدتي، ولكنه حتم عليَّ بوجوب الانتظار بضعة أيام ريثما ترتاح البلاد وتخمد منها نيران الفتن.
فشكرته من صميم قلبي ثم ودعته وقصدت الانصراف، فاستوقفني قائلًا: من هو هذا السجين، وماذا تقصد من لقائه؟
– سيدي لا أعرف شيئًا عن هذا الرجل سوى أنه طبيب إيتالياني من رجال السياسة يُعرف باسم سنيري، وليس قصدي من لقائه إلَّا أن يجيبني على بعض أسئلة مهمة لديَّ سأقترحها عليه.
– سنيري، ما من أحد من الذين سجنوا مؤخرًا يدعى بهذا الاسم؟
– إلهي، هل يمكن أن أُخدع ثانية.
– ألا تعرفه بالنظر يا مستر فوكهان؟
– نعم إني أعرفهُ جيدًا.
– إذن لا تيأس من وجدانه لأنه إذا أمكنه إبدال اسمه فلا يمكنه تغيير هيئته، أما الآن فبقي عليَّ أن أوصيك بالمحافظة على شرائع هذه البلاد التي تختلف كثيرًا عن شرائعنا نحن الإنكليز، فإنك إذا نطقت بأقل كلمة دون تروٍّ تكون قد سعيت إلى حتفك بظلفك.
فوعدته بذلك بعد أن أبديت له شكري وامتناني لإرشاداته، وودعته وذهبت إلى النزل حيث لبثت مدة أسبوعين أعلل النفس بالأماني، وأخيرًا حصلت على رقعة يدعوني بها إليه، فأسرعت بالذهاب وبعد أن تبادلنا التحية، قال: لقد أسعدك الحظ يا مستر فوكهان، فكل شيء قد تم ويمكنك منذ الآن أن تسافر إلى سبيريا مصحوبًا بتوصية تجعل الكبير والصغير ينظر إليك باحترام.
ففاض لساني بشكره وشعرت من نفسي بالعجز عن إظهار فضله، ثم قال لي: إن القيصر يدعوك إليه فهو يود مشاهدة الرجل الذي قصد هذا السفر الطويل بقصد إلقاء بعض الأسئلة على أحد المسجونين.
فساءني هذا التعاكس لما أنا عليه من الاجتهاد بسرعة السفر، وكنت أتمنى كثيرًا أن أرفض هذا الشرف، ولكن عندما رأيت أن لا مناص لي من ذلك ذهبت مع السفير وفي نيتي أن أبذل الجهد في تقصير الزيارة، وبدقائق قليلة وصلت بنا العربة إلى باب كبير تحف بجانبيه الحرس ويليه باحة الدار الخارجية المزدانه بتماثيل بديعة الإتقان محكمة الوضع تحيط بها حديقة غنَّاء قد حوت من الأزهار أجملها ومن الأشجار المثمرة أشهاها، ثم صعدنا سلمًا قد كُسِيَتْ درجاته بالطنافس الثمينة وجانباه مغشيَّان بالذهب الخاص. فاستوقفتني هذه المناظر برهة، ولم أنتبه لنفسي حتى أومأ لي قائدي بالدخول إلى القصر، فتبعته وإذا بي واقفٌ في دارٍ فسيحة الجوانب مزينة بالنقوش البديعة والصور الجميلة قد رصعت جدرانها بأنواع الحجارة الكريمة وغُشيت أرضها بأصناف المعادن الثمينة، أما ما فيها من حسن الرياش فحدث عنه ولا حرج. فأخذني العجب والاندهاش مما رأيت وعاينت من تلك المناظر التي لم أتصور نظيرها قبلًا.
ثم دخلنا قاعة جميلة فيها أيضًا من الزخرفة والزينة ما يبهر النظر ويأخذ بمجامع العقل، وفي صدرها القيصر إسكندر الثاني إمبراطور روسيا جالس على عرش مرتفع، وهو رجل طويل القامة عريض الصدر جميل المحيا، تلوح على جبينه لوائح النجابة والذكاء، وفي نظراته من الرقة والرزانة ما يجعله محبوبًا من كل من يراه، فقدمني إليه السفير معلنًا اسمي لدى جلالته، فرمقني بعين الحنو والابتسام، وأما أنا فتقدمت إليه خافضًا رأسي احترامًا لشخصه العظيم منتظرًا أوامره السامية.
فكلمني بالإفرنسية قائلًا: بلغني أنك مستعد للذهاب إلى سبيريا يا مستر فوكهان.
– إذا أذنت لي جلالتكم بذلك.
– بقصد أن ترى أحد المسجونين أليس كذلك؟
فأجبت بالإيجاب.
– ولكن ماذا يُلجِئك لقطع هذه المسافة وتحمل مشاقِّ هذا السفر الطويل؟ أهو صديق لك؟
– مولاي، لا أعلم إذا كان صديقًا لي أم عدوًّا، ولكني أعلم جيدًا أن سعادتي وسعادة زوجتي في قبضة يده.
فتبسم عند ذلك، وقال: إنكم معشر الإنكليز تحسنون معاملة نسائكم، فاذهب على الطائر الميمون وستحصل مني على أمر يدفع من طريقك العقبات ويسهل لديك المسير.
فانحنيت شاكرًا، وانصرفت على أمل ألَّا أرى ما يعيقني عن بلوغ المرام.
وبعد ثلاثة أيام تناولت كتابًا من بريسلا تخبرني أن بولينا متمتعة بصحة جيدة، وهي منتظرة بفروغ صبر صديقها المجهول، وأنها لم تزل على حالها من ضعف الشعور، وتلهج دائمًا بذكر جريمة حدثت قديمًا، وهي تنتظر من العدالة محاكمة الجانين، وأنه قد تراءى لها بحلم وهي مريضة أن رجلًا مجهولًا مطلعًا على أسرارها يطالب بحقوقها.
فشعرت عندئذٍ بخفقان قلبي وإحياء آمالي، فزال عني بعض الكروب؛ لأني استوضحت من كلمات بريسلا أن بولينا أخذت تذكر رويدًا ما مرَّ عليها فيما مضى.
ثم إن هذه هي المرة الأولى التي أظهرت بها استغرابًا لوجود خاتم العقد في بنانها، فكأنها لم ترهُ قبلًا وجعلت تديرهُ بيدها مرارًا بعد أن سألت بريسلا من أين أتاها؟ فقالت: لا أعلم. فبهتت برهة متفكرة، فسألتها: ما بك يا عزيزتي؟ فنظرت إليها باسمة، وقالت: أحلام، أحلام، أجهد نفسي بتذكارها.
فبعد تلاوة التحرير وددت لو أني أطير إليها، لكني تصبرت أخيرًا، ورأيت أن لقاء سنيري لمن أهم الأمور، حتى إذا ما تمكنت من الرجوع أكون على ثقة ممن أوقفت لها حياتي وأتأكد أنها أنقى من ذهب ذلك الخاتم وأصفى سريرة من حجارته الكريمة.
بولينا. بولينا. يا عزيزتي بولينا، يا امرأتي المحبوبة، أبشري فسوف يصفو لنا الزمان ويطيب لنا العيش.