من هو؟
وما لبث أن تغيرتْ نظراته فحملق بي هاتفًا: مستر فوكهان في سبيريا؟!
فقلت بصوت ثابت: نعم أنا هو، وقد أتيت من إنكلترا لكي أراك، ثم التفتُّ إلى فارلاموف قائلًا: لقد حظيت بلقاء مَن أجدُّ وراءهُ، فأجاب: إنه يسرُّني ذلك، ولكنك لا تقوى على الوقوف هنا طويلًا لرداءة الهواء وخبث الرائحة، فيمكنك أن تذهب به لغرفة أحد الضباط حيث تبتعد عن هذه المناظر القبيحة. ثم أمر الحارس أن يرشدنا إلى حيث قال، فذهبنا من باب أدَّى بنا إلى حديقة مستديرة ومن حولها غرف عديدة، فدخلنا إحداها وكانت عارية تقريبًا ولكنها نظيفة، فجلست على مقعد بالٍ وابتدرت سنيري بهذه الكلمات: أتيت من سفر طويل جدًّا وتحملت مشقات كثيرة كي أراك يا مستر سنيري.
– ولكنك ستعود قريبًا، وأما أنا فلا أمل لي بالرجوع البتة، فما أطول سفري!
وكان يتكلم بلهجة محزنة وينظر إليَّ بتذلل، فتأثرت جدًّا لا سيما وقد ظهر على وجههِ نتيجة عذاب تلك المدة التي قربتهُ من الشيخوخة عشر سنين.
فقلت: ربما أنا الآخر لا أرجع أيضًا، ويمكنك أن تتحقق صعوبة مركزي من مجرد مشاهدتك إياي في سبيريا.
فزفر زفرة طويلة، وقال: هل أنت المستر فوكهان؟ نعم أنت هو، ولكن من وأين أنا؟ هل هذه مدينة لندره أو جينوى أو مكان آخر؟ هل أستفيق يا ترى وأرى أن كل تلك الأتعاب التي تحملتها كانت حلمًا؟
فحزنت لكلماته الجارحة، وقلت: كنت أود أن يكون كذلك.
– ألست أنت أحد أصحابي؟ أوَلمْ تأتِ لتخلصني من ربقة الأسر؟
– حبذا لو أمكنني ذلك، إنما مجيئي لم يكن بهذا الصدد، بل لأستوضح منك أمورًا لا يعلمها سواك.
– قل ما بدا لك.
– هل تعدني أنك تتكلم الصدق؟
– لمَ لا، وممن أخاف، وماذا أرجو بعد من الحياة؟
– فأول ما أريد أن تعلمني من هو ماكيري؟
– فارتاع لذكره وارتعش، ثم صرخ بملء صوتهِ: خائن، خائن. ولأجله أود التخلص من سجني فآخذ بثأري ممَّن سلَّمني … آه، ليتهُ الآن حاضر هنا عوضًا عنك، فكنت مع ما بي من الضعف أجد من نفسي قوَّة تكفي لأن أضغط بيديَّ على عنقه ولا أتركهُ وفيهِ رمق من الحياة.
– دعنا من هذا الآن، وقل لي ما اسم ماكيري الحقيقي؟
– لا أعلم لهُ اسمًا آخر فهو رجل إيتالياني أرسلهُ أبوه إلى إنكلتره خشية أن يسقط من اعتبار والديه بأعمالهِ المنكرة، فاتفق أني رأيتهُ بينما كنت باحتياج لرفيق نظيره، وقد قاتل عني كبطل، ودافع عني بحرارة، ولكنهُ عاد فخانني، فلمَ تسألني؟
– لأنه ادَّعى بكونه شقيق بولينا.
وعند ذلك انقلبت سحنتهُ وجحظت مقلتاهُ، ثم تململ وهو في مكانهِ وقال: شقيق بولينا؟! ليس لها أخ البتة.
– فلمَ قال ذلك، وأن اسمهُ أنتونيس مارك؟
– آه، انتونيس مارك، شقيق بولينا، ماذا يقصد بهذا القول؟ أخبرني حالًا.
– هو أن أساعدهُ باسترجاع ما صرفتهُ أنت من ثروة بولينا شقيقتهُ.
فتبسم بمرارة، ثم قال بهدوٍّ: قد اتضح لي كل شيء، فيا لهُ من ماكرٍ لئيم! لقد خان بدسائسه قومًا ربما كانوا قادرين أن يقلبوا مملكة، وذلك لكي يسلمني ليد العدالة … الويل لهُ من غادر … آه، اعفُ عني يا أنتونيس … ويلي أنا الأثيم، لِمَ لمْ أُقتل في تلك الساعة؟ ولِمَ سمحت يا إلهي بعذاب الأبرار؟
وبعد سكوت قليل قلت لهُ: سوف تسمع مني ما يزيدك دهشة، ولكن أخبرني أولًا: ألم تكن بولينا مقيدة بحب أحد الأشخاص قبل أن أقترن بها؟
– لا، إنما ماكيري كان يتودد إليها، ولكنها لم تحفل به.
– ولا بغيره؟
– لا، وإني على يقين بأنها كانت حرَّة الفؤاد، وفوق ذلك فهي كريمة النفس، مهذبة الأخلاق، قويمة المبدأ، نقية القلب، ولو لم يفاجئها ذلك المرض لكنت أقول إنها أحسن امرأة وجدت على وجه البسيطة كما وأنك أسعد رجل بحصولك عليها.
– ولكن ستجد الآن بأن نتيجة خداعك كان وبالًا عليَّ وعليها.
وعند ذلك شعرت بأن احتقاري الشديد لسنيري قد تجدد بي، ولكنني لم أرغب بالانتقام منه؛ إذ إن كذبة ماكيري أضحت كالشمس في رابعة النهار، وتأكدت أن بولينا لم تكن سوى آلهة العفة، وأني سأعود وأرى ذاك الوجه الجميل المرسوم عليه شارة الطهارة، ولكن فاتني معرفة ذلك القتيل الذي بسببه فقدت بولينا الإدراك والعلاقة التي بينها وبينه.
فقلت لهُ: إني أسألك عن ذاك الشاب الذي قتله ماكيري بمساعدتك وبحضور بولينا، من هو، وبماذا استحق القتل؟ فامتقع وجه سنيري وأمال رأسهُ إلى الوراء حتى كاد يلطم بالجدار، وبدأت أنفاسه تتصاعد بسرعة، ولبث برهة على تلك الحال دون أن يحاول إنكار ما اتهم به، فأعدت القول: لمَ لا تتكلم؟ إني عالمٌ بتلك الحادثة، فقد كنت مجتمعًا مع ثلاثة أشخاص حول مائدة، وإلى يمينك ماكيري وإلى يسارك رجل آخر على خده خال، وفي زاوية الغرفة قرب الباب كان ذاك الشاب الذي قتلهُ ماكيري ممدَّدًا، وفي الغرفة الثانية كانت بولينا توقِّع لحنًا على البيانو، ثم توقفت بغتةً في الوقت الذي سقط فيه الشاب قتيلًا، ألم أحسن لك الوصف؟ وكان ينظر إليَّ أثناء حديثي باندهاش عظيم حتى إذا انتهيت جعل يلتفت إلى ما حولهُ، ثم وجه نظره نحو الباب كمن ينتظر دخول أحد.
وإذ لم أحصل منه على جواب، قلت لهُ: أخبرني عن اسم الرجل وما هي علاقته مع بولينا. فأجفل من كلامي وحدجني بأعين متوقدة، وقال: لماذا تسألني؟ لا شك أن بولينا قد عاودتها قوَّة الإدراك، فأطلعتك على ما أنت عالمٌ بهِ، فلمَ جئت تعذبني؟ دعني وشأني. فزوجتك تخبرك ذلك، وحسبي ما أنا عليه من التعاسة.
– إنها لم تزل فاقدة الشعور، ولم أستفد منها حرفًا مما قلتهُ.
– إذن كيف أتيح لك معرفة هذه الأسرار، فأنا على يقين من أمانة تيريزا وسكوتها، وبيتروف قضى نحبهُ والآخر دهمهُ الجنون، وماكيري يستحيل عليهِ الإقرار لكونه القاتل.
– ولكنك غفلت عن شخص آخر سوى الذي ذكرتهم.
فنظر إليَّ بإمعان، وقال: نعم لقد وجدنا رجلًا غريبًا في تلك الليلة الهائلة ولكنه لم يرَ شيئًا، وكان أجمع رأي رفاقي على الفتك بهِ، ولكني نهيتهم بعد أن أثبت قولي بالامتحان كونهُ أعمى.
– إني أشكرك لذلك.
– أنت تشكرني؟! ولماذا؟
– لأني صرت مديونًا لك بحياتي.
– أأنت هو ذاك الأعمى؟!
– نعم.
فنظر إليَّ بانتباه، ثم قال: لقد علمت الآن كيف تأتَّى لذاكرتي رسمك منذ زمان طويل، وكنت دائمًا أسأل نفسي عن سبب ذلك فلا أهتدي للصواب، ولكني أراك تبصر الآن، فهل كنتُ مغشوشًا حينما تحققت عماك؟
– لا، لقد كنت أعمى فشفيت.
– إذن من أعلمك بتفاصيل الحادثة؟
– أخاف أن أخبرك فلا تصدقني.
فنهض وجعل يخطر في أرض الغرفة ذهابًا وإيابًا حتى ملأ الفضاء برنة قيوده ودمدم قائلًا: «ما من خفيٍّ إلَّا ويظهر.» ثم نظر إليَّ وقال: لقد صرت أصدق كل ما يختص بتلك الليلة المريعة التي لا يفارق ذكرها مخيلتي … لقد تحملت عذابًا شديدًا، ولكنهُ غير كافٍ لأن أكفر عن ذنوب اقترفتها، فليت بإمكاني أن أنفعك بأمرٍ ما تعويضًا عما ألحقت بك من الأتعاب.
– إنك لتنفعني إذا أجبتني على هذا السؤال، ولكني أستحلفك بالشرف وبكل ما هو عزيز لديك أن تصدقني المقال.
فظهر على شفتيهِ تبسم السويداء، ونظر إليَّ بإنكسار وقال: أي «شرف» تعني؟ ولكني أعدك بإظهار الحقيقة، فعجل بالسؤال.
– لقد أخبرني ماكيري أنهُ قتل ذاك الشاب دفعًا للعار، وذلك لأنهُ كان مشغفًا ببولينا. زوجتي …
فاحتدم سنيري غيظًا، ورفس الأرض برجلهِ، وانتصب واقفًا وعيناهُ تقدح شرارًا، وصرخ بصوت عالٍ: يا لك من شقي يا ماكيري! لا تظن أن الله يتغافل عن معاقبتك، فلا بدَّ لك من أن تشاركني هذه البلية آجلًا أم عاجلًا. وبعد ذلك عاد فجلس مكانهُ وساد السكوت في الغرفة، ثم حوَّل وجههُ الشاحب نحوي ونظر إليَّ بأعين مغرورقة بالدموع، وقال: إن ذاك القتيل الذي سقط بيد ماكيري لم يكن سوى أخا بولينا … ابن شقيقتي … أنتونيس مارك.