ليست أهلًا للمحبة والزواج
فمضى عليَّ أسبوع في تلك الغرفة وأنا أرى في كل يوم تلك الغانية، واسمها بولينا — هكذا كنت أسمع الخادمة تناديها — وكانت عاطفة الشوق تزداد بي يومًا فيومًا لمحادثتها، وقد ظهر لي من مراقبتها أنها من السذاجة بمكان عظيم لا تتكلف حركة تشف عن كبرياء وخيلاء، وهي ملازمة الصمت إلَّا فيما ندر، وذلك عندما تحتاج إلى الخادمة فتلقي إليها بعض كلمات مقتضبة ثم تعود إلى حالتها الأولى من الجمود والسكينة.
وقد انتظرت فرصة تخوِّلني التقرُّب منها، فذهبت أتعابي ضياعًا، وما كنت قط لأسمع صوتها العذب لو لم أقف لها بالمرصاد وقت ذهابها وإيابها، فأشير إليها مسلِّمًا فتجيبني ولكن بدون اهتمام.
هذا وقد ضقت ذَرعًا عن كتمان أمري وإخفاءِ سرِّي، فعزمت أن أنبذ الخوف والجبن ظهريًّا وأذهب إليها شاكيًا حالتي، ولكني لما رأيتها في اليوم الثاني لم أتجرَّأ على إتمام عزمي؛ فإن سطوة جمالها أذهلتني ونظرها الحادَّ الجامد لَعْثَمَ لساني، فأحجمت وأنا أندب سوءَ حظي، ولم أذُق طعامًا ذلك النهار بطوله، وعندما خيَّم الظلام ألقيت بنفسي على سريري حيث ضاق صدري وخنقتني العبرات، فبكيت كالطفل. وإني لكذلك إذ سمعت رنة وتحطُّم إناء خزفي في باحة الدار عقبهُ صراخ وعويل، فأسرعت إلى الخارج وإذا بتيريزا خادمة بولينا ممدَّدة على الأرض تشكو من صدع أَلَمَّ برجلها، وقد انتثر حولها قطع صغيرة من الخزف، وتندت أثوابها بما كان من المرق في ذلك الإناء، فخاطبتها برقة مقدمًا لها يد المساعدة، فشكرتني بكلمات إنكليزية استنتجت من لهجتها أنها غير لغتها. فسألتها بالإيتاليانية عمَّا إذا كانت تريد أن أحملها إلى غرفتها، فبرقت أسرِّتها لاستماع لغتها، ونظرت إليَّ بعين الامتنان ثم تحفزت للقيام، فرأيتها غير قادرة على ذلك، فأسندتها إلى ذراعي وأعنتُها على الوقوف، ولكنها لم تقوَ على المسير، فحملتها إلى غرفتها ووضعتها على السرير وعدت لأرسل من يأتي بطبيب، فصادفت بولينا خارجًا مسندة إلى الجدار وهي على حالها من الهدوِّ، فلما صرت على مقربة منها هشت لي وشكرتني على ما أبديتهُ من المعروف، ثم مدَّت لي يدها البيضاء فهززتها بلهفة، وبعد ذلك انسحبتْ إلى غرفة خادمتها وخلفتني جامدًا كالصنم أنظر إلى الباب الذي حجبها عن عينيَّ مفكرًا في ذاك المحيَّا الذي خطت عليه يد الحدثان آيات من الحزن يكتنفها رسم من الأسرار العميقة على جبينها الوضَّاح كما يتبين من هيئتها الذابلة.
وفي صباح اليوم الثاني من هذه الحادثة رأيت بولينا ذاهبة للنزهة دون رفيق، فتناولتُ قبعتي وتأثرتها مسرعًا، وبعد مطارحة السلام افتتحت الحديث بهذه الكلمات: هل لك مدة طويلة في إنكلترا أيتها الآنسة؟
– لا.
– لقد أسعدني الحظ بمشاهدتك في دير الكاثوليك «بتورين» منذ ثلاثة أشهر.
فرفعت عينيها وحدجتني بنظرة طويلة، فتممت قولي: وقد كنت مصحوبة بقهرمانتك.
– نعم لقد ذهبنا مرارًا إلى هناك.
– أظنك إنكليزية الأصل كما يتبين من اسمك؟
– نعم.
– أعازمة على البقاء في إنكلترا طويلًا أم ستبارحينها إلى إيطاليا؟
– لست أعلم.
ثم بادرتها بحديث طويل أستطلع به أميالها وأدرس طباعها ذاكرًا لها ما يهم النساء معرفةً كالموسيقى والرقص والتصوير والأزهار، ولكن كل هذا لم يكن يستلفت منها الأفكار، فقَلَّما كانت تطرب أذني باستماع ألفاظها الرقيقة، بل كان دأبها الإصغاء لحديثي، ولم أحظَ منها إلَّا بكلمة: لا، ونعم. وذلك عندما تضطر إلى إجابتي. وقد تبين لي أنها لا تفهم كلامي، فكانت تارة تشخص بي ذاهلة مندهشة وطورًا تنكس رأسها وتعود إلى الافتكار دون أن تبدي بكلمة، ولو كنت منتظرًا الجواب.
هذا ما علمت من أمرها أثناء تجوُّلنا، فلما عدنا إلى المنزل ودَّعتها بكل احترام، وذهبت إلى غرفتي حزينًا لما استوضحت من أطوارها وذهولها وأشفقت عليها وعلى نفسي؛ لأني كنت لم أزل أحبها. ولقد تعزيت نوعًا لأنها لم تأنَف من مرافقتي مرارًا. حتى وفي المرة الأخيرة كاد يقضى عليَّ من شدَّة الفرح إذ رأيتها تبسم لقدومي، وحينئذٍ تجرَّأت أن أقدِّم لها ظرفًا قد رقمت عليه اسمها الجميل، ووضعت فيه كتابًا أصف فيه حالتي وهيامي، فتناولته مني وجعلت تنظر إليه باندهاش وحيرة كأنه لم يقع نظرها على مثله قبلًا، ثم أرجعته لي وانثنت مسرعة إلى غرفتها، وقد أوضحت لي حركاتها جليًّا أنها لا تفقه القراءة، فلبثت حائرًا في أمرها قائلًا في نفسي: هل يمكن لمثلها أن يحرم من وسائط التعليم وهيئتُها تدل على المكانة والشرف؟
وفيما كنت أفتكر في أمر الفتاة كانت تيريزا مطلَّة من النافذة ترقب حركاتنا وسكناتنا، وعيناها تقدح شررًا كأنها غير راضية عن هذا الاجتماع؛ ومن ثَمَّ عادت لاستصحاب بولينا كعادتها متحملة الآلام باذلة جهدها بإبعادي عنها.
ويومًا ما مرَّت تيريزا بقرب غرفتي، فاغتنمت هذه الفرصة ودعوتها، فدخلت إلى حجرتي، وقدمت لها كرسيًّا، فجلست وهي تنظر إلى ما حولها كأنها ترغب فهم معنى هذه الدعوة، فبادرتها بالسؤال عن رِجلها، فأجابت بصوت أجش أنها أحسن حالًا. فقدمت لها كأسًا من الخمر تجرَّعته بدون تردد، ثم قلت لها: كيف صحة الآنسة بولينا فإني لم أرَها اليوم؟ أجابت وقد خنقها الغيظ وأرجف صوتها التهديد والوعيد: إنها على أحسن حال.
– ربما لم يخفَ عليكِ بأنها هي السبب الذي استدعيتك لأجله.
– نعم لقد علمت كل شيء.
قالت ذلك ونظرت إليَّ نظرة تشفُّ عن استعدادها لإشهار حرب ضدي.
– إذن فأنت تعلمين ما لا أقدر على كتمانه بعد … إني أحب الآنسة بولينا. فأجابت بخشونة وثبات: إنها ليست أهلًا لأن تُحَبَّ.
– ليست أهلًا للمحبة! كيف لا وهي شابة أديبة وجميلة، فإني أحبها وأريد أن تكون شريكة حياتي.
فقالت: إنها ليست أهلًا للزواج.
– تيريزا أخبريني ما المانع؟ فأنا شاب شريف ومثرٍ وذو حب طاهر ولا أيأس من رضاها؛ فإن الأمل بذلك عظيم لما أراه من نظراتها إليَّ المقرونة بالحنوِّ، فأستحلفك بكل ما هو عزيز لديك ومقدَّس أن توضحي المقال وتزيلي عني العناء بلفظة قدِّر لي بها السعادة أو الشقاء.
– إنها ليست أهلًا للمحبة والزواج.
– تيريزا لقد عيل صبري فلمَ هذا العناد، ناشدتك الله أن تخبريني فقط مَن وأين هي عائلتها أو أنسباؤها فأتقدم إليهم بطلب يدها.
– قلت ولم أزل أقول ما لا أقدر أن أفوه بسواه، إنها ليست أهلًا للمحبة والزواج.
وعند ذلك لم يعد بوسعي الصبر، فاتقدت عيناي بنار الغيظ والغضب، وكدت أن أبطش بها وأريها نتيجة إصرارها لو لم يخطر لي ما هو أقدر على كبح جماح النفوس من كل شيءٍ ولا أعظم من سطوته على القلوب. وبالحال نفحتها صكًّا ماليًّا بقيمة ألف فرنك، فبرقت لهُ أسِرَّتها وانجذب بصرها لتلك الورقة، فظننت أني فزت بالوطر، ولكنها ما عتمت بعد أن صمتت برهة أن نهضت من مكانها مكررة قولها: إنها ليست أهلًا للمحبة والزواج. ثم أرادت أن تخرج.
فأوقفتها وضاعفت لها المبلغ، فلبثت جامدة لا تُبدي حراكًا، ثم تمتمت: ألفي فرنك! ألفي فرنك! ثمن كلمة ولكن لا، لا أبيعها فهي أثمن من ذلك، وهمت بالخروج ثانيةً، فضاعفت المبلغ أيضًا حتى بلغت قيمتهُ أربعة آلاف فرنك. وقد أخذني العجب والاندهاش عندما لحظت بأنها لم تكتفِ بعد، فوعدتها بأن سأدفع لها أيضًا قدرهم في يوم تكون بولينا عروسي، ففغرت فاها وشخصت بأبصارها وظلت برهةً كالبلهاء، ثم قالت: سأجيبك في وقت آخر … بعد استشارة الطبيب.
– من هو هذا الطبيب، ألا أقدر أن أراه؟
– هل أتيتُ على لفظة طبيب! فهذا سهوٌ مني، ولكن سأكاتب وليَّها بهذا الشأن وأبذل جهدي في مساعدتك.
– لا تتأخري، واذكري الوعد.
– سأباشر ذلك حالًا.
– والآن اصدقيني القول يا تيريزا، هل تفكر بي بولينا في خلواتها، ألم تذكر اسمي؟
– من يعلم، ولكني أقول للمرة الأخيرة، إنها ليست أهلًا للمحبة والزواج.
فقلت في نفسي ساخرًا بها: يا لك من بلهاء لا تعرفين المَيَّ من اللَّيِّ، تقولين إنها ليست أهلًا للمحبة والزواج مع أنه إذا وجد من الفتيات من هي أكثر أهلية للزواج فلا تكون غير بولينتي الجميلة. ولكن لا بدَّ لثبات رأي هذه الشمطاء في بولينا من أسباب محاطة بالأسرار الخفية. ثم تذكرت تلك المصادفة في دير الكاثوليك، وكيف كانت تصلي بحرارة، ففكرت أنها ربما تكون كثيرة التدين وتقصد اجتذاب بولينا إلى الدير لنذر العفة. هذا ما رجحتهُ في ذهني على بقية الأفكار، ولكن ساء فألها فإني استرضيتها بالدرهم الوضَّاح، ولم يعد عليَّ سوى استعطاف بولينا والاجتماع بها غالب الأوقات فأكتشف منها على ما يهمني معرفتهُ من أحوالها. وعندما داخلني هذا الفكر شعرت بالراحة والسرور بما توفَّر لديَّ من وسائل الفوز والنجاح، وبتُّ ليلتي مرتاحًا أحلم بالسعادة التي كنت بانتظارها.
ولما كان الصباح ذهبت إلى السوق لقضاء بعض الأشغال، فصرفت بضع ساعات، وعند رجوعي لم يكن اهتمامي سوى مقابلة بولينا، فاتجهت نحو غرفتها بقلب خافق، وعند دخولي رأيت ما لم أكن أنتظره، وما الموت إلا دونه هولًا وحزنًا، رأيت ما سحق قلبي وأوقف سريان دمي، وجعلني كالمعتوه الفاقد الرشد، رأيت غرفة من قصرت عليها آمالي ومن أسرت فؤادي خالية خاوية لا عين فيها لبولينا ولا أثر. فانطلقت مسرعًا نحو صاحبة النزل لأستطلع منها واقعة الحال، وكنت أقدِّم رجلًا وأؤخر أخرى خوفًا من أن جوابها يحجب عن عيني الشعاع الأخير من أمل لقياها، ولكني وجدت أن لا مهرب من الاستعداد لاحتمال الصاعقة التي ربما تنقضُّ عليَّ من جوابها السلبي، فقوَّيت عزمي واستعنت بالصبر الجميل ولو ذهبت روحي، قائلًا:
فتقدمت من المرأة ونشدت ضالتي لديها ولسان حالي يستعطفها بالتوقُّف قليلًا عن الجواب إذا كان ما أخشاه قد جرى حقيقةً، فلم أستفد منها سوى أن تيريزا نقدتها ما عليها من أجرة البيت وذهبت إلى حيث لا تدري. فجزعت لهذا الخبر ثم خرجت أتعثر بأذيال الخيبة والقنوط، وقد زهدت في الحياة وكدت أقع مغشيًّا عليَّ لو لم أثبت جأشي ببقية من القوة. فأتيت غرفتي وانطرحت على سريري خائر القوى، واستغرقت في بحار الأحزان وبتُّ والأفكار المزعجة تُقلق راحتي، وصرفت نحوًا من عشرة أيام على هذه الحال المنكَرة، وكلما مرَّ بي يومٌ ولم أحظَ بفائدة أنتظر اليوم الثاني مؤمِّلًا زيارة تيريزا أو كتابًا منها؛ ولذلك لم أكن أخرج من الفندق إلَّا حينما أقصد البحث عنهما.
ولكن لم أتنسَّم خبرًا يخفف عني وطأة البلوى، وهكذا مضت بي الأيام جزافًا إلى أن مللت الانتظار، فعزمت على الرجوع إلى منزلي وبعدهُ أشخص إلى إيطاليا علِّي ألتقي بها هناك.
وبينما أنا كذلك إذ ورد عليَّ كتاب ممهور باسم «مناويل سنيري» يُعلِمُني بقدومهِ وقت الظهيرة. فاستغربت زيارة شخص ليس لي به سابق معرفة، ولكنه أحيا بي بعض الأمل؛ إذ لا بدَّ من وجود علاقة لهُ مع بولينا. ولم يأتِ الوقت المعين حتى أتت صاحبة النُّزُل تعلمني بأن شخصًا يريد زيارتي، ثم ما عتم أن ظهر وراءها ذاك الرجل الحسن الوجه العريض الكتِفين الذي رافق بولينا وتيريزا خارج دير الكاثوليك في إيطاليا، فدخل وسلَّم ثم جلس بعد أن أمرَّ عليَّ نظرًا سريعًا، فترحبت بهِ دون إظهار أقل تعجُّب لزيارته الغير المنتظرة، فابتدرني بهذا الكلام: ربما علمت سبب قدومي.
– أرجو أن يكون كذلك.
– أأنت المستر فوكهان؟
– نعم.
– اعلم إذن أني أنا الطبيب مناويل سنيري، وقد أتيت من جينوى عندما بلغني أنك تطلب بولينا التي هي ابنة شقيقتي زوجةً لك.
– نعم، هذا غاية ما أروم.
وقد أخذني العجب بادعائهِ أنه خالها وتذكرت عدم اهتمامها بمقابلتهِ للمرة الأولى التي نظرتها.
– اعلم يا مستر فوكهان أنه يوجد أسباب جمَّة تمنعها من ذلك، إنما تشديد طلبك يسهِّل لديَّ المصاعب، فلنبحث الآن في هذا الأمر …
وكان يتكلم بإنكليزية واضحة ولسان طلق.
– لقد بلغني أنك مثرٍ وذو نسب شريف.
– يمكنك أن تتحقق ذلك.
– فأنت والحالة هذه قادر أن تجعلني على يقين من وفور ثروتك لأني باحتياج إلى ذلك، لا سيما وأن بولينا لا تملك شروى نقير.
فحنيت رأسي باسمًا، وأخرجت من جيبي قرطاسًا وكتبت لهُ تحويلًا على شركائي بأن ينقدوه قيمة ما بلغ من دخل أملاكي في نواحي بحيرات سكسونيا، ثم ناولتهُ إياه، وقد انحطت منزلتهُ لديَّ لما ظهر لي من قحتهِ، فأخذهُ بلهفة وأردف كلامه: لقد كانت بولينا ذات ثروة فقدِّر لها فقدانها.
– إنني لا أطمع منها بدراهم، وسيان عندي غنية كانت أم فقيرة.
– أحسنت، ولكن اعلم أن من كانت بولينا زوجته يشترط عليه أن يقبلها بالحالة التي هي فيها دون أن يطلب الاطِّلاع على عائلتها أو ما هي حياتها، بل يكتفي أن يراها شابة جميلة وأنهُ يحبها.
فاستغربت هذه الشروط حتى إني توقفت عن الجواب مع ما بي من الشوق للحصول عليها. ثم قال: والذي أقدر أن أفهمك إياه هو أنها طيبة القلب عفيفة النفس ولا تنتسب لعائلة أحط منزلة من عائلتك وعوائدها أشبه بالإنكليز من الإيتاليان؛ فبناء عليه يكون زواجكما غاية في المناسبة!
فصرخت بلهفة رافعًا يديَّ كمن يطلب صدقةً: مُنَّ عليَّ ببولينا فلا حاجة لي بسواها.
– إذن ما من مانع بأن تعتبرها من الآن وصاعدًا خطيبة لك … والآن يا مستر فوكهان سأُدهشك كثيرًا بطلبي هذا الأخير؛ فإنك تحب بولينا وأؤمل ألَّا يمضي عليها ردحٌ من الزمن حتى تبادلك هذه العاطفة، فبناءً عليه لا أرى مانعًا من الإسراع بالزفاف، فإني مجبَر على مبارحة إنكلترا بمدة وجيزة، ولا يمكنني إبقاؤها هنا وليس لها من رفيق سوى خادمتها.
فصرخت: إني أتمنى الزفاف في هذا النهار إذا لم يكن من ثَمَّ مانع.
– لا لزوم لهذه السرعة؛ فلنا فرصة يومين بعد.
فذهلت لهذه الكلمات حتى خيل لي أنه أحمق، وجعلت أنظر إليه كأني غير مصدق ذلك، ولكن أنَّى لي أن أرفض سعادة قد انتظرتها زمنًا طويلًا، والآن وافتني دون منازِع، فما يهمني أمره حاذقًا كان أو مختلًّا. فقلت: وما أدراك أن بولينا ترتضي بي؟
– إنها لأطوع لي من بناني، فلا تعصي لي أمرًا لا سيما والغاية آيلة لنجاح مستقبلها.
– ولكن كيف يتم ذلك بمدة وجيزة، فهلَّا تؤخر سفرك؟
– لا يمكنني ذلك أصلًا، ولكني أصحبها معي بعد أن أرجع لك المال، هذا إذا لم أكن على ثقة من أني أتركها بين يدي من يودها كنفسهِ.
فنهضت حينئذٍ قائلًا: هيا بنا نتوجه إليها فنرى ما يكون من أمرها.
وفي أثناءِ هذه المحادثة كنت جالسًا قرب النافذة، فحجب ظلي النور عن وجه الغريب الذي كان جالسًا أمامي ينظر إليَّ بإمعان وأنا غير منتبه لذلك.
ثم قال: أذكر أني رأيتك في وقت ومكان أجهلهما.
– لقد أبصرتني منذ ثلاثة أشهر في دير الكاثوليك في تورين.
فتظاهر أنه استفاق لهذه الذكرى مكتفيًا مئُونة التفكُّر، ثم رغب إليَّ في المسير فجاريته مسرورًا بعد أن تجرَّع كل منَّا كأسًا من الخمر. ولم نسِر طويلًا حتى وقف تجاه مسكن صغير، وقال: انتظر هنا قليلًا غير مأمور ريثما أدخل وأُعلم بولينا بقدومك.
فاندهشت لسرعة وصولنا وعجبت لجهلي مقرهما بينما هما على مقربة مني. فلبثت برهةً وإذا بتيريزا مقبلة نحوي وعيناها الصغيرتان تبرق إشارة الظَّفَر والانتصار ولسان حالها يطالبني بإنجاز الوعد، وقالت بعد أن طارحتني السلام: هل أحسنت في دوري؟
– جزاك الله عني خيرًا فلست أنسى صنيعك، ولسوف أنقدك المبلغ عاجلًا.
– أصغِ يا مستر فوكهان، فإن هذا آخر كلامي معك، إن الآنسة بولينا مارك ليست أهلًا للزواج.
أما أنا فلم أُعِرْها أذنًا صاغية، بل دنوت من الباب، فلما رأتني على تلك الحال مالت برأسها عني قائلة: إن الكلام لا يجدي معك نفعًا، فتكرم بالدخول الآن لأني إنما أتيت لأدعوك.
ثم اتجهت بي نحو غرفة رأيت فيها بولينا جالسةً وإلى جانبها خالها، فحينما شعرت بقدومي رفعت إليَّ نظرها باسمةً، ثم نهضت على قدميها، فأسرع الطبيب وأخذني بيدي وقدمني إلى ابنة شقيقته قائلًا: هل سبقت لك معرفة يا بولينا بالمستر فوكهان؟
– نعم.
– هو يرغب في الاقتران منك فهل تجيبي طلبه؟
– نعم إذا أراد ذلك.
أجابت بصوت رخيم دون ارتباك أو خجل. فسكرت بخمرة الفرح وصرخت بلهفة: بولينا أنت سؤلي وغايتي من الحياة، فبك رجائي وعليك قد علقت آمالي، فهل يمكنني أن أرفض سبب سعادتي؟
ولم آتِ على آخر كلامي حتى سحبت يدها من يدي وفرَّت من الغرفة بخفة الظبي.
فقال سنيري: أرجوك يا مستر فوكهان أن تدعني مع بولينا نهتم بمعدات الزواج ريثما يكون غدًا كل شيءٍ معدًّا فيمكنك أن تزورنا.
فودعته دون أن أرى بولينا، وذهبت واجف القلب قلق البال تتنازعني الأسرار من كل الجهات، فما كنت لأفقه كلمات تيريزا، ولا أدري مراد الطبيب بهذه السرعة. وممَّا زاد في قلقي وارتباكي جمود بولينا وذهولها، ولكن مهما كانت النتيجة فلا يمكنني الانفصال عمَّن كلفت بها، حتى إني صرت أرغب بالحياة لأجلها، وقلت: لا بد أن المستقبل يغير الأحوال، ومتى تأكدت خلوصي لها واعتنائي الشديد بها لا تكتمني أمرًا يتعلق بماضي حياتها. وإذ ذاك أفقأ بعينيْ خالها حصرمًا، وأكتفي مئُونة التعب بنفي أقوال تيريزا.
وفي اليوم الثاني زرت بولينا وحدثتها في مواضيع شتى، فكانت كعادتها هادئة تقتصر على كلمة لا ونعم، وأحيانًا ينجدها الطبيب — الذي كان مرافقًا لنا كالظل — بكلمات ينهي بها الحديث دون أن يدع لها مجالًا للتكلُّم. وعند الساعة العاشرة من صباح اليوم الثالث كانت بولينا واقفة إلى جانبي مرتدية أثوابًا حريرية بيضاء أشبه منها بالملائكة، وقد طوَّق رأسها البديع إكليل من الزنبق يشابه جبينها الوضاح، فما كنت لأصدق وأنا بذلك الموقف أن الفتاة التي كنت يائسًا من لقائها منذ ثلاثة أيام هي الآن موثقة معي بعهود لا يحلها إلَّا الموت.