أجوبة غير مقنعة
أتيت جينوى آمل أن أحظى بالطبيب سنيري دون مشقة؛ لأنه من شأن الأطباء إذاعة أسمائهم ومحلات سكنهم لرواج بضاعتهم، ولكن ساء ما توهمت؛ فإني قضيت أسبوعًا بالتفتيش عن سنيري ولم أقف له على أثر. وأخيرًا تيقنت أنه إما أن يكون قد أخبرني بغير اسمه الحقيقي، أو أن جينوى لم تكن وطنه كما زعم، ولكن كيف كان الحال فقد آليت على نفسي ألَّا أنفك عن التفتيش عنه حتى أجده ولو بذلت في ذلك ما عزَّ وهان.
وفي صباح اليوم الثاني بينما كنت أتجوَّل في شوارع المدينة إذ لمحت عن بُعد رجلًا ظهر لي أني أعرفه قبلًا، فدنوت منه، وبعد إمعان النظر فيه ألفيته نفس الشاب الذي كاد يتخاصم مع رفيقي إدوار بإيطاليا، فقلت في نفسي: أبشر يا جلبرت فقد فزت بالمرام؛ فإن هذا الشاب يطلعك على ما تريد معرفتهُ، لأنهُ لا بدَّ أن يكون من أصدقاء الطبيب، وحينئذٍ دنوت منه وحييتهُ بالإنكليزية، فردَّ تحيتي بأحسن منها، فبادرتهُ بالكلام قائلًا: هل لك يا سيدي أن تجيبني على سؤال أعرضه عليك؟
– قل ما تشاء فإني مستعد أن أقدم لك ما يمكنِّي من الخدم.
– أطلب منك أن ترشدني إلى محل الطبيب مانويل سنيري.
ولم آتِ على هذه الكلمة حتى اضطرب وتغيَّرت ملامحه، ولكنه عاد فتغلب على اضطرابه بالحال، وأجاب بسكينة: إنني لا أعرف رجلًا بهذا الاسم. وتركني وانصرف، فتبعته وأوقفته قائلًا: كيف لا تعرفه وأنت أحد أصدقائه؟!
– قلت لك إني لست أعرف رجلًا يدعى سنيري فاقتصِر.
– لا خوف عليك يا سيدي من الإقرار بكونك صديقه، ولقد شاهدتك برفقته.
– أين؟
– في تورين قرب دير الكاثوليك.
فحملق بي برهة، ثم قال: الآن تذكرت أنني رأيتك هناك صحبة شخص آخر، وقد أهنتما بالكلام إحدى السيدات فرمت المدافعة عنها.
– إننا لم نقصد إهانتها يا سيدي، فأرجوك أن تتناسى ذلك، لا سيما وأن لأجل هذه الفتاة أسألك عن محل سنيري خالها.
فأجاب مندهشًا: وكيف عرفت بأنه خالها؟
– هو قال لي ذلك.
– إذن ينبغي قبل كل شيءٍ أن نلتجئ إلى مكان منفرد؛ فإن الحديث ذو شأن.
– هلمَّ معي إلى النُّزُل حيث أنا مقيم.
قلت ذلك وأخذت بذراعهِ حتى أتينا غرفتي، فقلت له: تكلم الآن فإننا بمأمن من إفشاء سرنا.
– هل يمكنِّي معرفة من أتشرَّف بمخاطبتهِ؟
– جلبرت فوكهان.
– أرجوك يا مستر فوكهان أن تفيدني أولًا عن الأسباب التي تلجئك للبحث عن سنيري.
– لا يمكنني أن أقول لك ذلك، فعذرًا.
– ولكن كيف تأتَّى لك المعرفة بابنة شقيقتهِ؟
– عمن تعني؟ أعن زوجتي؟
– وهل بولينا زوجتك؟
– نعم.
فنظر إليَّ وقد جحظت مقلتاه وامتقع وجههُ وارتجفت أعضاؤهُ، وقال: أبدًا. أبدًا. لا يمكن أن يكون ذلك فأنت كاذب. فكدت أتميز من الغيظ وانتصبت واقفًا وقلت له بصوت جهوري: أقصر يا هذا واعتذر بالحال عمَّا ألحقت بي من الإهانة أو أطردك خارجًا.
أما هو فأدرك خطأهُ وحوَّل بوجهه عني قائلًا: أرجو عفوًا، فقد فهت بذلك دون تروٍّ، ولكن هل علم الطبيب بزواجكما؟
– كيف لا وقد تمَّ القران بحضرتهِ.
فجعل يتمشى في الغرفة بخطوات متسعة، ويتمتم بكلمات لم أفهم منها سوى: «لقد خُدِعْت.» ثم تمالك روعه، وأجاب بلهجة الساخر: إني أتمنى لك التوفيق بحصولك على رفيقة جميلة فما الذي تبتغيه الآن من سنيري؟
– شيئًا مهمًّا.
فبرقت أسِرَّته وكشر عن أنياب المكر والدهاء، وقال: ربما أهميتهُ تعود عليك بالانفصال عن عروسك. فاغتظت من كلامه، وقد ظهر لي أنه عالم بحال بولينا، ولكني لجأت إلى ملاطفته بغية الاطلاع على كنه المسألة، فقلت: أرجوك الآن أن ترشدني إلى محل سنيري ولك الفضل.
– هو الآن متغيب عن البلدة، وسيقدمها بعد أسبوع، وحينئذٍ أُعلمه بقدومك.
إذا كنت تودُّ الاجتماع بي فدونك عربة تجدها على باب الفندق عند الساعة السابعة فتقلُّك إلى حيث أنا مقيم.
وعند الساعة السابعة تمامًا كانت العربة بانتظاري، فسارت بي إلى منزل صغير خارج المدينة، فترجلت وقرعت الباب، وإذا بالطبيب قد انتصب أمامي، وبعد أن تبادلنا التحية أدخلني إلى حجرة صغيرة فيها من الأثاث كرسيان قديمان ومنضدة عليها بعض الأوراق، فجلسنا ثم افتتح سنيري الحديث بقوله: بلغني أنك أتيت جينوى للبحث عني.
– نعم، فإني أرغب إليك ببعض أسئلة تهم بولينا.
– وإني مستعد لإجابة سؤلك قدر إمكاني.
– لِمَ لمْ تجعلني على بصيرة من طباع بولينا قبل أن أقترن بها؟
– لأنك رأيتها وحدثتها مرارًا، فكنت خليقًا والحالة هذه أن تختبرها بنفسك.
– لقد أغريتني يا مستر سنيري، وكان الأجدر بك أن تطلعني على الحقيقة وتنجو من سهام الملام.
– ولكن لم يمكنِّي ذلك لأسباب تتعلق بي.
– وما هي تلك الأسباب؟
– هي من جملة الأسئلة التي لا أقدر أن أجيبك عليها.
– إذن كان من الواجب ألَّا تدعني أقترن بها بينا أنك عاجز عن إظهار أمرها.
– لقد كانت حملًا ثقيلًا على عاتقي فأردت الخلاص منه، ولذلك لم يمكنِّي أن أخيب طلبك.
– ولكنك لم تخشَ عاقبة خداعك لرجل ربما أفضى به الأمر إلى ما لا تُحمد عقباه، وذلك عندما يتبين لديه أن المرأة التي اقترن بها فاقدة الرشد.
– قد ظننت أنها لا تلبث طويلًا حتى تعود إلى ما كانت عليه من قوَّة الإدراك.
– إذن هي لم تكن كذلك منذ ولادتها؟
– لا، وإنما طرأ عليها حزن فجائي أورثها مرضًا شديدًا كانت عاقبته البله.
– ما هو سبب حزنها؟
– لا أقدر أن أقولهُ.
– ولكن لي الحق أن أسأل.
– ولي الحق أيضًا أن لا أجيب.
– أوضِح لي على الأقل أمر عائلتها.
– هي وحيدة وما من أحد ينسب إليها سواي.
– وذاك الإيتالياني صديقك، أي علاقة له مع بولينا فإني ما ذكرت اسمها لديه حتى تغيرت ملامحه واعتراه اضطراب شديد؟
فتبسم هازًّا كتفيه، وقال: أتعني بقولك ماكيري؟ فاعلم أنه منذ سنة أو اثنتين، أي قبل أن تفقد بولينا الإدراك، كان هذا الفتى يتزلف إليها طمعًا بالاقتران بها، فسبقهُ إليها المرض، وهكذا لبث بانتظار الشفاء.
فقاطعتهُ قائلًا: ولمَ لم تنتظر أنت أيضًا شفاءها فتزفها إليه؟
– يظهر أنك ندمت على هذا الارتباط يا مستر فوكهان.
– لا، طالما لي أمل بشفائها، ولو بعد حين … ولكني أقول لك يا مستر سنيري إنك خدعتني ظلمًا.
ثم نهضت قاصدًا الانصراف، وأنا لا أعي من شدة الغيظ لأنني لم أقصد جينوى ولا تحملت مشاق السفر ومرَّ الانتظار إلَّا لأستنير بأخبار تعود بالنفع على تلك المسكينة، فما ازددت إلَّا غموضًا، ولست بعائد إلى لندره إلَّا كما زايلتها. غير أن كلماتي الأخيرة أثرت بسنيري فلطفت نظراته الوحشية، وقال باسمًا: لا تسرع بالحكم عليَّ كمذنب وأنت لا تعلم الأسباب التي تلجئني لأن أكون كذلك. فاعلم يا عزيزي أن بولينا قد ورثت من والديها مبلغًا وافرًا لا تقل قيمته عن ستمئة ألف ليره، وإذ ذاك كنت مثقلًا بالديون بل على شفير السقوط في وهدة الذل والفاقة، فاقترضت قِسمًا عظيمًا من أموالها التي كنت حرَّ التصرف بها حيث إني كنت وليَّها، ثم أنفقت ما بقي من المال جزافًا وبذرته إسرافًا إلى أن نفد الكل، فلما تحققت الفتاة أنها أصبحت صفر اليدين استولى عليها حزن عظيم أفضى بها إلى مرض شديد عقبه الجنون.
– وهل حلل لك ضميرك التصرف بمال يتيمة وحيدة؟ أولم تدرِ بأن هذه جناية؟
– جناية أو جريمة، فإني لا أعبأُ بذلك، إن المال قد وُجِدَ للاستعمال وقضاء الحاجات، فكيف يمكنِّي أن أذل نفسي وأكون محتقرًا لدى مدائنيَّ بينا أنا قادرٌ أن أدرأَ عني العار والمالُ في قبضة يديَّ.
– وهل ظننت أن اهتمامك بزواجها يعوِّض عنها ما جلبْتَ عليها من الوبال؟
فأجاب بصوت منخفض: لقد أجبرت على مفارقتها وليس لي أمل أن أراها بعدُ فقد قضي عليَّ أن أنهي حياتي بعيدًا عن الوطن.
فقلت متهكمًا: أتعني بأنك مندوب لارتكاب جريمة أخرى؟
– لم أعنِ إلَّا ما قلته، فأودعك الآن الوداع الأخير.
قال ذلك وقدم لي يده التي لم يسعني رفضها، وأردف قائلًا: ربما أكاتبك بعد سنة أو أكثر، وعندئذٍ تخبرني شيئًا عن أحوال بولينا، وإذا لم أفعل فلا تحمل نفسك أتعاب البحث عني.
وبعد ذلك شيعني إلى الباب حيث كانت العربة لم تزل بانتظاري، فسار كلٌّ منا في طريق، ولم أسِر طويلًا حتى تعرض لي في الطريق الرجلُ الذي دعاهُ الطبيب «ماكيري»، فأشرت إلى السائق بالوقوف، وللحال صعد فجلس بجانبي، ثم قال: أرأيت الطبيب يا مستر فوكهان؟
– نعم فإني إنما الآن آتٍ من عنده.
– أرجو أن يكون كشف لك النقاب عما أتيت بصدده.
– بعض الكشف.
فقال ساخرًا: إذن لم يطلعك على كل شيءٍ. فتميزت من شدة الغيظ، ولكني لزمت الصمت. فأتمَّ حديثهُ قائلًا: أظنك لو سألتني لأفدتك أكثر منه.
– لقد طلبت إليه أن يفهمني الأسباب التي جلبت إلى قرينتي داء لا أشك بأنك عالم به، فإذا كان كذلك أرجوك بأن تفهمني الحقيقة.
– ولكن ماذا أجاب سنيري بهذا الشأن؟
– قال إنه نتيجة حزن استحوذ عليها فجأة، فهل من سبب يلجئك أنت أيضًا إلى الكتمان مثلهُ، وإن صحَّ ذلك فما هو السبب يا ترى حتى إنك لا تفتدي به حياة شخصين وسعادتهما.
– سأفعل، ولكني … أخاف.
– ممن؟
– من أنك تفتك بصديقي متى أحطت علمًا بأفعاله المنكرة.
– ولكني أعدك بل أحلف لك بكل ما هو عزيز ومقدس لديَّ ألَّا أتناولهُ بأذًى.
– ألست عازمًا على الرجوع إلى إنكلتره.
– بلى، في أقرب آن.
– فتكرَّمْ عليَّ بنمرة محلك، فإما أن أكاتبك أو أذهب إليك بنفسي.
فلبيت طلبه، وفي أقل من طرفة عين كان منتصبًا خارج العربة يرمقني بعينين تتقدان خبثًا ودهاءً، وقال: سوف تجني ثمرة اهتمامك بمعرفة ماضي حياة بولينتك الجميلة. فكانت كلماته كسهم سمعت له رنة في قلبي، وأوشكت أن ألقي بنفسي من العربة وأضغط بيدي على عنقه ولا أدعهُ يتملص منها حتى يوضح لي عبارته الأخيرة، ولكني عدت فتجلدت إذ لا ينفع الغضب في مثل ذلك الحين.