ادعاءٌ نسبيٌّ
عدت إلى لندره وقلبي يحدثني بأن ربما تغيبي تلك المدة يكون قد محا رسمي من ذاكرة بولينا، ولكن لم تتحقق أوهامي؛ فإنها قد تذكرتني حالًا ورحبت بي وكانت مسرورة جدًّا بقدومي، فآه كم كنت سعيدًا لو أنها صحيحة العقل كاملة الشعور.
فمضى علينا بعد رجوعي عدة شهور دون أن يحدث شيءٌ مهم، وفي خلال ذلك استدعيت أمهر الأطباء في إنكلتره لمعالجتها، فأجمع رأيهم على الأمل بشفائها قريبًا لا سيما إذا عُرف سبب اختلالها، فكان ذلك ممَّا يزيدني حسرة لمرأى ماكيري أو كتابًا منه. وهكذا ذهبت بي الأيام وأنا أتقلب على جمر الانتظار مترقبًا هذا الرجاء الأخير.
وكنت أصرف معظم أوقاتي في منزلي في شارع ويل بول لا أنيس لي ولا سمير سوى بولينتي المحبوبة، فألبث ناظرًا إلى محياها الجميل كمن ينظر إلى تمثال منحوت أو رسم متقن، وإذ ذاك يستولي عليَّ الغم والحزن فألهي نفسي بقراءة بعض الكتب التي كانت سلوتي الوحيدة في تلك الشدة، وكان يعزُّ عليَّ جدًّا الحضور في المجتمعات وانتياب مجالس الأنس دون بولينا؛ لأنها لم تكن تُسرُّ بذلك، بل كان يستحوذ عليها اضطراب شديد لدى استماعها عزف الموسيقى حتى يكاد يغمى عليها؛ ولذلك كنت أتجنب حتى في البيت ممارسة بعض الألحان على البيانو مع أني كنت شديد الولوع بها.
وكأني بها أحيانًا تشعر بعنايتي الشديدة بها فتبتسم كأنها تريد أن تشكرني، وهمت مرتين أو أكثر بأن تقبل يدي، وبالجملة كانت كطفل صغير يتعلم رويدًا كيف يحب أباه.
وفي أحد الأيام بينا أنا منفرد في غرفتي دخل عليَّ أحد الخدم معلنًا قدوم شخص من جينوى، فعلمت أنه ماكيري السيئ الأدب، وكدت أرفض مواجهته متذكرًا ما ألحق بي من الإهانة والاحتقار فيما مضى، ولكنني عدت فافتكرت بأنه ربما يطلعني على سبب مرض مليكة فؤادي، أو علَّ مجالستهُ إياها تنبه في ذاكرتها شيئًا من سالف حياتها أو تذكرها بحوادث مرت عليها.
فتوجهت نحو ردهة الاستقبال حيث تبادلنا التحية، فبادرني بالكلام قائلًا: أرأيت كيف لم أنكث بوعدي؟
– إني على ثقة من صدق كلامك. فهل لك مدة طويلة في لندره؟
– بضعة أيام.
– وهل تطيل الإقامة فيها؟
– ريثما تستدعيني الظروف لمبارحتها.
– فنظرتُ إليه بإمعان عَلِّي أستطلع خفايا نواياه.
فقال ضاحكًا: أظنك حزرت الخطة التي أنا سائر عليها.
– يتبين لي أنك رجل سياسي وكثير الفتن.
– نعم سياسي كثير الفتن، وإن شئت فقل رسول الحرية.
– ولكن الحرية قد نشرت على بلادك لواء الغبطة والهناء منذ أزمان.
– أجل، ولكن بلدانًا أُخر تحتاج لما ذكرت، وقد بذل صديقي المسكين سنيري جهده في هذا الأمر وكاد ينجح لو لم تمنعه أشغال يومه الأخير.
– وهل مات؟
– كلا، ولكن بعد أن فارقته في جينوى بمدة وجيزة ألقي القبض عليه ثم حوكم في بطرسبورج، وسيقاد إلى سبيريا حيث يقضي اثنتين وعشرين سنة بالأشغال الشاقة.
– أوهربت أنت إذن؟
– بدون ريب، وإلَّا كيف أتيح لي الوجود في هذا المكان أتلذذ بتبغك الجيد وخمرك المعتَّق … آه إنه لا يمكنني التفكر بحالة سنيري المسكين إلا ويعتريني اضطراب شديد، وذلك لأني لاحق به لا محالة، والآن ائذن لي يا مستر فوكهان بالخوض معك في حديث ذي شأن ربما أفضى بك إلى الاندهاش.
– قل، فكلي آذان لاستماعك.
– إن قبل الشروع به أسألك ماذا قال لك سنيري عني؟
– لم يقل لي سوى اسمك.
– ولكنه لم يذكر لك اسمي الحقيقي.
– وهل تدعى بغير ماكيري؟
– إنني أعرف بين الناس بأسماء جمة، ولكن اسمي الحقيقي هو أنتونيس مارك شقيق بولينا زوجتك.
فذهلت متحيرًا لهذا الخبر الجديد ولم أصدقه البتة، ولكني لزمت الصمت لأسمع تتمة الحديث علِّي أستوضح قصده بذلك، ثم قال: أعلمت يا مستر فوكهان كيف تصرف خالي سنيري بالأموال التي تركها والداي لي ولبولينا؟
– إنه كما أعلمني كان قد استخدم قسمًا منها لوفاء ديونه و…
– وأنا أخبرك كيف ذهب بالقسم الآخر.
فتنبهت أفكاري وشخصت به مستبشرًا بكشف الغوامض، أما هو فتمم حديثه قائلًا: لقد أنفقه في سبيل منفعة إيطاليا، وإني لا ألومه قط لتورُّطه في هذه الأعمال، بل بالعكس أُجِلُّ مقاصده وأعتبرها مع أن هذه الأعمال نفسها هي التي أوصلتني إلى حضيض الفقر.
– إذن دعنا من ذلك.
– ولكني باحتياج شديد لمساعدتك في هذا الشأن، فإن دولة عمانوئيل قد تشيدت واستتب لهُ الأمر ودانت لهُ البلاد رغمًا عن كثرة أضداده، فإذا شددت أزري وأخذت بناصري لعرض الدعوى على الملك فلا شك أنه يعوِّض علينا بعض ما بذلناه من الخسائر حبًّا بالوطن، وإنه لا يبعد أن يكون لك أصدقاء في إنكلتره قادرين على استمالة قلب الملك، كما وإن لي أيضًا بعض الأصحاب في إيطاليا لهم علاقة مع أحد الوزراء فنطلب مساعدتهم، ولا يغرب عن فهمك أن بعملك هذا تسترد ثروة زوجتك أيضًا.
– ولكني لست باحتياج إلى دراهم.
فأجاب مقهقهًا: وأما أنا فإني خالي الوفاض، أو كما يقال أفلس من أبي طنبورة، وقد جعلت اتكالي عليك، فإذا لم أفُز بمرغوبي لا أظنك تبخل عليَّ بدريهمات قليلة … والآن هل يمكنني مشاهدة بولينا؟
– نعم، سأدعوها إليك.
– وهل هي أحسن حالًا يا مستر فوكهان؟
فأملت رأسي بهيئة محزنة.
فقال: مسكينة، مسكينة. أظنها لا تعرفني الآن لأني فارقتها حينما كنت في الثامنة عشرة ولم أرها منذ ذلك الحين.
وعند ذلك طرقت ذهني كلمات الطبيب التي تنافي زعم ماكيري، فقلت في نفسي: لا بد أن يكون أحدهما قد خدعني، ولكني أرجح الآخر إذ اتضحت لديَّ غايتهُ من ذلك، ولكن ساء وهمك أيها الإيتالياني فحيلتك لم تنطلِ عليَّ. فقلت له: يا مستر ماكيري …
– عفوًا، فاسمي مارك.
– أجل فيا مستر مارك ألا يمكنني أن أعرف ما هي الأسباب التي جلبت على زوجتي هذا الداء.
فأطرق إلى الأرض برهة متظاهرًا بالكآبة، ثم قال: سأُخبرك في وقت آخر، ثم قطع حديثنا دخولُ بولينا فنهض ماكيري وتقدم نحوها قائلًا: هلَّا تذكريني يا بولينا؟ فرمقته بنظرة طويلة حادة ولم تجب، وكأني بها قد اندهشت لهذه المفاجأة، ثم أمالت رأسها عنه وكانت كمرتابة في أمرها. ثم قال لها: لقد طال زمنٌ لم أركِ فيه يا بولينا، ولكنه غير كافٍ لأن ينسيكِ إياي. فصوَّبت نظرها الحاد نحو وجههِ بهيئة مزعجة، ولكنها لم تُبدِ إشارة تدل بأن لها سابق معرفة به.
فقلت لها: ألا تعلمين من هو يا عزيزتي؟ فأمرَّت يدها على جبهتها بعد أن خفضت رأسها، ثم تمتمت هاتين الكلمتين بالإيتاليانية: لا تذكِّرني.
وقد لحظت بأنها تود الفرار منه عندما قبض على يدها للسلام، ولكنها ما لبثت برهة حائرة حتى رمت بنفسها على كرسي وهي تصعد الزفرات.
هذا ولم ترفع عنه نظرها أثناء زيارته، بل كانت شاخصة بوجههِ لا تملُّ من مراقبة كل حركة يأتيها. فتفاءلت بالخير لهذا التأثير الذي ظهر عليها، وأدركتُ بأن هذا الرجل الذي لا أعلم إن كان عدوِّي أم صديقي هو الشخص الوحيد الذي يقدر أن ينشلني من وهدة التعاسة، ولذلك بالغت في إكرامه والتمست منه مواصلتي بزياراته كلما سنحت له الفرصة.
وبعد أن ذهب رأيت بولينا تتحرك في كرسيها مضطربة وهي تمرُّ يدها على جبهتها حينًا بعد حين كأنها تطلب تفسير أمرٍ أشكل عليها، وأحيانًا تقترب من النافذة فتلقي نظرات غير مستقرة على إحدى الجهات ثم تعود فتلتفت نحوي بهيئة مستغربة تغاير حالتها العادية. أما أنا فتظاهرت بعدم اهتمامي بتلك الحركات التي أكدت لي أن رسم الماضي سيعود لذاكرتها شيئًا فشيئًا.
وهكذا انتظرت ماكيري في اليوم الثاني علَّها إذا أكثرت من النظر إليه يرجع إلى ذهنها ما تجهد نفسها الآن لمعرفته. أما هو فلم ينكث بوعده بل وافاني في الوقت المعين — لا سيما وأنه باحتياج إليَّ — فكان دأبهُ بعد ذلك التقرب مني والمبالغة باعتباري، وبالجملة فإنه أجاد تمثيل دورهِ بمهارة وحذق.
ثم زارنا بعد ذلك مرارًا، وفي كل مرة كنت أتبين في هيئة بولينا تأثيرًا يزداد يومًا فيومًا، فكانت في أثناء زياراته تلازم الغرفة التي يجلس فيها دون أن تفوه بكلمة، وكأني بها تزداد حزنًا لدى مرآه، وبالعكس وقت ذهابه فإني كثيرًا ما عاينتها تتنهد واضعة يدها على صدرها كأن حملًا ثقيلًا قد تزحزح عنه، فينفطر قلبي أسفًا عندما أراها على تلك الحال، وأنا غير قادرٍ على كشف همها وتفريج كربها، وكنا ذات يوم جالسين في الحديقة عند الغروب أنا وماكيري، وبولينا على عادتها شاخصةٌ بالزائر وهو يقص علينا أهم ما حدث لهُ في المواقع الحربية. فمن قوله أنه أشرف يومًا على الموت إذ طعنه أحد الأعداء بمدية أصابت يمناه فقطعتها، قال ذلك وأخرج يده المقطوعة من كمه وأرانا إياها، ثم تناول خنجرًا صغيرًا من جيبه وحركه في الفضاء وأردف قائلًا: وهكذا استللت سيفي باليسار وصوبته نحو خصمي وضربته فيه ضربة واحدة أرديته على الأرض قتيلًا. ولم يأتِ على هذه العبارة حتى سمعت أنَّةً عميقة بجانبي وصوت وقوع جسم على الأرض، فالتفت وإذا ببولينا مطروحة قربي وعيناها مطبقتان ولا حركة بها تدل على الحياة. فأسرعت وحملتها إلى غرفتها ثم عدت إلى ماكيري مستأذنًا بمفارقته، فقال: عسى ألَّا يكون بها ما يخشى عاقبته.
– لا، ولكن قد حصل لها إغماءٌ بسيط، ربما كان نتيجة إشارتك التي أرهبتها.
قلت ذلك وأسرعت بالرجوع إلى غرفة زوجتي، فإذا هي لم تزل على حالها ممدَّدة بلا حراك، صفراء كالموتى. فنضحت وجهها بالماء، وأنشقتها بعض المنعشات ولكن بدون جدوى، فلبثت على هذه الحال نحو ساعتين كنت بأثنائها جاثيًا بجانبها أقبِّل يديها ساكبًا عليهما الدموع وقلبي ينفطر حزنًا لهذا المشهد المؤثر، وأوشكت أن أيأس من سلامتها لو لم أضع أصابعي على معصمها، فأشعر بضربات خفيفة تؤذِن بحياتها، ثم قربت وجهي من وجهها فحسست بأنفاسها الهادئة تمرُّ على خدي كأنها تبشرني بسرعة عودها إلى الوجود. ثم طرق ذهني فكر أحيا بي بعض الأمل برجوع شعورها بغتة إذ لا يبعد أن الحادثة التي سببت لها هذا الإغماء قد نبهت في ذاكرتها أمرًا كان لديها منسيًّا، فلعل هذا التَّذكار يجعل فيها تأثيرًا حسنًا.
وبينما أنا كذلك إذ تحركت وفتحت عينيها ثم نظرت إليَّ. ولا يمكنِّي أن أصف خفقان قلبي عندما عاينت في نظرتها نورًا لم أرَه قبلًا.